المدرسة الوظيفية الفرنسية
يمثل هذه المدرسة اللساني الفرنسي الشهير أندري مارتينيAndrée Martinet (1908م- 1999م) الذي ولد بمقاطعة السافوا بفرنسا وتابع في شبابه دروس بعض مشاهير اللسانيات أمثال موسِي وفَندريس وميي، فضلا عن انكبابه على دراسة اللغة الإنجليزية، وقد نال شهادة الدكتوراه في دراسة اللغات الجرمانية سنة1937م، ليصبح مديرا للدراسات الفونولوجية بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا في عام 1938م. وقد كانت له في ثلاثينيات القرن العشرين اتصالات مكثفة مع علماء نادي براغ اللساني خاصة مع تروباتسكوي، كما شارك في أعمال هذا النادي التي كانت تنشر بانتظام، هذا فضلا عن متابعته عن كثب تطورَ نظرية الغلوسيماتيك بفضل الإقامات المتكررة بالدانمارك وأواصر الصداقة التي كانت تربطه بصاحبها لويس يلمسليف... يضاف إلى كل ذلك استقراره بالولايات المتحدة الأمريكية من 1946م إلى 1955م، حيث شاهد نمو وتطور اللسانيات الأمريكية على يدي إدوارد سابير وليونارد بلومفيلد، وهناك شغل العديد من المناصب المتعلقة بالبحث اللساني: فقد عين مديرا للمجلة العلمية اللسانية "الكلمة" من 194م إلى 1960م، وحمل مسؤولية إدارة معهد اللسانيات بجامعة كولومبيا بنيويورك، كما عين مديرا "للجمعية العالمية للغة المساعدة" التي كانت ترمي إلى إنشاء لغة عالمية جديدة. وقد ألف مارتيني ما يزيد عن مائتين وسبعين مؤلفا في مجال اللسانيات العامة، واللسانيات الوصفية، والفونولوجيا الوظيفية، والفونولوجيا التاريخية، ومن أشهر هذه المؤلفات: نطق الفرنسية المعاصرة – نظرة وظيفية للغة – اقتصاد التغيرات الصوتية – مبادئ اللسانيات العامة.
مارتيني والتقطيع المزدوج:
إن مجموع أعمال مارتيني تشكل نظرية في إطار لسانيات وظيفية، وإن المبدأ النظري الأساس عنده هو تعريفه اللغةَ " كأداة للتواصل ذات تمفصل مزدوج وأداة للتمظهر الصوتي" ومن هنا ينطلق في بناء مفاهيم ستكون مركز اقتراحاته اللسانية ( النظريات اللسانية الكبرى ص 222) وإن أهم تلك المفاهيم التي تدور حولها رحى الوظيفية التقطيعُ المزدوج ( مونيمات - فونيمات ) باعتباره أهم خصائص اللسان البشري، فاللغات البشرية مؤسسة، في الواقع، على تشفير من طبقتين " وكل وحدة من الودات الناتجة عن التمفصل الأول تتمفصل بدورها إلى وحدات من نمط آخر"
مستوى التمفصل الأول: يجعل التمفصل الأول الوحدات الدالة الصغرى تتآلف في ما بينها بحيث تنتظم " التجربة المشتركة بين جميع أعضاء الجماعة اللغوية" كما أن الإمكانية اللامتناهية للتواصل تمنح لكل متكلم، في الآن نفسه، القدرةَ على إنتاج ملفوظات فريدة.
وتتوفر وحدات التمفصل الأول على معنى وصورة صوتية، إنهما دلائل بوجهين، دال ومدلول، يطلق عليهما مارتينيه اسم وحدات دالة. وقد وضع هذا المفهوم ليعرﱢف به وحدات أو بنيات لها ورود تواصلي، معتبرا أن مفهوم الصرفية (morphème) غير إجرائي.
وما كان لهذا التمفصل الأول أن يكون ممكنا إلا لأن الوحدات الدالة تتكون هي نفسها من توالي وحدات أصغر لا تحمل معنى، أي فونيمات: وهذا هو التمفصل الثاني.
مستوى التمفصل الثاني: إذا كانت قائمة الوحدات الدالة (المونيمات) للغة ما مفتوحة (لأن اللغات كلها في تطور مستمر) فإن قائمة الفونيمات مغلقة، وتشكل نسقا كما بين ذلك تروباتسكوي.
إن التمفصل المزدوج يتيح إنتاج كمية هائلة من الرسائل الممكنة، بما أن النسق الصوتي المقتصد جدا يسمح بصياغة آلاف الوحدات الدالة التي هي نفسها يمكن تأليفها لإنتاج عدد لا متناه من الملفوظات،( النظريات اللسانية الكبرى ص 223، 224) وهذا ما يسمى بالاقتصاد اللغوي، وهو إجابة عن سؤالنا: ما الذي مكن الألسنة البشرية الطبيعية، خلافا لنُظُم التواصل الأخرى الحيوانية أو الاصطناعية، من التعبير عن غير المحدود من الأغراض والمعاني بعدد محدود من الفونيمات والمونيمات؟
مارتيني والاقتصاد اللغوي:
ورد مصطلح الاقتصاد اللغوي في مؤلف مارتيني " اقتصاد التغيرات الصوتية" الذي يعد أعظم عمل له في الفونولوجيا الزمانية، حيث يرى أن الإنسان يعيش في صراع قائم بين عالمه الداخلي وعالمه الخارجي، فالعالم الخارجي في تطور مستمر، ويتطلب ابتكار مفردات جديدة، والطبيعة الإنسانية الداخلية ميالة إلى الخمول والجمود، واستعمالِ النزر القليل من المفردات الموجودة حولها. وبالإضافة إلى هذا فإن ثمة صراعا بين حاجيات التواصل التي تؤدي إلى تطوير اللغة من جهة وخمول الأعضاء ونزوعها إلى الاقتصاد في الجهد الذي تتطلبه عملية التلفظ أو التذكر من جهة أخرى. (اللسانيات، النشأة والتطور ص 155)
وفي هذا الإطار يندرج ذلك السؤال الغريب الذي طرحه أحد علماء اللغة المحدثين قائلا: هل تستطيع أن تدلني على أحد يستطيع أن يستغل النفايات بطريقة أخرى أكثر كفاءة وأهمية من استغلال الإنسان لنفايات عملية التنفس؟! لتكون الإجابة بالنفي المطلق، لأن ما تميزت به اللغات الإنسانية من تمفصل مزدوج مكنها- انطلاقا من استخدامها عددا محدودا جدا من الأصوات التي لا معنى لأي منها على انفراد- من تركيب عدد لا يحصى من الوحدات الصوتية ذات المعنى. ولذلك يعود الفضل فيما تُعرف به اللغة من اقتصاد إلى تلك الخصيصة التي مرونة تميزت بها كل الألسنة البشرية الطبيعية، فمكنتها من التعبير انطلاقا من المحدود من الوحدات غير الدالة ( الفونيمات) والوحدات الدالة( المونيمات) عن غير النهائي من المعاني والأغراض، فهو – الاقتصاد اللغوي- حسب مارتيني من أظهر آثار التقطيع المزدوج... ولو كان علينا أن نخص كل وحدة دنيا دالةٍ بإنتاج صوتي منفرد وأصم، أي غير قابل للتحليل، للزمنا أن نميز بين آلاف من هذه الإنتاجات، وهو ما يتجاوز قدرةَ البشر على تنويع النطقِ وطاقتَهم على إرهاف السمع.