الحجاج: المفهوم والمصطلح

1-الحجاج لغة: لغة من حاجّ، وحاجَجَ، عند ابن منظور: "حاججتُه أحاجه حجاجا، ومحاجة حتى حججته؛ أي غلبته بالحجج التي أدليت بها...وحاججته محاجّة وحجاجا نازعته الحجة، والحجة الدليل والبرهان، وهو رجل محاجج أي جدل"، (لسان العرب، مادة: ح ج ج)، والحج الغلبة بالحجة؛ يقال: حجّه يحجّه حجّا إذا غلبه على حجته، وفي الحديث: "فحجّ آدم موسى"؛ أي غلبه بالحجة، وفي حديث معاوية :"فجعلت أحجّ خصمي، أي أغلبه بالحجة"، (تاج العروس/ مادة ح ج ج)، وقال الأزهري: "الحجة الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة...وإنما سميت حجة لأنها تحج؛ أي تقصد لأن القصد لها وإليها"(تهذيب اللغة، مادة: ح ج ج). بذلك يكون الحجاج في مجمل معناه دلالة على معاني التخاصم والتنازع والجدل والغلبة، باعتبارها عمليات مأخوذة هنا بمعانيها الفكرية والتواصلية.

يدل المعنى اللغوي للحجاج إذا على المنازعة والغلبة والمخاصمة والمجادلة التي تحدث بين طرفين يحاول كل منهما التأثير في الآخر باعتماد سلاح الحجة والدليل والبرهان.

2-الحجاج اصطلاحا: يصعب تحديد مفهوم الحجاج تحديدا دقيقا؛ فهو من المفاهيم الملتبسة في التحديد الدقيق، ذلك راجع لعدة عوامل منها: التباس مظاهر الحجاج، وتنوعها، وتعدد استعمالاته، وتباين مرجعياته، بالإضافة إلى خضوعه إلى التطور المستمر؛ فهو من النظريات التي تتطور بشكل ملحوظ وتُثرى من طرف دارسيها.

تراوح مفهوم الحجاج في الثقافتين الغربية والعربية بين ثلاثة مفاهيم على الأقل، إذ جعله العرب القدماء مرادفا للجدل، بينما استعمل في الفلسفة اليونانية باعتباره قاسما مشتركا بين الخطابة والجدل، في حين سعى الباحثون الغربيون في العصر الحديث إلى بلورة نظرية في الحجاج تجعله مبحثا فلسفيا ولغويا مستقلا عن صناعة الجدل وصناعة الخطابة.

وقد عرفه طه عبد الرحمان بأنه: "كل منطوق به موجه إلى الغير لإفهامه دعوى مخصوصة يحقّ له الاعتراض عليها"، وقد حدد ملامحه ومحدداته بريلمان بأنه:

 أ: يتوجه إلى مستمع.

ب: يعبر عنه بلغة طبيعية.

ج: مسلماته لاتعدوا أن تكون احتمالية.

د: لا يفتقر تقدمه (تناميه) إلى ضرورة منطقية بمعنى الكلمة.

هـ: ليست نتائجه (خلاصاته) ملزمة.

الحجاج إذا ممارسة خطابية مرتبطة بالتواصل بمختلف أنواع الخطاب الإنساني في كل أشكاله، وهو خطاب يوجه إلى مخاطب (قد يكون المتكلم نفسه) أو أكثر، ويسعى لدفعه للتصديق بفكرة، أو رأي، أو موقف، أو سلوك، أو إلى تغيير رأيه، أو موقفه، أو سلوكه، ويتم التصديق بواسطة تقديم الحجج الداعمة للدعوى أو المفيدة للدعوى المضادة، وهي إما حجج تخاطب العقل، أو حجج تأثيرية تتجه إلى العواطف والنوازع النفيسة.

ويجري مفهوم مصطلح الحجاج حول عدة مفاهيم فرضتها طبيعته المتنوعة المشارب، بين المنطق والفلسفة والبلاغة وغيرها  من الحقول المعرفية، لذلك يمكن تصور مفاهيم منها، كونه مرادفا للجدل، جامع بين الجدل والخطابة، مبحث لغوي مستقل بذاته.

3-الحجاج مرادف للجدل: رأينا مذهب ابن منظور، والزركشي، في اعتبار الحجاج جدل، يظهر ذلك أيضا عند ابن عاشور؛ حيث يعرف المجادلة بأنّها: «مفاعلة بين  الجدل،  وهو القدرة على الخصام، والحجة فيه، وهي منازعة بالقول لإقناع الغير برأيك»  وكلها مفاهيم تجري في فلك المناقشة، ومحاولة الإقناع، وقد أورد ابن عاشور حالات لمفهوم الجدل، فجعله في الخير تارة  كقوله تعالى: ﴿ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ﴾، سورة هود : الآية: 74.، وفي الشرّ أخرى؛  كقوله تعالى: ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ؛ سورة البقرة : الآية:197. ليجتمع مفهوما الحجاج والجدل على معنى المخاصمة بالقول وإيراد الحجة، غير أنّ ابن عاشور يراها مختصّة بالباطل – عادة- في الحجاج، في حين يكون الجدل في الباطل والحق.

بهذا يمكن وصف مفهوم مصطلح الحجاج كونه مرادفا للجدل، بأنّه مفهوم منطقي، ذلك ما ذهب إليه صادق الحسين الشيرازي في حدّه للجدل في علم المنطق بأنه «مقدمات القياس التي يأتي بها الشخص لإقامة الحجة على أي مطلب، كان حق أو باطل لإلزام الخصم»، وهذا قياس منطقي يعتمد المقدمات والنتائج؛ الملاحظ هنا تداخل المصطلحات، ويستمر هذا التداخل لنجده عند أبي الوليد الباجي الذي يصف في مقدمة كتابه «المنهاج في ترتيب الحجاج» أنّ  كتابه هذا كتاب في الجدل، لأن الجدل قد ينحصر في مسائل منطقية أو قضايا في علم أصول الفقه، وعلم الكلام  وغيرها، بينما يستوعب الحجاج كل ذلك، إضافة إلى مسائل أعمّ تخصّ التواصل بمفهومه الواسع  لذلك نجده يأخذ نصيبا من الخطابة، والبلاغة وغيرها.

4-الحجاج قسيم بين الجدل والخطابة: عدّ أرسطو الجدل والخطابة قوتين لإنتاج الحجج، ليكون هناك على الأقل حجاجان، حجاج جدلي وآخر خطابي؛ أمّا الجدلي فهو: ملخّص في كتاب أرسطو الطوبيقي أو المواضع، يقوم أساسا على مناقشة نظرية صرفة بغرض التأثير العقلي المجرد، وهو عادة ما يكون بين شخصين يحاول أحدهما إقناع الآخر، وأمّا الخطابي فهو متلخص في كتاب أرسطو الخطابة، وهو حجاج موجه إلى جمهور معين غرضه الأساسي التأثير العاطفي، وإثارة المشاعر والانفعالات، ولا تهم فيه الوسيلة، حتى وإن كانت بالخداع والإيهام، المهم هو إقناع هذا الجمهور واستمالته.

ما يميز هذا الحجاج أنّه موجه لجمهور معين في ظروف معينة، وضمن مقامات معينة، بهدف إذعان ذلك الجمهور، هذه السمة جعلت صورة الحجاج مشوهة، فاستبعد تماما من البحوث، ليشهد استفاقة مهمة في القرن العشرين، باتخاذه مفهوما يبرّئه من تهمة المغالطة، والاستمالة هذا المفهوم يجعله مبحثا لغويا مستقلا.

5-الحجاج مبحث لغوي مستقل: أصبح مفهوم الحجاج مصطلحا مستقلا بذاته، كمبحث لغوي محض يبحث عن قضايا الخطاب، بفضل جهود باحثين غرب، حاولوا فصله عن الجدل، وكل ما ينسب إليه من قصور في المحاججة والخطابة، وما ينسب إليها من تهم المغالطة والمناورة، هذا المفهوم الجديد أخذ في الظهور منذ سنة 1958، وهو تاريخ صدور كتابين في الحجاج وهما: كتاب: استعمالات الحجاج  the uses of argument، لستيفن تولمين  Stephen Taulmin، ومصنف في الحجاج، البلاغة الجديدة  Traite de l’argumentation, la nouvelle rhéorique للثنائي شايم بريلمن-Chaim Perelman ، ولويس تيتكاه- Louis Tyteca، لتنتقل مادة الحجاج عبر التطور إلى إطار لساني مع أنسوكمبر-Anxombre، وديكرو-ducrot، من خلال مؤلفهما الحجاج في اللغة l’argumentation dans la langue. كل هذه الجهود غيرت النظرة المتهمة للحجاج.

 

آخر تعديل: الجمعة، 8 نوفمبر 2024، 9:51 PM