المدرسة التوليدية التحويلية1
لقد أضحى النمط التوزيعي يسعى إلى وصف البنية التركيبية للغات من أجل ضبط الأشكال اللسانية في أي لغة من اللغات، وتصنيفها، ووصل هذا التحليل إلى ذروته مع هارس(تلميذ بلومفيلد) الذي أثر كثيرا في تلميذه تشومسكي. هذا الأخير الذي وجه نقدا لاذعا للمدرسة السابقة.
وقد قام هذا الاتجاه، التحويلي التوليدي، على أنقاض الاتجاه التوزيعي القائم أساسا على توزيع العناصر اللغوية التي ترد داخل السياقات التركيبية، على أنّ هذه الأخيرة تعد عملية وصفية تتم فقط على المستوى السطحي من البنية اللغوية دون مجاوزتها إلى البنية العميقة، الأمر الذي يفسر بوضوح تأثر تشومسكي بآراء المدرسة العقلانية التي سادت خلال القرن التاسع عشر والتي كان ديكارت من أشهر أعلامها، ومن ثم نظر تشومسكي إلى اللغة من الداخل، أي مقدرة ابن اللغة على استعمال وفهم لغته، خلافا للتوزيعيين الذين نظروا، إخلاصا منهم لمبادئهم، إلى اللغة من الخارج كما تفعل العلوم الطبيعية، ولذلك كانت آراء التوليدية التحويلية عن طبيعة اللغة عميقة للغاية ومناقضة للسطحية التي تميزت بها آراء سابقة.
وأوّل هجوم قام به تشومسكي على المذهب السلوكي ذهابه منذ البدء إلى أن المصطلحات العلمية الفخمة والإحصاءات المؤثرة التي يكسو بها السلوكيون دراستهم ماهي إلا لون من ألوان الخداع والتمويه، يخفون به عجزهم عن تفسير الحقيقة البسيطة التى تقول: إن اللغة ليست نمطا من العادات، وإنها تختلف جوهريا عن طرق الاتصال عند الحيوان.
كما عارض النظرية التوزيعية على أساس أن التحليل اللغوي لا ينبغي أن يكون وصفا لما قد قاله المتكلمون، وإنّما شرح وتعليل للعمليات الذهنية التي من خلالها يمكن للإنسان أن يتكلم بجمل جديدة، وبهذا نجده ينتقل من النزعة التجريبية المعتمدة على المنهج السلوكي، كونه تبنى في بدايته أفكار أستاذه هارس، إلى النزعة الذهنية القائمة على تعليل وتفسير الحدث الكلامي والقدرة الضمنية التي تُظهر هذه الأشكال، فابتعد بذلك عن أفكار أستاذه هارس. ولكنّ هذا لم يمنعه من إهمال الدلالة والعزوف عنها كما فعل السلوكيون، ثم يعود ليستقل عن أفكارهم في كتابه (البنى النحوية) ملحا على ما أسماه ب (القدرة الخلاقة للغة الإنسانية) جاعلا من نظريته التوليدية نظرية تعكس قدرة الإنسان واستعداده الفطري على إنتاج وفهم جمل لم تقل ولم تسمع من قبل، فأراد بذلك تجاوز الوصف البنيوي والإجابة على جملة من التساؤلات أهمها:
كيف يمكن للمتكلم أن يخرج هذه السلسلة من الأصوات؟ كيف يخرجها من الناحية الفيزيولوجية؟ ماهي القدرة التي تمكّنه من إخراج اللفظ الدال؟
قد ألح تشومسكي منذ البدء على القدرة الإبداعية للغة الإنسانية، فكل المتكلمين بلغة ما قادرون على التحكم في إنتاج جمل وفهمها دون سماعهم بها من قبل، ولذلك جاء بنظرية النحو التوليدي، وهو عنده ( نظام من القواعد التي تقدم وصفا تركيبيا للجمل بطريقة واضحة، وأكثر تحديدا... وكل متكلم تكلم لغة، يكون قد استعملها واستبطن نحوا توليديا، وهذا لا يعني أنه على وعي بالقواعد الباطنية التي يكون قد استعملها أو سيكون على وعي بها... إن النحو التوليدي يهتم بما يعرفه المتكلم فعلا، وليس بما يمكنه أن يعرفه ) فهو تلك المعرفة اللاواعية بالنظام التركيبي، الدلالي والفونولوجي لأية لغة، والذي يسمح للمتكلم بإنتاج عدد غير محدود من الجمل الصحيحة نحويا ودلاليا بفضل الطاقة الترددية لقواعدها.
مبادئ النحو التحويلي التوليدي:
1/ الكفاية والأداء(الملكة والتأدية): يرى تشومسكي أن للغة وجهين، أحدهما ذهني خالص سماه الكفاية( الملكة LA COMPETENCE) والآخر عملي منطوق مسموع سماه الأداء (LA PERFORMANCE )
أ/ الكفاية أو الملكة: وهي القدرة على بناء أنموذج لغوي ذهني مشترك بين المرسل والمستقبل، سداه الصوت، ولحمته الدلالة، وعلى أساسه تتمثل القواعد اللغوية، فهي لا تتعدى كونها المعرفة اللاواعية والضمنية بقواعد اللغة التي يكتسبها المتكلم منذ طفولته، وتبقى راسخة في ذهنه، فتمكنه فيما بعد من إنتاج العدد غير المحدود من الجمل الجديدة التي لما يسمعها من قبل، إنتاجا ابتكاريا لا مجرد تقليد ساكن، ثم التمييز بين ما هو سليم نحويا وبين غيره.
وتتضمن الكفاية مهارات ذهنية متعددة من أهمها: التصور، ثم التنظيم الذي يجعل كلامنا منظما، ثم التتابع الذي يجعل المهارات الذهنية قادرة على البقاء والاستمرار، ثم الاستدعاء الذي يجعل اللغة مطواعا للحضور في المواقف الحياتية، ثم الاختيار الذي يجعلنا قادرين على انتقاء التعبير المناسب لكل موقف، ثم التقويم الذي يجعلنا نحكم على سلامة لغتنا أو خطئها.
ب/ الأداء: إن تلك الملكة تتجسد في الواقع اللساني المادي من خلال المظهر الكلامي المعروف بالتأدية، وإذا كانت الملكة _كما عرفنا _ هي معرفة المتكلم السامع للغته، فإن أدق وصف للتأدية هو ذلك الوصف الذي يجعل اللغة واقعا حيا في المنطوق والمسموع، بحيث يتحد الأداء الصوتي مع المضمون الدلالي، وبذلك يكون الأداء هو الصورة الواعية التي تمثل الصورة المعقولة من اللغة، أو هو (الاستعمال الفعال للغة في مواقف مادية وواضحة... وإن نحو أية لغة يفترض أن يكون وصفا للملكة الذاتية الأصلية للمتكلم السامع المثالي).
وإذا كانت الأولى( الكفاية) معرفةً بقواعد اللغة، فإن الثانية(الأداء) هي الانعكاس المباشر لها، لكن ذلك الانعكاس ذو طابع فردي يتمايز من شخص للآخر بحسب العوامل الخارجية كضعف الذاكرة، والتعب، والخوف، ودرجة الاهتمام بالموضوع... أما الملكة فعامة ومشتركة بين أبناء المجتمع اللغوي الواحد المتجانس ما داموا جميعا يملكون المعرفة نفسها بنظام اللغة.
وفي الأخير يمكن القول بأن الملكة تظل الخاصية التي تميز الإنسان عن كافة المخلوقات، وتسقط عنه صفة الآلية والحيوانية المجردة من التفكير المبدع، وتيسر له الاستعمال النهائي للتعبير عن اللانهائي من الجمل وفهمها.
2/ التحويل والتوليد: تقوم هذه النظرية على اعتبار مبدأين كبيرين لهما وجود في اللغات الإنسانية كافة هما التوليد(GENERATION) والتحويل(TRANSFORMATION) وبهما سميت هذه النظرية.
أ/ التوليد: هو القدرة على الإنتاج غير المحدود للجمل انطلاقا من العدد المحصور من القواعد، في كل لغة، وفهمها ثم تمييزها عما هو غير سليم نحويا، فهو ليس الإنتاج المادي للجمل، بل القدرة على التمييز بين ما هو نحوي وغيره وطرد الثاني من مجاله اللساني، وهذا بفضل القدرة الذاتية لقواعد اللغة. ويمكن فهم التوليد بكونه انبثاق تركيب أو مجموعة من التراكيب من جملة هي الأصل وتسمى الجملة الأصل بالجملة التوليديةgenerative sentence. وأهم وصف للجملة التوليدية أنها الجملة التي تؤدي معنى مفيدا، مع كونها أقلّ عدد من الكلمات، ومع كونّها أيضا خالية من كل ضروب التحويل فجملة {جاء خالد} جملة توليدية، وأما جملة {خالد جاء} فليست توليدية، فكونها أقل عدد من الكلمات لم يجعلها توليدية لأنّ فيها تقديما وتأخيرا، وهما من وجوه التحويل. هذا إذا اعتبرنا أنّ فيها تقديما وتأخيرا، أما إذا اعتبرناها جملة اسمية لم تكن توليدية كذلك لأنّها ليست أقل عدد من الكلمات فهي جملة مركبة من جملتين: جملة المبتدأ والخبر، والجملة الفعلية.
ب/ التحويل: أما التحويل فعلاقة تربط بين البنية العميقة والبنية السطحية، أي بين التركيب الباطني للجملة وتركيبها الظاهري، فهو عملية نحوية تجري بين البنيتين، وقد نادى به هارس harris من قبل أن يدرسه تلميذه تشومسكي على نحو مفصل، فحسب هارس، يجري التحويل باشتقاق جملة أو مجموعة من الجمل من جملة تسمى الجملة النواة ف { فهم زيد الدرس} جملة نواة، وهي مثبتة، مبنية للمعلوم، وجملة { فُهِمَ الدرس} جملة محولة مبني فعلها للمجهول، وقد حدث التحويل على النحو التالي:
1/ الفعل+ مورفيم البناء المعلوم+ اسم+ اسم{ فهم زيد الدرس}.
2/الفعل+ مورفيم البناء المجهول+ اسم { فُهِم الدرس}.
وملخص مبدأ التحويل عند تشومسكي، أنّ أهل اللغة قادرون على تحويل الجملة الواحدة إلى عدد كبير من الجمل، فإذا أخذنا جملة { عزفت الفرقة الموسيقية لحن الرجوع الأخير} وأجرينا عليها تحويلات انتهينا إلى اشتقاق جمل كثيرة:
_ عُزِفَتْ الموسيقى لحن الرجوع الأخير{ بالبناء للمجهول}
_ عُزف لحن الرجوع الأخير { بالبناء للمجهول و الحذف}
_ الفرقة الموسيقية عزفت لحن الرجوع الأخير{ بالتقديم و التأخير}
_ الفرقة عزفت لحن الرجوع الأخير {بالتقديم و التأخير و الحذف}
و قد تتحول الجملة الخبرية { افتتحت الندوة أعمالها} إلى استفهامية كثيرة الأنماط:
_ هل افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصديقي}
_متى افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، الزمان}
_ أين افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، المكان}
_ كيف افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، الهيئة}
_ لماذا افتتحت الندوة أعمالها؟ { استفهام تصوري، السبب}
_ من افتتح أعمال الندوة؟ { استفهام تصوري، الذات}
ويصبح التحويل بابا مفتوحا على مصراعيه للنّفي، والتأكيد، والبناء للمجهول، والعطف، والزيادة، والحذف، والتقديم والتأخير وغير ذلك...