إن أهم مرتكز من مرتكزات البنيوية التكوينية هو مفهوم رؤية العالم. هذ المصطلح العميق الضارب بجذوره في التاريخ. إذ أول من استعمل هذا المصطلح هو ديلكي في كتابه "مدخل لدراسة العلوم الإنسانية حول الأساس الذي يمكن أن تقيم عليه دراسة المجتمع والتاريخ"

ثم وضحه أكثر في مؤلف لاحق معنون بـ: "نظرية النظرات إلى العالم حول فلسفة الفلسفة"، يوضح ديلكي أن مفهوم رؤية العالم هو مفهوم إجرائي بل مكون فعال لما يعانيه الفرد ويعيشه، وبناء على ذلك فهو يبدو من اختصاص علم النفس، فإن كل كائن يرد على ما يتولد عن موقفه في المجتمع من مشاكل بواسطة نموذج يبنيه بشكل تدريجي، وحينئذ لا يبدو التحديد المجتمعي إلا عاملا يضفي صيغة الوحدة على تنوع النظرات كما هي عند الأفراد.  

أما ماكس فيبر فيرى أن مفهوم رؤية العالم هو النموذج الذهني الذي يشترك مع النظرة إلى العالم في نقاط متعددة، يقول: "هو نموذج نواجهه بالواقع كي نقيس مدى ابتعاده عنه، ونقيمه انطلاقا من بعض العناصر التي نستقيها من الواقع، ولكي ننتقيها بدلالة السؤال الذي يطرحه الباحث.

إن القاسم المشترك بين المفاهيم المتعددة لرؤية العالم هو "الكلية".

ولكن هذا المفهوم ظل يتسم بالغموض واستعماله في مجالات مغايرة للأدب إلى أن جاء جورج لوكاتش، والذي منه استقى لوسيان غولدمان تعريفه لرؤية العالم بقوله: "إن الرؤية للعالم هي بالتحديد هذه المجموعة من التطلعات والإحساسات والأفكار التي توحد أعضاء مجموعة اجتماعية وفي الغالب أعضاء طبقة اجتماعية. وتجعلهم في تعارض مع المجموعات الأخرى" وهي بذلك منظومة   لفكر مجموعة من البشر الذين يعيشون في ظروف اجتماعية واقتصادية متماثلة.

من خصائص رؤية العالم حسب لوسيان غولدمان أنها ليست فردية، ذلك أن الفرد المبدع لا يخلق بنية فكرية منسجمة من تلقاء نفسه، بل هو فقط يبلورها ويرتقي بها إلى درجة عالية من الانسجام، حتى ترقى إلى مستوى الإبداع الخيالي، إذ إنه يعبر عن أفكار الجماعة بصورة تخييلية لا يستطيع الفرد العادي التعبير عنها. ويجب إدراك أن ليس كل ما يعبر عنه المبدع ناتج عن نواياه ومعتقداته فقد تتحقق الدلالة الموضوعية التي اكتسبها النتاج بمعزل عن رغبة مبدعه وأحيانا ضد رغبته.

يزداد مفهوم رؤية العالم وضوحا مع تطبيقات لوسيان غولدمان له في دراساته لأعمال باسكال ومسرحيات راسين، ونظرته هنا لا تختلف عن نظرة البنيويين حيث يؤكد على: "أهمية اللغة، ويرى أن الرؤية للعالم هي رؤية ماثلة في النص كلغة، إنها النواة فيه تتجلى فيما يحكم بنيته من قوانين، وتبرز منطقا تتجلى به عناصر النص.

 من خصاص رؤية العالم عند غولدمان هو تميزها بميزتين الشمولية والانسجام أو التماسك، وقد شرح جمال شحيد هذه النقطة من خلال إعطائه مثالا على مبدأ الشمولية والكلية بالعلاقة الوطيدة بين التفاح والشجرة، فدراسة التفاحة بحد ذاتها مهمة، ولكنها تصبح أهم وأشمل إن لم تنفصل عن الشجرة والمحيط الذي عاشت فيه. فلا يمكن فهم الجزء إلا في إطار الكل، ويعرف غولدمان الشمولية بمثال استوحاه من دراسته لخواطر باسكال حيث قال: "إن البنية الداخلية للأعمال الفلسفية أو الأدبية أو الفنية العظمى صادرة عن كون هذه الأعمال تعبر في مستوى يتمتع بانسجام كبير عن مواقف كلية يتخذها الإنسان أمام المشاكل الأساسية التي تطرحها العلاقات فيما بين البشر والعلاقات بين هؤلاء وبين الطبيعة.

آخر تعديل: الأحد، 28 أبريل 2024، 7:33 PM