-الشعر الجزائري في عهد الدولة الرستمية:

       إن الحديث عن الشعر الجزائري يسوقنا إلى الإشارة إلى الإشكالية إن الحديث عن الشعر الجزائري يسوقنا إلى الإشارة إلى الإشكالية الأجناس الأدبية (Genres)، والذي أطلق عليه في الدراسات المعاصر بـ "نظرية الأجناس"، فالعرب قديما عرفت الشعر وكان ديوانا لها، وكان حظ النثر قليل، ولقد تفطن نقادنا إلى ضرورة البحث في الشعر والنثر معا، فالشعر يحمل خصائص سردية (عناصر)، وكذلك النثر يستفيد من الشعر في بعض التفاصيل كالإيحاء والتكثيف...الخ، وبالتالي فمشكلة التصنيف لا حدود لها، وفي هذا الصدد يقول عبد المالك مرتاض: "إن مصطلح الأجناس "Genres" والذي تطور من بعد إلى نظرية الأجناس حديث النشأة، قريب العهد بالاستعمال في النقد الأدبي، وهو مصطلح تسرب إلى النقد العربي المعاصر عن طريق نظريات النقد الغربي اعترف بالأجناس الأدبية، ورسم لها الحدود ...."[1]، يرى الناقد أن تقسيم الأجناس الأدبية إلى شعر ونثر وغير ذلك يعتبر تعسف في حق الأدب، ويرجع ذلك إلى أن جل الأجناس الأدبية تستفيد من بعضها البعض، فقد يحضر في الشعر مثلا بعض المظاهر السردية كالحوار، الشخصية، كيف لا والرواية مثلا تحمل طابعا ديناميكيا وهي جنس هجين تستوعب الشعر في قالبها.

سؤال: ما هي الأجناس الأدبية التي عرفها الأدب العربي في الجزائر على عهد الرستمين؟ (2ه-3ه) (منتصف 2ه إلى نهاية 3ه) اتفق الباحثون في الأدب العربي على أن سكان الجزائر على عهد الدولة الرستمية لم يعرفوا إلا جنسين هما، الشعر والنثر، ولقد ازدهر الشعر على حساب النثر على شاكلة ما حصل للأدب في المشرق والأندلس.

       كلنا نعرف أن الفتوحات الإسلامية تأخرت في بلاد المغرب، لأن الفاتحين اهتموا بحروب الردة أولا، ثم الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق، وقد حمل الأدب العربي نفس الخصائص التي تميز بها في بيئة الأم (شبه الجزيرة العربية)، حيث كان قائما على جنس الشعر أساسا، ففي الجزائر أيضا بني على الشعر أيضا، ولم نكد نلفى حديثا عن النثر الفني في القرون الثلاثة الأولى للهجرة وعليه لقد اعتنى الباحثون والنقاد القدامي بالشعر عناية خاصة وكان النثر مكملا له لا غير.

2-خصائص الشعر ومقوماته:

       لقد ضاع معظم الشعر في عهد الدولة الرستمية مع الحروب والفتن، خاصة مع احراق المعصومة (مكتبة تيهرت العظيمة)، وكذلك مع تغير الأفكار والايديولوجيا والمذاهب.

عرف الشعر الجزائري بالتقليد للشعر في المشرق على جميع الأصعدة شكلا ومضمونا حيث أخذ يستلهم أو يعارضه، أو تحداه ...، ولم يستأثر شعراؤنا بشخصية بارزة إلا قليلا.

- اختص بشاعرية متميزة، وافتقر إلى جو مخصب يبلورها.

- اتسم بالإبداعية العالية التي اقتدى بها بشعراء المشرق حيث كتبوا شعر على منوال قصائدهم (شعر عمودي موزون ومقفى)، على مستوى الشكل، أما المضمون كتبوا في معظم الأغراض (وصف، مدح، رشاد، هجاء، حكمة، زهد ...)

       لقد تساءل النقاد وعلى رأسهم عبد المالك مرتاش عن استطاعة الشعراء الجزائريين على أن يرسموا البنية المحلية، ويعكسوا الحياة اليومية لسكان تيهرت، وأن يعبروا عن آمالهم وآلامهم، في ذلك العهد المبكر من التاريخ؟

       لقد كشف البحث في تاريخ الجزائر الثقافي أن الشعراء آنداك لم يرقوا إلى أن يستحدثو شعرا يعكس الحياة الحقيقة لسكان تيهرت آنذاك لأنهم انساقوا وراء التقليد الأعمي للشرق وفي ذلك يقول مرتاض: ".... وذلك تأسيسا على ما لدينا الآن من وثائق ونصوص: أن لا إلا ما كان من أبيات بكر بن حماد  التي يصف فيها مدينة تيهرت ... فقد ضاع ذلك الشعر بين حب التعلق بالشرق، ونبذ النتاج المحلي (وهي عقدة ثقافية لا تبرح لازبة بالجزائريين خصوصا والمغاربيين عموما" ومن الأغراض التي كتب فيها الشعراء الجزائريين نذكر:

1-الوصف: يعتبر الوصف من أهم أغراض الشعر الجاهلي والعربي بصفة عامة، حيث كان الشاعر العربي قديما يتغنى بوصف كل ما تقع عليه عينة وما يحيط به (بيئته)، وعليه وأصبح غرضا يحمل خصائص جمالية ولصيقا بالشعر أكثر من الأجناس الأخرى، فقد تعني الشاعر الجاهلي بوصف الفرس، والبيداء والمطر، والحبيبة و الطلل، هذا ما ألفيناه في شعر امرؤ القيس، وبحكم أن الشعر الجزائري في هذه الحقبة كان تقليدا للشعر في المشرق، فقد انكب الشعراء الجزائريون يتفننون في الوصف رغبة منهم في التفوق والتفرد (وصف الأشخاص، الزمن، الأمكنة، الأحداث...).

سمات قصائد الوصف:

- كانت ذات أهمية كبرى، حيث كانت تصدر عن طبع وسليقة

- عكست القصائد التجارب المعاشة.

       ومن القصائد التي اشتهرت في هنا الغرض وصف بكر بن حماد التيهرتي لمدينة تاهرت المعروفة قديما بشدة البرد وهطول الثلج، حيث كانت قصيدته بمثابة بطاقة هوية تمثل انتماءه للمنطقة حيث يقول:

ماأخشن البرد وريعانه       وأطرف الشمس بتيهرت

                   تبدو من الغيم إذا بدت      كأنها تنشر من تخت

                   فنحن في بحر بلا لجة      تجري بنا الريح على سمت

                   نفرح بالشمس إذا ما بدت    كفرحة الذميّ بالسبت

       يعرض المقطع وصفا لمناخ مدينة تاهرت الشديد والبرودة، خاصة في فصل الشتاء (ريعان البرد (أوله)، وأن الشمس تزورهم بين الفينة والأخرى، وشبهه بمناخ البحر الذي تتلائم أمواجه وهم في سفينة تأخذها الريح يمنيا شمالا، ومن شدة البرودة سكانها يفرحون بالشمس كالإنسان الذي يتنظر عهدا.

ولقد زار أحد أبنائها الحجاز فرأى منها حرا شديدا فأنشد وبيتا في ظرف من السخرية قائلا:

أحرقيني ما شئت، فإنك والله بتاهرت ذليلة

وهو وصف للشمس وغيابها في مدينة تاهرت، وتمركزها في الحجاز.

2-المدح: وهو غرض يعتمد على الإحسان والثناء على المرء بماله من صفات حسنة، والمدح والمديح، جمعه: مدائح وأماديح، وقد لازم هذا النوع الشعري الشعراء العرب القدماء، واشتهرت في العصر الأموي خاص في مدح الأمراء إما طعما في التكسب أو إعجابا بشهامتهم وخصالهم وكرامتهم ومآثرهم.

       لقد قلت النصوص التي تنصرف إلى هذا النوع الأدبي، ومن ذلك مقطوعة يمدح فيها بكر بن حماد أحمد بن سفيان بن سوادة التميمي الذي كان عاملا للأغالبة على إقليم الزاب ومنها يقول:

فتى يسخط المال هو ربّه    ويرضي العوالي والحسام المهندا

وممن منحهم بكر بن حماد الأمير أحمد القاسم بن ادريس صاحب مدينة كرت التي كانت تقع بين مديني فاس والمغرب الأقصى، واتسم مطلعها بالتكلف ولقد مدحه طعما في عطية، وأجمع النقاد على خاوها من الشعرية حيث يقول:

إن السماحة والمروءة والندى    جمعوا لأحمد من بني القاسم

                وإذا تفاخرت القبائل وانتمت    فافخر بفضل محمد وبفاطم

              وبجعفر الطيار في درج العلا    وعلى الغضب الحسام الصارم

               إني لمشتاق إليك وإنما         يسمو العقاب إذا سما بقوادم

             فابعث إلي بمركب أسمو به      عليّ أن أكون عليك أول قادم

             واعلم أنك لن تنال محبة          إلا ببعض ملابس ودراهم

3-الزهد: وهو النظر إلى الدنيا بعين الزوال وهو عزوف النفس عن الدنيا وملذاتها، والمزهد: القليل المال والقليل الشيء، وقد عرف بكر بن حماد التيهرتي بالزهد وقد أطلق عليه الناقد عن المالك مرتاض لقب "أبو العتاهية الجزائر"، فقد برع في هذا الغرض، وقد اعتبر من أبرز شعراء القرن 3ه في أقطار المغرب وتدور أشعاره ما حول الزهد في الدنيا والتذكير بالآخرة، والدعوة إلى التزود بالعمل الصالح قبل الموت، ومنها قوله:

لقد جمحت نفسي قصدت وأعرضت     وقد مرقت نفسي فطال مروقها

فيا أسفي من جنح ليل يقودها             وضوء نهار لا يزال يسوقها

إلى مشهد لا بدلي من شهوده            ومن جزع الموت سوق أخوقها

          ستأكلها الديدان في باطن الثرى         ويذهب عنها طيبها وخلوقها

هنا يذكر الشاعرنفسه في بالموت وينهاهاعن الصدود والأعراض ويذكره بمشهد القبر الموحش.

4-الغزل: وهو غرض يكون فيه التغني بالجمال وإظهار الشوق إليه والشكوى من فراق الحبيب وهو فن شعري يهدف إلى ذكر محاسن الحبيبة وينقسم إلى قسمين: العزل العذري، . العفيف أو البدوي، والغزل الصريح وهو الحضري،  ولا نكاد تلمس هذا النوع عند بكر بن حماد وذلك لسببين هما:

1-كان راوية للحديث وعالما مميزا، فلا يقول شعرا في الغزل خشية أن يسيء إلى سمعته.

2-اشتهر بالزهديات والوعظيات، وهي صفة مكملة لرواية الحديث وحفظه ومدارسته.

ولقد اثبتت الدراسات أن له بعض المقطوعات التي كتب فيها غزلا رقيقا فبرع فيه حيث يقول:

خلقن الغواني للرجال بلية         فهن موالينا وعبيدها

إذا ما أردنا الورد في غير حينه   أتتنا به في كل حين خدودها

5-الرثاء: وهو بكاء الميت ومدحه بعد موته، وهو غرض من أغراض الشعر الجاهلي (تعداد وذكر لمناقب الميت ومدح له بعد موته)، وقد كتب فيه بكر بن حماد التيهرتي وما وصلنا مقطوعة له في رثاء ابنه عبد الرحمن حين موته حين عادا من مدينة القيروان، حيث تعرضا لغارة فقتلوا الابن وجرحوا الوالد حيث يقول:

زهوّن وجدي أنني بلا لاحق    وأن بقائي في الحياة قليل

بلى، ربّما دارت على القلب لوعة    فيرجعها صبر هناك جميل

              وأن ليس يبقى للحبيب حبيبة        وليس بباق للخليل، خليل

              ولو أن طول الحزن مما يرده        للازمني حزن عليه طويل

              تبدّد ما قد كان منك مجمعا        وجلله رمل عليك مهيل

       وهناك مقطوعة أخرى لبكر بن حماد، أقل شهرة وتداولا الناس، وقد تفرد بذكرها صاحب كتاب "رياض النفوس" وصاحب كتاب "معالم الايمان" وهي لامية مؤثرة، دافعة العاطفة جياشة الإحساس تنصح باللوعة والوجع.

6-الحكمة والتوجيه: وهي علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية، وهي قوة عقلية علمية متوسطة بين الغريزة والبلادة، وقد صادفنا نص وحيد لأفلح بن عبد الوهاب والذي مطلعه:

            العلم أبقى لأهل العلم آثارا      يريك أشخاصهم روحا وأبكارا

         حتى وإن مات ذو علم وذو ورع   ما مات عبد قضى من ذاك أوطارا

        وذو حياة على جهل ومنقصة      كميّت قد ثوى في الرمس أعصارا

        لله عصبة أهل العلم إن لهم       فضلا على الناس غيابا وحضارا

 العلم علم كفى بالعلم مكرمة       والجهل جهل كفى بالجهل إدبارا

 هذه مقطوعة من قصيدة طويلة لأمير حاكم وهو من نسل بني رستم، وهذا لما يثبت أن الحكام الجزائريين في أول دولة جزائرية على عهد الإسلام كانوا علماء وأدباء، وإنها أول قصيدة قيلت في تاريخ الشعر الجزائري، ومن المؤكد أن أبا بكرا كان يحفظها ويحمل بفحواها، حينما سافر إلى بغداد طالبا للعلم، وقد بلغ عدد أبياتها ثمانية وثمانين بينا.

 

 

 

 

ب-النثر في عهد الدولة الرستمية:

       يعرف الدكتور عبد المالك مرتاض النثر قائلا: "النثر من الوجهة المعجمية، هو أحد مصادر "نثر" وتدل مادة (ن ث ر) في اللغة العربية على التشتت والانفراط، ومن ذلك النثار الذي هو كل ما تناثر من الأشياء كالفتات المتناثر من حول الخوان ومنه شارة الحنطة والشعير ونحوهما: وهي عبارة عما يتناثر ويتشتت منهما"

       وقد عاد مرتاض إلى مفهومه عند العرب القدامى وهو ما يتفوه به الخطيب في المواقف المشهودة دون خضوع القيود وزن أو قافية، واتفق الباحثون أن النثر يطلق على كل كلام خال من الشعرية، ويقصدون "الإيقاع".

       لقد شارك النثر نظره الشعر في بعث الحركة الأدبية وجعلها أكثر فعالية، مما ساعد في تأسيس الدولة الرستمية وتطور نظامها والتمكين من اتساعها وتخليد معالم حضارتها فلم يحمل النثر دورا ثانويا بل نجده تقاسم الدور مع الشعر، وفي هذا الصدد يقول مرتاض: "... ويمكن أن نلاحظ أن سيرة هذا النثر كانت تأسيسية بالقياس إلى الأدب العربي القديم في الجزائر مثلها مثل الشعر الذي هو أيضا كانت سيرته تأسيسية بحيث من العسير العثور على نصوص شعرية ونثرية ترقي إلى مستوى الأدبية قبل ظهور الرستمين بالجزائر..."

       وعليه صرح مرتاض بأن ميلاد الشعرية (الأدبية) كان مع تأسيس الدولة الرستمية في الجزائر وما قبلها لا صلة له بالأدبية وهذا في الشقينsadالشعري والنثري)، وعليه يصبح كل ما يتعلق بالدولة الرستمية يتصف بالطابع التأسيسي، فنحن نعلم بأن العرب الفاتحين جبلوا (اللغة – الدين)، وجعلوا اللغة العربية لغة الدولة، واصدموا بالسكان الأصليين (البربر) الذين عرفوا أدبا شفاهيا، إذن مع تأسيس الدولة الرستمية تطور الأدب ومعه النثر وحمل طابعا تأسيسا، وعليه اتصفت الدولة الرستمية بما يلي:

1-إن النزعة الخارجية بعامة والاباضية خاصة ترتبط بالدولة الرستمية، ولن تعرف ازدهارا إلا معها.

2-إن تأسيس الدولة يرتبط بأولية دولة جزائرية تستأثر بالحكم فيها دون انتماء روحي للخلافة العباسية في بغداد، فكانت الدولة الرستمية تمثل تأسيس السيادة الجزائرية على أرضها في عهد مبكر من تاريخ ظهور الإسلام.

3-إننا لا تصادف أدبا عربيا يمكن أن ينطبق عليه هذا الوصف قبل ظهور هذه الدولة في الجزائر، ومع تأسيسها يؤرخ لتأسيس أول حركة أدبية عربية في الجزائر.

       لقد ازدهر النثر نسبيا في هذا العصر، وعندما تتحدث عن لنثر باعتباره جنسا أدبيا ماثل الشعر ونافسه، ومن ذلك نجد اهتمام الحكام الرستمين بكتابة الرسائل، وكذا ارتجال الخطب أو تأليف الكتب أما انتصار للنزعة الاباضية وترسيخا لوجودها، والتمكين لها في الانتشار، وإما تيسرا أو تبسيطا للمبادئ الأولية للفقه الإسلامي لتمكين عامة الناس من فهمها واستعابها بالعربية أساس والبربرية بشكل أقل انتشارا.

 مفهوم الخطابة: وهي فن من فنون الأدب عرف منذ القديم  وتميّز بالكثير من الخصائص (مفهوم الخطابة، ليلى جبريل 24 ديسمبر 2021، ولقد ازدهرت في القرون الأولى للهجرة ازدهار عجيبا ( 1ه – 2ه) بالمشرق لعدة عوامل منها:

1-اشتداد التمسك بالعصبية القبلية، حيث كانت كل قبلية تتعصب لانتمائها القبلي، فتتخذ الدفاع عنها وذلك لنشر المآثر والمفاخر، ولذلك كان لزاما عليهم وجود صوت جهير وبيان عجيب (فصاحة ولسان) وارتجال في الكلام.

2-دواعي الضرورة الدينية التي فرضها الإسلام من خطب الجمعة التي تلقى على المصلين، حيث كانت سبيلا تطوير الخطابة، حيث كانت على عهد الجاهلية لا تتجاوز مضامنيها (إعلان حرب، عقد صلح، عقد نكاح)، فصار لها وظيفة جديدة (الوظيفة الدينية)، حيث كانت تلقى بلغة مروضة، وأسلوب مؤثر ونسج مبهر.

3-دواعي التطلع إلى التمكين للمذهب الخارجي على عهد الرستمين في الجزائر بحيث كانت الثقافة الإسلامية مشبعة بالنزعة الاباضية، وإن الخطابة التي نتحدث عنها على هذا العهد كانت اصطنعت اللغة المبسطة، بل ربما استعملت اللهجة البربرية في غير خطب الجمعة، للتبليغ والاقناع.

       لقد ذهب الباروني إلى أن أئمة الرستمين امتلكوا دواوين خطب للجمع والأعياد، إذ كانوا يخطبون لأنفسهم، ولا يعيدن خطبة خطبوا بها قطّ.

       ذكر مرتاض بعضا من أسماء الخطباء ومن ذلك نجد: أبن ابي ادريس، وأحمد ....، أبا العباس بن فتحون، عثمان بن الصف، أحمد بن منصور، ولقد لاحظ الباحثون ندرة النصوص، ويرى عبد المالك مرتاض أن نص أحمد منصور الذي استشهد به في الملاحق ازدهر ازدهارا نسبيا في مدينة تاهرت وما والاها طوال قرن ونصف وذلك لأسباب نذكر منها.

1-أنه كان لكل إمام ديوان خطب خالص له، على نحو لا يقلد فيه حد، ويعول على نفسه، وواضح أن إلقاء الخطب كان ارتجالا.

2-إن امتناع كل إمام من ترداد الخطب التي كانت تروى  لمن سبقوه لأمر كانت حاجات كثيرة تقتضيه لعل أهمها:

أ-اختلاف المناسبات المعيشة من إمام لآخر، ومن موقف لآخر.

ب-اختلاف المتلقين أنفسهم بحكم اختلاف العهود تعاقب فيها أولئك الأئمة، وكان لكل مقام مقال.

ج-إن الأئمة الخطباء كانوا من الثقافة والعلم والتمكن من التعبير عن خلجات نفوسهم وأفكارهم، ما مكنهم من التفنن في إلقاء الخطب، واستشراف التطور، والتحكم فن القول وزخرف الكلام، وهذا يعكس المستوى الثقافي الذي كانو عليه (من قدرة على الارتجال والتأثير في المتلقين)، إن كون كل إمام كان يخطب هو شخصيا أيام الجمعة في المسجد الجامع بتاهرت، فإن أئمة المساجد خارج الامام الحاكم، كانوا يسلكون المسلك نفسه فلا يكرون خطب الجمعة والعيدين لذلك ازدهرت الخطابة نسبيا.

 هناك من يرى أ، الخطباء الرستميين يذكرون في نصوص خطبهم خطب أمير المؤنين علي بن أبي طالب عدا خطيب التحكيم، وقد استبعد هذا الموقف الناقد مرتاض وذلك يرجع في نظره إلى تعصّب الإباضية على الشيعة، ورفض التأدب بآدابها، و ربما اختاروا خطب علي بن ابي طالب لأنها من أرقى النصوص العربية وأجملها صياغة وأعلاها فصاحة وأشرفها نسجا وأنفاها أسلوبا، وهذا إن على شيء فأنه يدل على رقي ذوقهم الفني ورهافته ولطافته ولقد أقرّ الباروني أن أئمة الرستمين امتلكوا خطبا الجمعة والأعياد دون أن يكررها وهذا يعني أنهم:

1-كانوا يرتجلون خطبهم ارتجالا.

2-كان لهم دواوين خطب مدونة تمتد على مناسبات السنن كخطب ابن نباته التي تفنن بتردادها.

       ولقد استبعد عبد المالك مرتاض اجترار الحكام الرستمين لنص خطب بعينها وقد ذكر أسباب منها:

1- أنهم كانوا مفتقرين إلى ارتجال خطب تتلاءم مع مستويات المثقفين ثقافيا وايديولوجيا.

2-انهم كانوا احرص على مخاطبة الناس من أجل توجيههم مذهب وسياسيا، فلم يكن من المعقول التعويل على نصوص خطب قيلت في النصف الأول للهجرة ولم تعد تتلاءم مع أذواق الناس في تيهرت ولامع الاتجاه المذهبي في الدولة.

3-كما استدرك مرتاض إمكانية ترديدهم لخطب علي رضي الله عنه أيام الجمعة وقال بأنه أمر مستبعد، ووجود خطب كذلك تعتبر مدسوسة لاشتداد الخصومة المذهبية بين الشيعة والخوارج أو لإثبات التسامح بينهما، أو لإثبات استاذية الشيعة للخوارج وتبعيتهم لهم.

4-لم يكن نظام التقليد الأعمى في منتهى القرن 2 الهجرة في رقعة من دار الإسلام (الأندلس-المغرب-المشرق) مجسدا في ترداد النصوص، كانت لا تعرف نصوصا لخطب كتبت على ذلك العهد ليقلدها الخطباء.

 

الخصائص الفنية للخطابة:

       عالج خطباء بني رستم المواضيع الدينية أكثر مما عالجوا المواضيع الأدبية، ومن أشهر ما وصلنا عن هذا الفن نجد: خطبة أحمد بن منصور الذي يعد من أشهر خطباء بني رستم الذي تأسس على يد عبد الرحمن بن رستم، ولقد تميزت خطبته بالخصائص الفنية التالية:

1-الأثر الإسلامي: يظهر الأثر الإسلامي في الخطب الدينية بصورة واضحة، وذلك لأن الخطيب قبل كل شيء هو إمام حيث نجدها تستهل بالبسملة والحمد والتمجيد والصلاة على الرسو صلى الله عليه وسلم، وكذا الاستشهاد بالقرآن الكريم كأن يدعّم الخطيب كلامه بآيات من الذكر الحكيم.

2-السجع والتوازن:إن بلاغة وفصاحة القرآن الكريم تؤثر في أساليب الخطباء ليقدموا خطبا منسوجة على منواله فحضور السجع في خطب بني رستم جاء بشكل تلقائي دون صنعة أو تكلف.

 3-الأسلوب العاطفي: الخطبة هي عبارة عن تحويل لأفكار وعواطف وذلك لجلب القارئ ولفت انتباهه، حيث تسيطر على الخطيب العاطفة الدينية إثر تأثره بالقرآن الكريم.

4-الأسلوب التصويري:وذلك بتوظيف الصور البيانية المستمدة من القرآن الكريم، لأن دور الخطيب هنا هو إيصال أفكاره بطريقة جمالية، وهو في موقف الداعي العابد لا الناسج المصور.

2-فن الترسل: يرى عبد المالك مرتاض أن: "فن الترسل يعبر عن الذات ويبلغ ما في النفس الباطنة إلى متلق غير حاضر إلا في ذهن"، بمعنى أن عناصره تتمثل في المرسل-الرسالة-المرسل إليه، فالمرسل هنا معلوم والرسالة أيضا أما المرسل إليه يكون غير حاضر بل حاضر ذهنيا فقط.

والرسالة وهي ركن مهم في عملية التواصل تكون مأخوذة من ارسال الشيء بمعنى نشره أو بثه أو تبليغه أو إظهاره ضمن حيز غير معلوم.

خصائص فن الترسل:

1-أناقة اللفظ: فلا بد على كاتب الرسالة أن ينتقي الألفاظ التي تحدث أثر في نفسية المتلقي وتؤثر فيه.

2-ايقاعية التركيب: كان يستخدم الصور البيانية والمحسنات البديعية التي تضفي على أسلوبه نوعا من الجمالية.

       جمع الباروني نصوصا من الرسائل في عهد الرستمين والتي انتمت إلى أميرين هما: أفلح بن عبد الوهاب، وابنه: محمد ابن أفلح.

مضمون الرسائل الرستمية:

       كتب أفلح بن عبد الوهاب أربعة رسائل وهو الامام والعالم والأديب صاحب عقل وقلم ولسان وجهها إلى رجل يدعى: البشير بن محمد الذي كان واليا له على بعض المناطق التابعة للنفوذ الرستمي.

- الرسالة الأولى: تناولت موضوع الوعظ والترغيب والترهيب والتذكير بأيام الله.

- الرسالة الثانية: وجهت إلى شخص مجهول،  وقد رجح النقاد على أنه أحد عماله، ولم يخرج موضوعها عن الوعظ وكان حجمها مثل حجم الرسالة الأولى، حيث كان دائما أفلح بن عبد الوهاب يوصي بتقوى الله ولزوم طاعته والتوكل عليه.

الرسالة الثالثة: وجهها أفلح بن عبد الوهاب إلى عامة الناس وهي لا تخرج عن مضمون الرسالتين (الأولى والثانية)، حيث تناول الوعظ والنصح لله والتحذير من نقمته والترغيب في نعيمه ومما وردنا منها: "... وعليكم بتقوى الله واتباع آثار سلفكم  فقد سنوا لكم الهدى، وأوضحوا لكم طريق الحق، وحملوكم على المنهاج، ففي اتباعكم النجاة، وفي خلافهم تخشى الهلكة واياكم والبدع، فإن البدع هلكة وسوء طريقة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة كفر، وكل كفر في النار".

الرسالة الرابعة: هي تختلف عن باقي الرسائل، وجهها إلى خرج النفوسي وهي شخصية فكرية كانت تعاصره، كان يحتكم إلى العقل في كل شيء حيث كان يرى:

1-انكار تقديم الخطبتين في الجمعة، ويعتبرها بدعة.

2-انكار جمع الخراج والجبايات.

3-ذهابه إلى أن ابن الأخ الشقيق أحق بالميراث من الأخ للأب.

4-أن المضطر بالجوع لا يمضي بيه ماله إذا باعه لأجل ذلك.

       وعليه يمكن أن نقول بأن فن النثر في عهد الدولة الرستمية كان مزدهرا نسبيا، وهذا راجع إلى اهتمامهم بالشعر أكثر لذا لم نرصد نصوصا نثرية كثيرة من خلال عرضا لنموذج منه (الخطابة-الرسالة)، وكل منها يحمل خصائص فنية وقضايا متنوعة نستعرف عنها أكثر في التطبيق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


[1]عبد المالك مرتاض، الأدب الجزائري القديم، ص 56.

 

Last modified: Sunday, 3 November 2024, 11:14 AM