أصول الحجاج عند اليونان (البلاغة القديمة)
أصول الحجاج عند اليونان (البلاغة القديمة)
1- المنظور البلاغي التقليدي للحجاج
البلاغة القديمة حسب عبد الله صولة هي بلاغة أرسطو (أو خطابة أرسطو) من ناحية، والبلاغة الأوربية السائدة في القرن التاسع عشر وما قبله من ناحية أخرى.
يقوم مفهوم البلاغة في المنظور اليوناني على بلاغة الحجاج، وبلاغة الشعر، يدل الأول على الخطاب الذي يستهدف إقناع السامعين، أو تغيير الأحوال، والمقامات، ويدل الثاني على الخطاب الذي يتنصل من مهمة الإقناع ليصبح في حد ذاته هدفا وغاية. وسنعرض مراحل تطور البلاغة اليونانية.
2-الحجاج عند أفلاطون:
تجلت الممارسة البلاغية في عصره في محاورته مع السفسطائيين، محاولا التمييز بين القول الفلسفي، والقول السفسطائي؛ حيث كان الصراع بينهما حول القول بنائه ووظائفه، ومشغل البلاغة والبلاغيين عنده الحجاج، وهو عنده أخلاقي مثالي يقدم الحقيقة، ويجعلها المنهج والهدف في الأقاويل الحجاجية، وقد أسس لمنهجه خلال محاورته للسفسطائيين، ومحاربة أقوالهم القائمة على الظنّ ، والمراوغة والتزييف في مقابل اليقين والحقيقة، بذل أفلاطون أوفر جهد في محاوراته مع السفسطائين، محاولا التمييز بين القول الفلسفي، والقول السفسطائي «فقد ثارت بأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، مطاردة شرسة بين الفيلسوف، والسفسطائي، حيث كان الصراع بينهما حول القول، بنائه، ووظائفه»،وهو مشغل البلاغة، والبلاغيين، رغم ذلك قد تميز السفسطائيون بالكفاءة اللغوية البلاغية، وبالخبرة الجدلية، وقد أسهموا في تطوير البلاغة والفكر اليونانيين، من خلال عقدهم لنقاشات فكرية، استعملوا فيها اللغة، ووظفوا الأساليب الحجاجية بغرض الإقناع، وقد اشتهروا بمنازلاتهم لأفلاطون وأرسطو، هذه المحاورات أفرزت أوليات الطروحات الحجاجية من خلال: أولا مقارعة الحجة بالحجة في المسائل الفلسفية خاصة، أي في الاختلافات بين الفكرين، ثانيا في تصور التقنيات الحجاجية والتأسيس لها، فقد اشتهر السفسطائيون بامتلاك ناصية التقنيات الحجاجية؛ بل وصلوا إلى درجة تعليمها للأعيان بأثمان باهظة، وهذا ما دفع أفلاطون للقيام والتصدي لهم.
لذلك يمكن تصور الفكر الحجاجي لأفلاطون في المحاورات التي أقامها مع السفسطائيين، الذين توصلوا إلى الحيل الخطابية، والألاعيب القولية، فمهروا في إبداع التقنيات اللغوية المفيدة في كسب تأييد الجمهور، حتى أقنعوا صفوته آنذاك بتعلّم هذه الأساليب «فالمدينة، وكذا المدنيّة إنما تؤسسان في نظرهم، اعتمادا على بلاغة القول، وأهل القول، وليست على أعمال أهل الصناع، والحرف» لهذا السبب ازدهرت الخطابة والتأسيس لأساليبها، والبحث المركز في أساليب البلاغة بشكل أهم من جهود السفسطائيين ومحاوراتهم، غير أنّ النزال بينهم وبين رواد النزعة العقلانية في الفلسفة اليونانية، أثّر على شعبيتهم حتى اقترن اسمهم بالنقاش الفارغ، وغير المجدي، فبدأت أركانهم الفكرية تتضعضع، ويتراجع نفوذها الاجتماعي والسياسي.
بعد وفاة أفلاطون (348ق.م) ألف تلميذه أرسطو دروسا، تخطى فيها آراء أستاذه التي تعادي البلاغة والخطابة، غير أنه استمر على نهجه في الرد على السفسطائيين، ليصل إلى نظرته الحجاجية الخاصة، والتي تأسست عليها النظريات الحديثة.
3- الحجاج عند أرسطو:
رؤية أرسطو للحجاج تجعله مكونا من عاملين مهمين هما الخطابة والجدل؛ الخطابة هي قوة أو ملكة، نستطيع أن نكتشف بها على وجه نظري تأملي ما يمكن أن يكون شأنه الإقناعي كل حالة على حدة؛ فالوظيفة الإقناعية هي أساس الخطابة، ومن شأنها الكشف عن الوسائل التي تحمل المتلقين على الإذعان.
أما الجدل فيعرفه أرسطو أنه: علم من المقدمات الصادقة، والضرورية، وينطلق من مقدمات مشهورة، ومحتملة، ليعتمد الحجاج فيه على مرتكزات عقلية.
ويعتمد في الخطابة على مرتكزات عاطفية، فهما قوتان تعملان لتحقيق غرض الحجاج والإقناع، ليكون الحجاج عنده حجاج جدلي، وآخر خطابي، هدفهما معا التواصل مع الآخر بغرض إقناعه.
وقد حاول أرسطو إزالة المعاني القدحية التي كانت تنسب للبلاغة في عصر أفلاطون، فرفض الأساليب السفسطائية، كما رفض المثالية المفرطة لأستاذه، فدعا إلى بلاغة شاملة، لكل أطراف العملية التواصلية، وعناصر القول لبناء الخطابة عنده هي:
4-عناصر القول وبناء الخطابة عند أرسطو:
1-وسائل القول أو البراهين: تتمثل في:
1- أخلاق القائل.الايتوس؛ حجج الباث: الإيتوس متعلق بشخصية الخطيب، وأخلاقه، وصورته عن نفسه؛ إذ يحاول أن يكون متأهبا لكل المقامات، حتى يظهر كفاءته وصدقه للجمهور، وأن يكون في موضع قبول عاطفي لدى المتلقي لحظة بثّ الخطاب وتلقيه، وأن يتصف بصفات معينة حتى يقبل رأيه، ويقنع جمهوره. من تلك الصفات: السداد، الفضيلة، والبرّ، وهذه الملامح الثلاثة المكثفة هي أساس الإقناع المسند إلى الجوانب الأخلاقية للخطيب.
2- الباتوس؛ حجج المتلقي: ويهتم بحالة المستمع أو الجمهور؛ وهو انفعال المقول له، بما يتلقى؛ أي هو انفعالات تنتج بعد تلقي الخطابة (رحمة، كراهية، خوف، ثقة، حب، استهتار، وإحسان...)، كل جنس خطابي يتناسب مع جنس أو اثنين من النوازع السابقة؛ ففي الجنس القضائي مثلا ينزع الخطيب إلى إثارة الغضب على الجاني، والشفقة على الضحية.
3- اللوغوس حجج الخطاب: ويشير إلى القول نفسه من حيث قدرته على الإثبات والإقناع، يرتبط بالقدرة الخطابية على الاستدلال والبناء الحجاجي.
2-ترتيب أجزاء القول: وهي فن لتنظيم الحجج وفق تصور الخطيب، لكمّ وكيف الحجج، وطريقة ترتيبها؛ بحيث تصل إلى الجمهور، وتحقق فيه فعل الإذعان؛ فترتب وتوضع كل واحدة في المكان المناسب لها، فيزيدها ذلك قوة، ويمكّن في ذهن المخاطب، يبدأ الخطيب بالمطلع أو المقدمة (exorde) يحاول استمالة الأعناق، وجلب ودّ السامعين، ثم يلج في الخبر (narration)، يتحدث فيه عن الوقائع (التاريخ، الخرافة...) يشترط فيه الإيجاز، والوضوح، والقدرة على الاستمالة، ليصل إلى الخاتمة (péroraison) وهي خلاصة ما توصل إليه الخطيب، بأسلوب يحرك عواطف الجمهور، ويجعله ينفعل بها.
3- الأسلوب: مرحلة تحديد التقنيات المرتبطة بكتابة الخطاب، ودراسة الأسلوب انطلاقا من سلامة اللغة والنحو، إلى جودة الأسلوب، أي الاهتمام بالصور البلاغية، ويعرف ما للبيان من أثر على متلقيه، لهذا يحتل هذا العنصر موقعا مهما في بناء خطابة مقنعة، «فبالعبارة يتغير حكم الخطبة من اعتمال مستور لآراء وحجج وقضايا، إلى وجود ظاهر»، أي إن الخطيب يترجم بأسلوب منمّق حججه التي جمعها، ورتبها، وهذا مما يسهم في توسيع درجة الإذعان والتسليم لدى الجمهور.
أوقع أرسطو مسألة الحجاج موقعا مهما في بلاغته، غير أن ربط الحجاج بالمغالطة والخداع والإيهام قد شوّه سمعته على مرّ التاريخ، وأصبح ينظر إليه كضرب من التشويه للوقائع والحقائق، والتلاعب بعواطف الجمهور، بقيت هذه الصفات محيطة به وتوقفت الدراسات حوله، حتى مطلع القرن العشرين؛ حيث ظهرت دراسات جديدة تنهض بالبلاغة والحجاج وتخرجهما من تابوت التحنيط الذي وضعا فيه؛ حيث ظهر ما يعرف بالبلاغة الجديدة.