مدخل: المدرسة/الحلقة/النظرية
المصطلحات مفاتيح العلوم، ولذلك يحسن استهلال مادة المدارس اللسانية بالتطرق لمفاهيم عامة متعلقة بمصطلحات متقاربة غير أنها ليست مترادفة، ومن ذلك مصطلحات المدرسة، الحلقة، النظرية...إلخ. مع الإشارة إلى أنه كثيرا ما يوصف تجمع أو مصطلح ما كبراغ أو كوبنهاجن أو غيرهما بأنه مدرسة أحيانا أو حلقة أحيانا أخرى، فيقال مدرسة براغ كما يقال حلقة براغ! وهو ما يولد ارتباكا لدى الطالب بين كون هذه المصطلحات من قبيل المترادف أم من المختلف، ولذلك يحسن الوقوف على مفاهيمها أولا.
مفهوم المدرسة:
المدرسة اسم مكان لما يتم فيه الدرسُ والنظر العلمي العميق، وهو لغة من الجذر(د، ر، س) وقد جاء في اللسان " ودُرِسَ الطعامُ يُدْرسُ دِراساً إِذا دِيسَ... ودَرَسُوا الحِنْطَة دِراساً أَي داسُوها... ودَرَسَ الناقة يَدْرُسُها دَرْساً راضها... ودَرَسَ الكتابَ يَدْرُسُه دَرْساً ودِراسَةً ودارَسَه من ذلك كأَنه عانده حتى انقاد لحفظه... ودَرَسْتُ الكتاب أَدْرُسُه دَرْساً أَي ذللته بكثرة القراءة حتى خَفَّ حفظه عليَّ "
أما اصطلاحا فلا يرتبط مفهوم المدرسة بالمكان بقدر ما يرتبط بالمذهب ووجهة النظر، وقد جاء في المعجم الوسيط:" المدرسة جماعة من الفلاسفة أو المفكرين أو الباحثين تعتنق مذهبا معينا أو تقول برأي مشترك، ويقال هو من مدرسة فلان على رأيه ومذهبه."
وهي عند محمد حسين آل ياسين " لفظ يطلق على جماعة من الدارسين تشترك في وجهة النظر، ويكون لها منهج خاص يؤلف منها جبهة علمية، ويرتبط أفرادها برباط الرأي الموحد."
وللمدرسة شروط بغض النظر عن كونها مدرسة لسانية أو نحوية أو أدبية أو نقدية أو غيرها، وقد عرف أحمد مختار عمر المدرسة ممثلا بالمدرسة النحوية بقوله:" إن هذا المصطلح يعني في نظرنا وجود جماعة من النحاة، يصل بينهم رباط من وحدة الفكر والمنهج في دراسة النحو. ولابد أن يكون هناك الرائد الذي يرسم الخطة ويحدد المنهج، والتابعون أو المريدون الذين يقتفون خطاه ويتبنون منهجه، ويعملون على تطويره والدفاع عنه. فاستمرار النظرية، أو المنهج، ودوامها عبر السنين شرط أساسي لتكون المدرسة التي لا يمكن أن تستحق هذا الاسم، أو يعترف بوجودها بمجرد مولد النظرية أو خلقها، حتى تعيش ويكتب لها البقاء لبعض الوقت بين المريدين."
فمصطلح المدرسة مصطلح حديث في البيئة العربية ينم عن تأثر بالغربيين الذين شاع عندهم هذا المصطلح خاصة في الدراسات الأدبية كالمدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومنسية والمدرسة الواقعية والمدرسة الرمزية، وكذلك الدراسات اللسانية كمدرسة جنيف والمدرسة التوزيعية والمدرسة السياقية... وتعود بدايات استخدام هذا المصطلح في البيئة العربية إلى المستشرق كوتولد فايل G.Weil في مقدمة كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف) لأبي البركات الأنباري، وقد تبعه كارل بروكلمان في كتاب (تاريخ الأدب العربي). أما من أوائل العرب استخداما لهذا المصطلح في الدراسات اللغوية فنذكر الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو)، ثم شوقي ضيف من خلال كتابه (المدارس النحوية) وعبد الرحمن السيد من خلال كتابه (مدرسة البصرة النحوية ).
مفهوم الحلقة: أما الحلقة فغالبا ما ترتبط بالمدرسة، كأن تشتمل المدرسة الواحدة على حلقات متعددة كالفروع التابعة للأصل، ومن ذلك يتضح أن الحلقة لا تتمتع باستقلالية في الفكر والمنهج مقارنة بالمدرسة، هذا فضلا عن كونها صغيرة مقارنة بالأخرى، ولذلك كثيرا ما يصف بعضُ الدارسين بعضَ التجمعات اللسانية بقولهم فيها:( لا ترقى إلى وصفها بالمدرسة) كما هي حال براغ وكوبنهاجن، بينما يكبر آخرون من شأنها، ويرون فيها تجديدا في الطرح واستقلالية في الفكر والمنهج فيصفونها بالمدرسة.
مفهوم النظرية: النظرية لغة من الجذر (ن، ظ، ر) قال ابن فارس:" النون والظاء والراء أصلٌ صحيح يرجع فروعُه إلى معنىً واحد وهو تأمُّلُ الشّيءِ ومعاينتُه، ثم يُستعار ويُتَّسَع فيه. فيقال: نظرت إلى الشّيءِ أنظُر إليه، إذا عاينْتَه."
أما اصطلاحا فهي كما عرفها عبد القادر الفاسي الفهري " بناء عقلي يتوق إلى ربط أكبر عدد من الظواهر الملاحظة بقوانين خاصة تكوّن مجموعة متّسقة يحكمها مبدأ عام هو مبدأ التفسير" والأصل في النظرية أن ترتبط بشخص معين تنسب إليه ويتبعه فيها باحثون آخرون.
ولا بد من الإشارة إلى أن لكل نظرية لسانية منطلقات فكرية وخلفيات فلسفية تستند إليها، فلا يمكن في الغالب الحديث عن نظرية منطلقة من فراغ على الرغم من كونها تكوينا افتراضيا يمكّن الباحثَ من تفسير بعض الظواهر المعينة أو عرض بعض الحوادث التي هو مهتم بها.
ومن شروط النظرية اللغوية المقترحة التي تسعى الى فرض نفسها ان تتجاوز بقيةَ النظريات اللسانية الكائنة - قديمها وحديثها- وذلك باستيعابها صواب النظريات والنماذج السابقة، وتصويبها هفواتها المعرفية، وسدِها ثغراتها المنهجية، ومن ثم وجب أن تتوفر فيها القدرة على حل ازمة فكرية متجذرة في حقل الدراسات اللغوية. كما ان من شروطها ايضا ان يُشكل وجود النظرية المستحدثة نظرةً جديدة الى اللغة اذا طورت هذه النظرية معرفتنا باللغات البشرية، ويفترض عندئذ ان تحدث ثورة علمية في حقل الدراسات اللغوية، اذا حصرت الانماط اللغوية ووفرت مت يلزم من النماذج النحوية.
كما يجب أن تخضع كل نظرية للتجريب والمساءلة ومحاولة تكذيبها أيضا، فمن خلال ذلك يتم تقويمها فيشتد عودها وتثبت صحتها، لأن " الفكر لا تكتمل له قدرة الإبداع إلا حين يعي نفسه، ويلتف على حضوره بما يجعل منه فاعلا للمساءلة وموضوعا لها"، وكذلك الأمر بالنسبة للفكر اللساني الذي يسعى لأن يصنع لنفسه مكانةً بين العلوم بما يطرحه من نظريات علمية متكاملة الأركان، ف " اللسانيات مثلها في ذلك مثل سائر العلوم لا تختص فقط بمجرد تجميع الحقائق بل تختص أيضا ببناء نسق من المفاهيم المجردة مما يعتبر تفسيرا أو تعليلا كافيا للخواص التي تبرزها اللغات"
ولأن النظريات تشكل أساسا متينا في بناء المعرفة وجب عدم الخلط بينها وبين مصطلحات أخرى كوجهة النظر، والرأي، والاتجاه...إلخ، لكون النظرية أكثر صدقا ودقة وعلمية مقارنةً بالاتجاهات والآراء ووجهات النظر.