على الرغم من عراقة البحث اللغوي البريطاني الذي تعود بدايته الفعلية إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وما عرفه من نمو وتطور منذ القرن السادس عشر خاصة في مجال الصوتيات واللهجات وتعليمية اللغات والتهجئة والتخطيط اللغوي... وغيرها من القضايا العملية التطبيقية، إلا أن هذه النظرية قد اقترنت باسم اللغوي جون روبيرت فيرث Firth J.R. (1890م- 1960م) الذي يعتبر أول من جعل اللسانيات علما معترفا به في بريطانيا خاصة بعد تأثره بالأنثروبولوجي البولندي المعروف مالينوفسكي B.Malinowski في حديثه عن سياق الحال context of situation، وقد كانت نظريته تحديا لبنائية – سلوكية- بلومفيلد في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. كما كانت لبنة من لبنات الدراسة اللغوية البريطانية، ومعلوم أن الدافع الرئيس الذي حرك تلك الدراسات هو اتساع رقعة الإمبراطورية البريطانية بشكل مذهل، وازدياد الحاجة الماسة لدراسة اللغات الشرقية والإفريقية لأغراض متعددة، فكان من بين هؤلاء اللسانيين وليم جونز الذي كشف النقاب عن القرابة القائمة بين اللغة السنسكريتية واللغات الأوربية الكلاسيكية، وفيرث الذي أعطى نفسا جديدا للدراسات اللغوية البريطانية وجعلها تصطبغ بصبغته الخاصة.

فالسياقية الفيرثية –إذن- ثمرة جهود متوالية عبر قرون من الزمن اصطبغت بها الدراسات اللسانية البريطانية التي شارك فيها –قبل فيرث- علماء كبار منهم: عائلة بال خاصة ألكسندر ملفيل بال Alexander Melville Bell(1890م- 1960م)، وابنه ألكسندر جراهام بال Alexander Graham Bell(1890م- 1960م) مخترع جهاز الهاتف.

 وهنري سويت Henry Sweet (1845م- 1912م) وهو أشهر اللسانيين التاريخيين البريطانيين في القرن التاسع عشر، وقد كان متأثرا بأعمال عائلة بال مهتما بالصوتيات متمكنا فيها، وقد عد بحق أب الأبجدية الصوتية العالمية.

 ودانيال جونز Daniel Johns(1881م- 1967م) الذي سار مقتفيا منهج سويت في الدراسة الصوتية.

وقد تميزت هذه المدرسة – خاصة في عهدها الفيرثي- بفلسفة الأحديّة، إيمانا من صاحبها بأن ثمة مبدأً غائيا واحدا ألا وهو المادة، فكان يرفض باستمرار بناء فكره اللغوي على ما يسمى بالثنائيات التي يصعب تحقيقها من الناحية العملية، وذلك على خلاف ما ذهب إليه دي سوسير تماما.

ولتفضيل علماء بريطانيا الأشياءَ العملية التطبيقية على الأشياء النظرية فإنهم لم يدرسوا اللغات لذلتها-خلافا لما دعا إليه دي سوسير- بل درسوها رغبة في منفعتها العاجلة، ومن ثم اهتموا بالكلام الفعلي أو استعمال اللغة في إطار المجتمع، خلافا لكثير من المدارس الأخرى التي أهملته وركزت على اللغة كنظام صوري مجرد، وهو ما جعل المدرسة البريطانية تولى العناية للجانب الاجتماعي في الدراسة اللسانية، ولذلك سميت بالمدرسة الاجتماعية، يقول فيرث:" إن اللغة ينبغي أن تدرس بوصفها جزءا من المسار الاجتماعي، أي كشكل من أشكال الحياة الإنسانية، وليس كمجموعة من العلامات الاعتباطية أو الإشارات."

ولما كان المعنى هو الأساس في عملية التواصل القائمة بين المتكلم والمستمع، وهو ما يهدف المتكلم إلى إيصاله في رسالته إلى متلقٍ أو أفراد المجتمع، فلقد ركزت على دراسته ووصفت الضوابط التي تتحكم في الاستخدام الفعلي للغة لدى الجماعة اللغوية، وهو ما قادها إلى التأكيد على السياق في تحديد معاني الكلمات، ولهذا تنعت بالمدرسة السياقية، وهو الأمر الذي جعلها مدرسة غير بنيوية.

والسياق هو مجموعة الظروف الطبيعية والاجتماعية والثقافية والنفسية التي يوجد ضمنها ملفوظ معين أو خطاب، وترى اللسانيات أن السياق هو مجموع العناصر الصوتية والصرفية والتركيبية التي تسبق أو تلحق وحدة لسانية داخل ملفوظ معين. ولذلك لا يُبحث عن معنى الكلمة بل عن استعمالها. لأن لها معنى أساسيا وآخر سياقيا، فالسياق هو الذي يوضح الغرض المقصود الذي من أجله وظفت هذه الكلمة أو تلك، ومن ثم لا يمكن الاعتماد على المعنى الحرفي للكلمة ولا المعنى الحرفي للجملة في بعض الاستعمالات، وفي هذا الإطار يقول برتراند رسل:" الكلمة تحمل معنى غامضا لدرجة ما، ولكن المعنى يكتشف فقط عن طريق ملاحظة استعماله، الاستعمال يأتي أولا وحينئذ يتقطر المعنى منه."، ومثال ذلك الفعل(ضرب) الذي يحمل دلالة مطلقة لعدم ارتباطها بسياق لغوي معين، غير أن معناه سرعان ما يتحدد ويتضح بمجرد تسييقه كقولنا:

-       ضرب السيد خادمه (بمعنى عاقب)

-       ضرب اللاعب الكرة(بمعنى سدد ورمى)

-       ضرب الأستاذ مثالا من التاريخ القديم(بمعنى قدم)

-       ضرب الرجل أخماسا في أسداس(بمعنى فكر)

-       ضرب الرجل في الأرض(بمعنى سافر)

فالفعل واحد في تلك التراكيب، لكنه اتخذ معاني متعددة ولدتها السياقات اللغوية المختلفة التي ورد فيها.

وفي المقابل لو سمعنا جملة (أتممت العملية) في بيئات لوقفنا على المراد منها من خلال ملاحظة السياق غير اللغوي كشخصية المتحدث وزمان ومكان الحديث والأثر الذي يتركه الحديث على من يسمعه... فيكون معنى تلك الجملة عملية حسابية إذا سمعناه من تلميذ أو في محيط المدرسة، ويكون معناها عملية عسكرية إذا سمعناها من عسكري أو في محيط الثكنة، بينما يكون معناها عملية جراحية إذا سمعناها من طبيب أو في محيط المستشفى. فعلى الرغم من أن الجملة واحدة إلا أن معانيها مختلفة تبعا لاختلاف السياقات غير اللغوية التي أحاطت بها.

   فمن أجل الوقوف على المعنى الصحيح للكلمة أكدت النظرية على أهمية الوقوف على السياقات المختلفة التي ترد فيها، سواء منها السياقات اللغوية والسياقات غير اللغوية (الموقفية)، لأن معنى العبارات لا يتضح ولا يكون جليا إلا إذا روعيت الأنماط الحياتية للجماعة المتكلمة، وكذا الحياة الثقافية والعاطفية والعلاقات التي تؤلف بين الأفراد داخل المجتمع، فمعنى الكلام ليس سوى حصيلة لهذه العلاقات، وإهمالها يؤدي حتما إلى غيابِ المعنى وعدمِ الوقوف على حقيقته، ولذلك يصر فيرث على اعتبار اللغة جزءا من المسار الاجتماعي، ومن ثم فإن استخراج الدلالات اللسانية لا يكون ناجحا إلا إذا رُبطت اللغة بالقضايا الاجتماعية، السياسية، الإنسانية للمجتمع.

إذن إن فيرث يرى أنه لا يتم تحرير المعنى والوقوف عليه إلا بمراعاة السياقين اللغوي وغير اللغوي اللذين ورد فيهما الحدث الكلامي، ومن ثم لا يُعرف معنى أي نص لغوي إلا بتحليله في المستويات اللغوية المختلفة، ثم بيان وظيفة هذا النص اللغوي ومقامه، ثم بيان الأثر الذي يتركه على من يسمعه... فالمعنى عنده يحتاج لبيانه إلى دراسة النواحي الصوتية والصرفية والنحوية والقاموسية، والوظيفة الدلالية لسياق الحال، ثم تستخلص نتائج تلك الدراسات، ويضم بعضها إلى بعض للتوصل إلى المعنى المطلوب، فكلمة(ولد) مثلا لها معنى مركب هو مجموع عدة وظائف وخصائص تتبين في: الوظيفة الصوتية، والمعنى القاموسي، والمعنى الصرفي، والمعنى النحوي، والمعنى الاجتماعي حسب اختلاف المقام والأحوال والملابسات الخارجية، وشخصية المتكلم والسامع، والناحية الصوتية من تنغيم وموسيقى، وما يصحب الكلام من حركات جسمية.

   وقد صرح فيرث بأن المعنى لا ينكشف إلا من خلال تسييق الوحدة اللغوية أي وضعها في سياقات مختلفة. ومن ثم كان سياق الحال (الموقف) عنده مكونا من مجموع العناصر المكونة للحدث الكلامي، وتشمل هذه العناصر التكوين الثقافي للمشاركين في هذا الحدث، والظروف الاجتماعية المحيطة به، والأثر الذي يتركه على المشاركين فيه. فالمعنى يفسر عنده بأنه " الوظيفة في سياق."

   ومما يمكن التنبيه عليه في هذا المقام الاعتراف بأن علماء العرب القدامى قد تنبهوا إلى أهمية المقام – سياق الحال-  في فهم دلالات الألفاظ، حتى قالوا: لكل مقام مقال، ولكل مقتضى حال، ومن ذلك اعتناؤهم -  خاصة المفسرين منهم – بأسباب النزول في فهم معاني القرآن الكريم، وهي –أي أسباب النزول- من السياق غير اللغوي(الموقف).

Last modified: Tuesday, 26 March 2024, 2:40 AM