إن الفضل في تخليص الدرس اللغوي في أمريكا من الأنثروبولوجيا وإقامته على أسس متينة فرض من خلالها نفسَه بنفسه يعود إلى المهندس الفعلي للمنهجين السلوكي والتوزيعي ليونارد بلومفيلد  Leonard Bloomfiel (1887م- 1949م) الذي يعتبر في أمريكا بمثابة دي سوسير في أوربا، حيث دفعه تأثره بالتيار الوضعي وعلم النفس السلوكي ( Behaviorisme) إلى مراجعة كتابه الصادر سنة 1914 (مقدمة في علم اللسان) حتى يتوافق مع تلك النظرة الآلية السلوكية التي تبناها في مرحلة لاحقة، فطرح بذلك كتابه (اللغة) الذي يساوي أو يفوق في القيمة كتاب دي سوسير حتى عده لسانيو أمريكا (إنجيل اللسانيات)

فهذا المذهب اللساني البنيوي الأمريكي المرحلي ذو علاقة وطيدة بعلم النفس السلوكي الذي برع فيه واطسن، و" إن ما يمكن تحديده في الدراسة اللسانية التي توقف عندها بلومفيلد أن المتكلم عند تلفظه بالحدث الكلامي، فإن ذلك يتم تحت تأثير ظروف معينة (منبه) هذا الأخير يتطلب رد فعل (استجابة) من المخاطب" ( حنيفي بن ناصر ومختار لزعر- اللسانيات منطلقاتها النظرية وتعميقاتها المنهجية- ط2- ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2011م، ص 57.)

 واللغة عند بلومفيلد نوع من أنواع الاستجابة الآلية لمثير معين، فهي ليست سوى شكل من أشكال السلوك المرئي، وقد بسط هذا المفهوم من خلال قصة (جاك وجيل) " حيث كانا يسيران فإذا بجيل ترى تفاحة، وبدافع الجوع تقوم بإحداث صوت بحنجرتها ولسانها وشفتيها، فيقوم جاك بإحضار التفاحة ووضعها في يدها لتأكلها." فالجوع بمثابة مثير أو منبه، والصوت الذي أحدثته جيل (أي الكلام) بمثابة استجابة لذلك المثير، ويقوم في الوقت نفسه مقام المنبه بالنسبة إلى جاك الذي يستجيب له بإحضار التفاحة. فهو بهذا يعد التواصل اللغوي نوعا من الاستجابات لمثيرات تقدمها البيئة أو المحيط ومن ثم فإن اللغة لا تعدو عنده، وعند السلوكيين بصفة عامة، أن تكون عادات صوتية يكيفها حافز البيئة.

وقد هيمن الفكر البلومفيلدي السلوكي المستمد من أفكار واطسن على الدراسة اللسانية الأمريكية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، حيث سعى بلومفيلد لتطبيق فرضيات السلوكيين على الظاهرة اللغوية، ومن ثم اعتبر الأحداث اللسانية ظواهرَ سلوكية من نوع خاص، ولذلك " كان للنظرية السلوكية الأثر البالغ في الدراسات اللسانية التي سادت في منتصف القرن العشرين، فهي تعد من نظريات علم النفس التي توغلت في جميع الميادين العلمية آنذاك، ومن بينها المجال اللساني فأخذت تحلل الأشكال اللغوية كما هي في الواقع اللغوي دون مبالاة بالمعنى المتواري خلف البنية الظاهرة، وقد استقى زعيم هذه النظرية – كما أسلفنا الذكر- الباحث اللساني الأمريكي بلومفيلد (1887م- 1949م) أفكاره من واتسون مبتدع علم النفس السلوكي والذي يرى هو وتلاميذه أن الهدف علميا ومنهجيا في علم النفس لا يرتكز على برهنة وجود الفكر أو وجود أي شيء آخر لا يخضع للملاحظة المباشرة. وبهذا فإنه يعزل كل المعطيات التي لا تخضع للملاحظة المباشرة أو ما يسمى بالجانب المادي للظاهرة." ( حنيفي بن ناصر ومختار لزعر- اللسانيات منطلقاتها النظرية وتعميقاتها المنهجية- ط2- ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2011م، ص 57.) ولذلك شاع عن هذه النظرية البلومفيلدية قضية إقصاء المعنى، فما المراد بذلك؟

إقصاء المعنى عند بلومفيلد:

ينبغي ألا يُفهم من الإقصاء عدمُ اعتراف بلومفيلد بالمعنى، لأن ذلك ضرب من الجنون، وإنما يتعلق ذلك بما عُرف عن التوزيعيين من رفضهم البحثَ عن موجودات مفترضة تختفي وراء عناصر الجملة وتعد أسبابا لها، لأن كل شيء في الوصف اللساني –حسب التوزيعيين- يجري على السطح المنطوق أو المكتوب، وكل محاولة تسعى إلى البحث عن أشياء خلف السطح هي وهم منهجي عقيم، ولهذا يصر التوزيعيون على استبعاد المعنى استبعادا كليا من التحليل اللغوي، لا لأنه لا أهمية له، بل لإيمان أصحاب هذا الاتجاه بأن المعنى –لطبيعته المجردة- لا يمكن إخضاعه للدراسة الوصفية الدقيقة.

   فبلومفيلد- ولكونه لا يؤمن إلا بما يمكن ملاحظته علانية- قد خالف النظرية التصورية المركزة على الفكرة أو التصور، وشكك في كل المصطلحات الذهنية كالعقل والتصور والفكرة... كما لم يركز إلا على الأحداث الممكن ملاحظتها وتسجيلها، وعلى علاقتها بالموقف الذي يتم إنتاجها فيه، ولذلك اعترف بلومفيلد بأن دراسة المعنى –نظرا لطبيعته المجردة- تعد أضعف حلقة في الدراسة اللغوية، إذ " لا يمكن أن يطمع للوصول بأي حالة للدقة العلمية المتاحة للتحليل الشكلي للمادة اللغوية كما تلاحظ وتسجل، وأن أي تحليل للمعاني يتطلب معرفة واسعة من خارج علم اللغة نفسه، وأن المعاني الصحيحة أو المفترضة لا يمكن أن تستعمل بشكل صحيح بوصفها معايير في الخطوات التحليلية لهذه الأسباب فقط، ولصعوبة الوصول للدقة فإن التحليل يخفق، وبذلك تخفق المعايير، ومن السهل أن نجد أمثلة على ذلك: فالسؤال عما إذا كان (غروب الشمس) شيئا أو حالة أو عملية في الزمان، سؤال يمكن الجدال حوله بلا نهاية، وكذلك وضع (حقل الحبوب) بوصفه فرديا أو جمعيا هو وضع غير محدد".

    أما عن مفهوم المعنى فهو عند بلومفيلد محصلة الموقف الذي يحدث فيه الكلام المعين من خلال عنصرين أساسيين هما: المثير والاستجابة، باعتبارهما عنصرين قابلين للملاحظة في المنطوقات، ولذلك عرف معنى الصيغة اللغوية بأنه (الموقف الذي ينطقها المتكلم فيه، والاستجابة التي تستدعيها من السامع)، فعن طريق نطق صيغة لغوية يحثّ المتكلم سامعه على الاستجابة لموقف، هذا الموقف وتلك الاستجابة هما المعنى اللغوي للصيغة."

إن اختصار بلومفيلد لمكونات العملية الكلامية في: الحدث السابق لعملية الكلام، والكلام، والحدث الذي يلي الكلام، جعله يلغي المفهوم الذهني للسلوك اللغوي، وقد انعكس ذلك على منهجه في التعامل مع البنية اللغوية فكان منهجا ميكانيكيا آليا يصر من خلاله على تحليل كل من الأنظمة الثلاثة الظاهرة للغة: النظام الصوتي، والنظام الصرفي، والنظام النحوي، كلٌ على حدة بمعزل عن النظام الآخر، مصرا في الوقت نفسه على استبعاد المعنى استبعادا كليا من التحليل اللغوي، ليس لأنه لا أهمية له، بل لإيمان أصحاب هذا الاتجاه بأن المعنى لا يمكن إخضاعه لنوع الدراسة الوصفية العلمية الدقيقة التي يمكن أن تخضع لها الأنظمة الظاهرة الأخرى – الصوتي، الصرفي، التركيبي- حيث تحلل الجمل إلى مجموعة من المؤلفات المباشرة وصولا إلى المؤلفات النهائية ثم الفونيمات، وذلك من خلال استعراض المكونات اللغوية الجزئية للبنية، أو وحداتها التمييزية، وقد عرف ذلك التحليل بالاعتماد على المؤلِفات المباشرة – كما سنرى- تطورا ملموسا بعد أن اعتمده اللسانيون المتأثرون بالمنهج البلومفيلدي أمثال زليج هارِيس Zelig Haris، وشارل هوكيت Charles Hockett، وبرنارد بلوك  Bernard Bloch، إلى جانب بيك Kanneth Lee Pike  صاحب تسمية الطاقميمية.

    إن هذه النظرية السلوكية الآلية المشبهة للسلوك اللغوي للإنسان بسلوك الحيوان من حيث الخضوع لمبدأ المثير والاستجابة قد تجاهلت تميّز الإنسان عن باقي الحيوانات بالعقل الذي يعد ملكة مبدعة لا توجد في غير جنس البشر، كما تجاهلت الجانب الخلاق في اللغة وهو الجانب الذي أكد عليه كثير من اللسانيين والفلاسفة العقلانيين أمثال ديكارت وهمبولت، وعوّل عليه تشومسكي في نقد التوجه السلوكي وتقويض أركانه. بل إن بلومفيلد نفسه لم يعول على هذا التفسير السلوكي للغة تعويلا كاملا لكونه تفسيرا سطحيا يجرد الإنسان من صور التفكير العقلي وينزل بسلوكه الى مرتبة السلوك الحيواني " ولعل هذا ما يفسر لنا عدم استمرار التفسير السلوكي للغة، سواء عند بلومفيلد أم عند أتباعه... ومن اجل ذلك لم نجد صدى لهذه الفكرة، ليس عند أتباع بلومفيلد فحسب، بل حتى عند بلومفيلد نفسه، إذ لم يعرض للتفسير السلوكي إلا في الفصل الثاني من كتابه، لينتهي به عند هذا الفصل، ثم يتحول في فصوله اللاحقة إلى معالجة اللغة وفق إطار منهجي مختلف ألا وهو التوزيع الذي طغى على فصوله اللاحقة." (هدى صلاح رشيد- تأصيل النظريات اللسانية الحديثة في التراث اللغوي عند العرب - ط1- منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة- 2025م، ص 243 )

Last modified: Tuesday, 26 March 2024, 2:35 AM