شاعت البنيوية إثر ذلك التحول المعرفي والموضوعي الذي طرحه اللساني الشهير دي سوسير Ferdinand De Saussure ( 1857- 1913م)  في مجال الدرس اللغوي، والذي أحدث من خلاله قطيعة بين ما كان سائدا من درس لساني تاريخي ومقارن غير مهتم باللغة في ذاتها، وبين ما دعا إليه من درس مهتم بتناول اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها، وهو الدرس الذي انطلق فيه الرجل من مفهوم النظام أو النسق، وقد قدم في سبيل شرحه مجموعة من الثنائيات المتقابلة.

والبنيوية لغة من البناء والطريقة، وكذلك تدل على معنى التشييد والعمارة والكيفية التي يكون عليها البناء، او الكيفية التي شُيد عليهان وكلمة بنية في اصلها تحمل معنى المجموع والكل المؤلف من ظواهر متماسكة يتوقف كل منها على ما عداه، ويتحدد من خلال علاقته بما عداه.

أما اصطلاحا فهي " نظام من علاقات داخلية ثابتة، يحدد السمات الجوهرية لأي كيان، ويشكل كلا متكاملا لا يمكن اختزاله الى مجرد حاصل مجموع عناصره، وبكلمات اخرى يشير الى نظام يحكم هذه العناصر فيما يتعلق بكيفية وجودها وقوانين تطورها" (لوسيان سيف.......)

أما ليونارد جاكسون فيرى ان البنيوية " هي القيام بدراسة ظواهر مختلفة كالمجتمعات والعقول واللغات والاساطير بوصف كلٍ منها نظاما تاما، او كلاً مترابطا، أي بوصفها بنياتٍ، فتتم دراستها من حيث أنساق ترابطها الداخلية، لا من حيث هي مجموعات من الوحدات او العناصر المنعزلة، ولا من حيث تعاقبها التاريخي."

وقد ظهرت البنيوية اللسانية إثر صدور كتاب دي سوسير محاضرات في اللسانيات العامة سنة 1916م، والذي تبنى فيه الرجل منهجا ارتبطت به اللسانيات الحديثة أكثر من غيره لكونه أكثر علمية، وهو المنهج الوصفي القائم على المعاينة والملاحظة المباشرة للظاهرة المدروسة، ومن ثم دعا إلى ضرورة دراسة اللغة في ذاتها داخليا، وإلى تقديم اللغة الآنية المنطوقة، دون اشتغال بالعوامل الخارجية – السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية...- التي أثرت على اللغة فأدت إلى تغيرها. وبذلك صار الرجل أبا للسانيات الحديثة دون منازع ورائدَ البنيوية الأول – غير أنه ليس البنيوي الوحيد-.

 وقد أجمعت كل تعريفات اللسانيات Linguistique على كونها دراسة اللغة دراسة علمية، ومن ثم يصلح تطبيق منهجها على كل لغات العالم دون تمييز، شأن اللغة في ذلك شأن كل الظواهر المقصودة بالدراسة العلمية، ولذلك عُرفت بتعريفات عديدة لكنها متفقة حول كونها: العلم الذي يدرس اللغة الإنسانية دراسة علمية تقوم على الوصف ومعاينة الوقائع، بعيدا عن النزعة التعليمية والأحكام المعيارية.

وقد انطلق دي سوسير في دراسته اللسانية البنيوية من فكرة النظام أو النسق، وأقامها على مجموعة من الثنائيات المتعارضة، سواء منها ما تعلق بموضوع الدراسة اللسانية أو ما تعلق بمنهجها، وهي:

1- ثنائية اللسان  La Langue والكلام  La Parole:

اللسانيون الوصفيون المحدثون، وعلى رأسهم دي سوسير يفرقون بين مصطلحات طالما اعتقد من سبقوهم أنها ذات معنى واحد، وقد تناول دي سوسير ثنائية (اللسان  La Langue والكلام  La Parole) قصد معرفة أي شقي هذه الثنائية يعد موضوعا صالحا للدراسة اللسانية، ومن ثم تعلقت هذه الثنائية بموضوع الدراسة اللسانية، حيث اختلف مفهوم اللسان  La Langueعند دي سوسير –باعتباره موضوع الدرس اللساني- عن مفهومه لدى من سبقوه، وهو الأمر الذي وضحه من خلال هذه الثنائية، حيث لم يهتد أولئك القدماء إلى التفريق أو رسم حدود فاصلة بين المفردتين فاعتبروهما بمعنى واحد، ولذلك عقد دي سوسير بينهما مقارنة قصد تبيان أوجه الاختلاف بينهما، وتبيان أيهما أجدر بأن يكون موضوعا للدراسة اللسانية، فكان أهم ما ركز عليه هو فكرة النظام التي ارتبطت باسمه وكانت أهم كشوفاته، حيث تصدق عنده على أحد شقي هذه الثنائية دون الآخر.

انطلق دي سوسير في تفريقه بين شقي هذه الثنائية من ثالوث ( اللغة Le Langage/ اللسان La Langue/ الكلام La Parole) حيث كثيرا ما تتداخل مفاهيم هذه المصطلحات فلا يفرق الناس بينها، وربما اعتبروها مترادفات، ولذلك – ورغبة منه في تحديد أيّ منها يصلح موضوعا للسانيات- فرق بينها باعتبار بعضها متضمنا لبعض حسب الترتيب الذي ذكرناه.

فاللغة  Le Langage: هي اللغة الإنسانية بصفة عامة، وهي ملكة إنسانية تمثل ما تميز به الإنسان بشكل عام عن باقي الكائنات الحية الحيوانية من وسيلة اتصالية راقية لا تشبه طرائق الحيوانات في الاتصال، ولذلك – إذا ما أردنا أن نذكر ما تميز به الإنسان- قلنا: إنه عاقل، إنه مفكر، إنه ذو لغة... فاللغة الحقيقية إذن – باعتبارها ملكة- لا تنسب إلا إلى الإنسان، وهي لغة واحدة غير متعددة، غير أنها لا تُدرك إلا في إطار مجتمعي معيّن فتسمى حينئذ لسانا، وهو – وإن كان بشريا- إلا أنه يختلف من مجتمع إلى آخر فيتعدد لأجل ذلك.

وبهذا يتضح أن اللغة  Le Langage– لأنها إنسانية- أعم من اللسان  La Langue– لأنه مجتمعي فقط-، وإنّ هذه اللغة  Le Langage ذات جانبين: جانب جماعيLa Langue، وجانب فرديLa Parole، ولا يمكن تصور أحدهما بغير الآخر.

أما اللسان La Langue: فمختلف عن اللغة، لأنه يعني اللغة المعينة، كالعربية والفرنسية والإنجليزية... فهو جزء محدد من اللغة، وهو جزء جوهري لكونه نتاجا اجتماعيا لملكة اللغة، ومجموعةً من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة تلك الملكة، فممارسة هذه الملكة لا يكون إلا بمساعدة الوسيلة التي تبدعها المجموعة وتضعها في خدمة هذه الملكة. فاللسان إذن ظاهرة اجتماعية تمثل نظاما من العلامات التي تعارف عليها أبناء مجتمع معين وتوارثوها جيلا عن جيل فمكّنتهم من التواصل فيما بينهم فقط، ولذلك يمكن القول إن اللسان La Langue: نظام من العلامات الصوتية الاعتباطية التي تُستخدم في الاتصال بين بني الإنسان.

وليس للسان  La Langueتحقق فعلي، لأنه عبارة عن قوانين وقواعد لغوية ( مجردة غير محسوسة) محصورة موزعة على أذهان أبناء المجتمع الواحد، أو هو كما – كما عرّفه دي سوسير-" رصيد (trésor) يُستودع في الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمع واحد بفضل مباشرتهم للكلام، وهو نظام نحوي يوجد وجودا (تقديريا) في كل دماغ، أو على الأصح في أدمغة المجموع من الأشخاص، لأن اللسان لا يوجد كله عند أحد منهم بل وجوده بالتمام لا يحصل إلا عند الجماعة."

والناس حين يتواصلون-ويحصل بينهم فهم متبادل- لا يتكلمون القواعد(لأنها مجردة غير محسوسة) وإنما ينشئون كلاما(مادي محسوس) منطوقا أو مكتوبا، ويتفاوتون في ذلك، انطلاقا من تلك القواعد ووفقا لها، فينقلون " اللغة من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل عن طريق الكلام أو الاستعمال". فطبيعة اللسان La Langue تختلف عن طبيعة ما ينتجه اللسان، وهو الذي سماه دي سوسير كلاما  La Parole كما سنتعرف على ذلك.

أما الكلام La Parole: فهو التأدية الفعلية الفردية للسان، أي ما ينتجه فرد ما داخل مجتمعه انطلاقا مما يعرفه من نظام وقوانين وقواعد لسانِه ( كاللسان العربي أو الفرنسي أو الإنجليزي...) ولذلك فهو " نشاط شخصي مراقب، يمكن ملاحظته من خلال كلام الأفراد أو كتاباتهم." ومن ثم يتعدد الكلام داخل المجتمع الواحد بتعدد الأفراد الناطقين، فأقول: سمعت كلام زيد، وأعجبت بكلام فاطمة... لأنه– حسب دي سوسير- إنتاج شخصي خاص بالفرد الذي أنتجه صوتا أو كتابة، دون أن ننسب الكلام إلى الجماعة، لأن للجماعة لساناLangue وليس لها كلامParole، ومن ثم اعتُبر (الكلام) العنصر الأضيق بين هذه العناصر الثلاث( اللغة/ اللسان/ الكلام)، فالكلام متضمَّن في اللسان، واللسان متضمَّن في اللغة، أو فلنقل: اللغة مشتملة على مجموعة من الألسنة، وكل لسان مشتمل على كلام كثيرٍ من الناس.

معنى كون اللسان La Langue  نظاما:

    إن اعتبار اللسان نظاما عند دي سوسير يعني أنها بنية تحكمها شبكة من العلاقات الداخلية التي تربط مستويات اللغة بعضها ببعض، أو إنها مجموعة من الأنظمة تتكامل فيما بينها ولا يمكن فصل نظام عن آخر أثناء التأدية الفعلية للكلام. فاللغة -إذن- ليست مجرد قائمة من المفردات ولاهي " مجموعة من الألفاظ يعثر عليها المتعلم في القواميس، أو يلتقطها بسمعه من الخطابات ثم يسجلها في حافظته." إنما تُتصور اللغة وتُوصف باعتبارها نظاما " من العناصر المترابطة على المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية، لا على أنها تراكم من كيانات قائمة بذاتها."

    إن النظام اللساني يعني – في اللسانيات- تلك العلاقات المتبادلة للعناصر، "العلاقات بين العناصر، وليس العناصر نفسها هي موضوع العلم." ومن ثم قال دي سوسير بأولوية النسق أو النظام – في الدراسة اللسانية- على العناصر، ووظيفة اللسانيِّ هي استكشافُ تلك العلاقات التفاعلية الداخلية بين عناصر النسق، ووصفُها وتحليلُها، فلا يُحدَّد أيُّ عنصر إلا من خلال علاقته الخلافية مع العناصر الأخرى، لأن حصول التغير على أحد العناصر يعني تغيرَ النظام كلِّه أو ربما تعطُّلَه، فإذا قلتُsad صباح هذا اليوم أيقظني منبه الساعة) فإني سأكون بصدد التعامل مع نظام تركيبي خاص في لغتنا العربية، وإذا قلتُsadأيقظني منبه الساعة صباح هذا اليوم) فإني سأكون بصدد التعامل مع نظام تركيبي آخر تتيحه لغتنا، أما إذا قلتُsad منبه أيقظني هذا صباح اليوم) فإن النظام في هذه الحالة قد تعطل، ولا أحد من أبناء العربية يوافقني على ما نطقته من تركيب فاسد، لا لشيء إلا لأني خالفت النظام ولم ألتزم به – مع أني صغت تلك القطعة من العناصر نفسِها التي ركبتُ منها التركيبين الأول والثاني !

وباختصار نقول إن دي سوسير استطاع التمييز بين ما هو ملكة بشرية، وما هو تواضع اجتماعي، وما هو نشاط فردي متعلق بالذكاء والإرادة، حيث إن:

اللغة Le Langage: هي ما يميز الإنسان عامة عن بقية العوالم الأخرى من ملكة لغوية.

اللسان La Langue: يكون داخل اللغة، وهو ما يميز مجتمعا عن آخر، كالذي يتميز به المجتمع العربي عن المجتمع الفرنسي أو الإنجليزي –مثلا- من نظام لغوي معين.

الكلام La Parole: يكون داخل اللسان الواحد، وهو ما يميز شخصا عن آخر داخل المجتمع الواحد، كالذي يتميز به زيد عن عمرو –مثلا- فيما ينتجه كل منهما.

    2- ثنائية الآنية والزمانية:

لابد من الإقرار ابتداءً بأن أزمة الدراسة اللغوية بصفة عامة هي أزمة منهج، وهو الأمر الذي أقر به دي سوسير، ولذلك قال بوجود نوعين من الدراسة يجب التمييز بينهما، وهما الدراسة الآنية أو السكونية، والدراسة الزمانية أو التطورية، حيث تقدم لنا كل دراسةٍ حقائقَ عن اللغة مختلفةً عما تقدمه الدراسة الأخرى " وهذا منه محاولة إصلاح للآراء الخاطئة التي أضلت أكثر اللغويين الغربيين منذ أن افتتنوا بمفهوم التطور كمفهوم إجرائي في تحليل الظواهر، وقابلوا به المعيارية النحوية أو المنطقية العقيمة." ومن خلال هذه الثنائية أيضا، وبعرض خصائص كل من البعدين الآني والزماني، يمكن الوقوف على قيمة ما نبّه إليه دي سوسير من ضرورة الاعتماد على الرؤيتين في دراسة اللغة دون خلط بينهما، مع إلزامية تقديم الآنية على الزمانية:

أ/ الزماني: تختص الزمانية أو التعاقبية باللسانيات الخارجية بوصف المراحل التطورية للغة عبر الأزمنة المتتابعة حيث تدرس تطور اللغات وعلاقة ذلك بالسياسة والمجتمع والثقافة... "فثقافة أمة ما تؤثر تأثيرا ملموسا في لغتها، كما أن اللغة من المقومات المهمة للأمة." وهي الدراسة التي كانت شائعة في القرن التاسع عشر –أي قبل دي سوسير- والتي كان يعتقد أصحابها أنها الدراسة العلمية الوحيدة للغة حتى قالوا:" لا علم إلا في المنهج التاريخي" فكادوا أن يهملوا اللغات المعاصرة التي تمثل الحاضر.

ويمثل البعد الزماني (التعاقبي، التطوري، التاريخي...) دراسةَ اللغة حسب الهيئات التي اتخذتها بمرور الزمن، من خلال ملاحظة تلك التطورات وتسجيلها وإرجاعها إلى عواملها المؤثرة فيها بغية الوقوف على القوانين العامة لتطور اللغات ومن ثم التنبؤ بمستقبلها...

ب/ الآني: بينما تختص الآنية أو التزامنية –التي دعا إليها دي سوسير- بوصف حالة اللغة كما تجري في زمن معين ومكان معين بقطع النظر عن حالتها التي كانت عليها قبل ذاك الزمن أو بعده، أي تدرسها في ذاتها وبمعزل عن التاريخِ وعن كلِّ العوامل الخارجية المؤثرة فيها. حيث يتعين على اللساني – وفق هذه الرؤية- دراسة نظام اللغة كما يجري في لحظة من اللحظات، من خلال الاهتمام باللسانيات الداخلية التي تدرس نسق اللغة وقواعدها الباطنية.

 فحتى يوصف النظام وصفا دقيقا ويحلل تحليلا علميا لا بد أن يكون ذلك النظام في حالة سكون وثبات، فيُبحث المستوى اللغوي الواحد من جوانبه الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية في زمن بعينه ومكان بعينه، وإذا استطعنا وصفه وهو ساكن أمكننا بعد ذلك فقط ملاحظة التغيرات الطارئة عليه بتعاقب الأزمنة. ولذلك ألح دي سوسير على أن الدراسة الزمانية لا يمكن أن تؤتيَ أكلَها إلا بعد دراسة نظام اللغة المقصودة وضبطه عبر أزمنة مختلفة، ولا يكون ذلك إلا بتسكين اللغة في زمن محدد للتمكن من معرفة نظامها في مختلف مستوياتها، ثم فعل الشيء نفسه في زمن آخر ثابت، وهكذا دواليك ليتسنى للباحث بعد ذلك دراسة التطور ووصفه وصفا دقيقا في أي مستوى من مستويات اللغة المعينة بمقارنة حالها من زمن إلى آخر اعتمادا على ما قدمه المنهج الوصفي من معطيات علمية لتلك اللغة خاصةٍ بأزمنة محددة.

    وبهذا يكون دي سوسير أشهر من دعا إلى ضرورة التمييز وعدم الخلط بين المنهجين، لأن هناك فرقا بين الشيء وبين تاريخ ذلك الشيء – كما بين ذلك من خلال مثاله المشهور عن لعبة الشطرنج- حيث " صاغ وأوضح ما اعتبره اللغويون السابقون أمرا مفروغا منه أو تجاهلوه، وهو البعدان الأساسيان الضروريان للدراسة اللغوية. والبعد الأول هو الدراسة التزامنـيـة Synchronic التي تعالَجُ فيها اللغـاتُ بـوصـفـهـا أنظمة اتصال تامة في ذاتها في أي زمن بعيد، والبعد الثاني هو الدراسـة التعاقبية (التاريـخـيـة) diachronic التي تعالَج فيها تاريخيا عوامـلُ الـتـغـيـيـرِ التي تخضع لها اللغات في مسيرة الزمن. ولـقـد كـان إنجـازا لـسـوسـيـر أن يميز بين هذين البعدين أو المحورين لعلم اللغة: البعد التزامني أو الوصفي، والبعد التعاقبي أو التاريخي، وكل منهما يستخدم مناهجه ومبادئه الخاصة به وأساسياته في أي مقرر تعليمي ملائـم لـلـدراسـة الـلـغـويـة أو الـتـدريـس اللغوي".

ولما كان لكل بُعد من هذين البعدين مناهجه ومبادؤه الخاصة تمايزت الدراسةُ الوصفية الآنية التي دعا إليها دي سوسير عن الدراسة التعاقبية التاريخية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، واستقلت بذاتها، لأن الدراسة التاريخية متنافية -إلى حد بعيد- مع دراسة اللغة كنظام، ولذلك قيل:" العلوم إذا اختلفت في المنهج تباينت في الهوية." وهو الأمر الذي جعل من اللسانيات التزامنية – الآنية- علما مختلفا الاختلافَ كلَّه عن اللسانيات التعاقبية – الزمانية- منهجا وموضوعا، فضلا عن قيمتها – لقيمة منهجها الوصفي- التي فاقت قيمة اللسانيات التاريخية، وهو ما جعلها مدينةً – إلى مدى بعيد- بِعِلَّة وجودها للمنهج أكثر مما هي مدينةٌ للموضوع.

وبتمييز دي سوسير- الأب الروحي للبنيوية-  بين الدراستين يكون قد قدم لنا إجابة وافية عن السؤال المتعلق بأيّ المنهجين – الوصفي أم التاريخي- أوْلى بالتقديم في دراسة اللغة باعتبارها نظاما؟ وهي الإجابة التي يبرئ من خلالها نفسه من أن يكون رافضا للدراسة التاريخية أو منكرا لقيمتها.

3- ثنائية الدال Signifiant والمدلولSignifié :

العلامة اللغوية هي المركز الذي دارت حوله أبحاث دي سوسير، ولذلك عرّف اللسان بكونه نظاما من العلامات الصوتية أو الأدلة اللغوية المخزّنة في أذهان أبناء الجماعة اللغوية الواحدة، وهو ما يؤكد– بما لا يدع مجالا للشك- إقامةَ اللسانيات جوهرَ تعريفها للظاهرة اللغوية على مفهوم العلامة.

مفهوم العلامة: العلامة اللغوية وحدة لغوية ناشئة عن اتحاد عنصرين هما الدال والمدلول، اتحادا ذهنيا غير قابل للانفصال كاتحاد وجهي الورقة الواحدة، فهي بشقيها (الدال والمدلول) مستودعة في الذهن، ومتى أردنا التواصل عُدنا إلى ذلك المستودع سواء كنا مخاطِبين أو مخاطَبين.

طبيعة العلامة: العلامة اللغوية باعتبارها "محصلة ارتباط بين الدال والمدلول" كما يرى دي سوسير، أو باعتبارها " موضوعا قابلا للتحليل ضمن مستويين يسميهما سوسير تباعا بالدال والمدلول" لا تربط اسما بشيء، فهي غير ثنائية (الاسم والمسمى) كما أنها تختلف عنده عن ثنائية (اللفظ والمعنى) وذلك لما تميزت به من طبيعة سيكولوجية شملت طرفيها (الدال والمدلول)، وفي هذا الفهم الخاص للعلامة اللغوية باعتبارها كيانا ثنائيا يتألف من الربط بين عنصرين بيانٌ لطبيعة هذين العنصرين.

قد بين دي سوسير من خلال هذه الثنائية خطأ ما يذهب إليه بعض الناس من اعتقادهم أن اللغة ليست سوى عملية لتسمية الأشياء، وكأنها قائمة من الألفاظ يقابل فيها كل لفظ الشيء الذي يدل عليه، يقول دي سوسير:" يظن بعض الناس أن اللسان إنما هو في أصله مجموع ألفاظ، أي قائمة من الأسماء تطلق على عدد مماثل من المسميات... وفي تصورهم هذا نظر... إن الدليل اللغوي لا يربط بين شيء ولفظ، بل بين مفهوم وصورة صوتية ( أي يربط لا الشيء المسمى باسمه الملفوظ بل مفهوم ذلك الشيء أو تصوره في الذهن بصورة لفظه الذهنية) فهذه الصورة الصوتية ليست هي الصوت المادي لأنه شيء فيزيائي محض، بل انطباع هذا الصوت في النفس والصورة الصادرة عما تشاهده حواسنا... فالدليل اللغوي إذاً كيان نفساني ذو وجهين."

ويقول أيضا:" إن العنصرين اللذين يدخلان في الإشارة اللغوية (العلامة اللغوية) هما ذوا طبيعة سيكولوجية، يتحدان في دماغ الإنسان بآصرة التداعي(الإيحاء)، وهذا أمر ينبغي تأكيده، فالإشارة اللغوية تربط بين الفكرة والصورة الصوتية، وليس بين الشيء والتسمية، ولا يقصد بالصورة الصوتية الناحية الفيزياوية للصوت، بل الصورة السيكولوجية للصوت، أي الانطباع أو الأثر الذي تتركه في الحواس."

فالدال هو الصورة الصوتية(أو السمعية) أي الإدراك النفسي لتتابع الأصوات، وليس الصوت نفسه لأن هذا الأخير(الصوت) حقيقة فيزيائية محضة متعلقة بالكلام ومنتجِه(المتكلم) لا باللسان الذي يستلزم التجريد والطابع الاجتماعي، أما المدلول فهو الصورة الذهنية لا الموجود الخارجي، أي مجموع السمات الدلالية المستقرة في الذهن. ولئن كانت الطبيعة الذهنية أو السيكولوجية للصورة الذهنية(المدلول) واضحة فإن الطبيعة السيكولوجية للصورة السمعية (الدال) تتضح من خلال ملاحظة كلامنا الداخلي دون نطق كمن يقرأ قصيدة قراءة صامتة.

خصائص العلامة اللغوية:

تميزت العلامة اللغوية ببعض الخصائص منها:

 1- الاعتباطية(Arbitraire du signe) : يذهب دي سوسير إلى أن العلاقة بين طرفي العلامة اللغوية (الدال والمدلول) علاقة اعتباطية غير معللة، وإن ما يؤكد اعتباطية العلامة كَوْنُ المدلولات واحدةً عند الناس جميعا، غير أن الدوال التي تقابل تلك المدلولات مختلفة من مجتمع إلى آخر، ولو كانت العلاقة بينهما طبيعية لزومية لكانت موحدة بين الناس جميعا، ولوُجِدت – تبعا لذلك- لغة موحدة في العالم أو لغات متشابهة إلى حد بعيد، لكن الواقع يخالف ذلك.

ولا تعني اعتباطية الدليل أن اختيار الدال متروك للمتكلم، إذ لا قدرة للمتكلم على التحكم في الدال بتغييره بعد أن تلقَّفته الجماعة وحظي بقبولها، يقول دي سوسير:" إن كلمة الاعتباطية تحتاج إلى توضيح، فهذه الكلمة لا تعني أن أمر اختيار الدال متروك للمتكلم كليا، بل أعني بالاعتباطية أنها لا ترتبط بدافع، أي إنها اعتباطية لأنها ليس لها صلة طبيعية بالمدلول."

 2- الخطية: مادامت العلامة اللغوية أهم عناصر اللغة فقد اتسمت بما تتميز به اللغة عامة من مفهوم رياضي هو الخطية. يقول دي سوسير في شأن هذه الخاصية:" لما كان الدال شيئا مسموعا (يعتمد على السمع) فهو يظهر إلى الوجود في حيز زمني فقط، ويستمد منه هاتين الصفتين:

أ- إنه يمثل فترة زمنية.

ب- تقاس هذه الفترة ببعد واحد فقط: فهو على هيئة خط."

3- الثبوت والتغير: في هذه الخاصية إجابة عن سؤال هو: بم تتميز العلامة اللغوية، أبالثبوت أم بالسكون؟ والحقيقة أن هذه الخاصية ناشئة عن نظرتين مختلفتين للعلامة متعلقتين بالآنية والزمانية، حيث إن العلامة الواحدة غالبا ما تتميز بكونها ثابتة في مجتمع وزمن معينين وكثيرا ما تحافظ على صورتها لدى الأجيال اللاحقة، فيدل دال معين على مدلول معين لا يتغير، وذلك لوجود عوامل تعمل على منع التطور، غير أن ذلك لا يمنع – في بعض الحالات- من حصول تحول في العلامة بمرور الزمن وقبول الجماعة ورضاهم عن صورتها الجديدة، فيدل دال معين في زمن آخر على غيرِ ما كان يدل عليه في السابق، أو يكتسب المدلول نفسه دالا جديدا، أو يصيبه تغيير في صورته الصوتية، وذلك لتوفر عوامل وقوى أخرى مضادة مؤدية إلى ذلك التغير أو التطور، فتبقى " اللغة عاجزة جذريا عن الدفاع عن نفسها ضد القوى التي تغير من حين لآخر العلاقة بين الدال والمدلول، وإن هذه لإحدى عواقب الطبيعة الاعتباطية للعلامة."

4- القيمة La valeur:  فقد رأى دي سوسير أن الوحدات اللغوية لا يمكن أن تُدرس دراسة علمية حقيقية إلا من خلال القيمة، لأن لهذه الأخيرة –القيمة- أهميةً كبرى في معرفة حقيقة الأشياء، ومن ذلك الوحدات اللغوية التي لا تَستمِد قيمتها إلا من النظام اللغوي المنضوية تحته وفق ما أراده لها المجتمع وتواطأ عليه، لأن " المجتمع ضروري لوضع قيَم يعتمد وجودها بصورة كلية على استعمالها وقبولها من قبل الجمهور. إن الفرد وحده لا يستطيع وضع قيمة لغوية واحدة."

فليس للوحدة أي قيمة ذاتية، وإنما تتحدد قيمتها بعلاقاتها مع بقية الوحدات الأخرى داخل النظام نفسه وتقابلها معها، ولا قيمة للوحدات التي ينتجها الفرد ما لم تتبنّها الجماعة، أو التي تكون خارج النظام.

4- ثنائية العلاقات بين الأدلة( التركيب والاستبدال أو التوزيع والاختيار)

  إن الوصف الدقيق للسان مرهون ببيان العلاقات بين الوحدات اللغوية، ما دامت تحكمه " شبكةٌ واسعة من العلامات والتراكيب، حيث لا تكتسب مكوناتُها قيمتَها إلا من خلال علاقاتها بالكل." وهو الأمر الذي ركز عليه دي سوسير حين اعتبر شبكة العلاقات التي تربط الأدلةَ اللغوية بعضَها ببعض من أهم أركان النظام، ولذلك وجب أن تأخذ قسطا كبيرا من اهتمام الدارسين.... وهذه العلاقات المتبادلة في الـلـغـة تـقـوم على كل من البعدين الأساسيين للتركيب اللغوي التزامـنـي: الـبـعـد الأفـقـي syntágmatic المنطبق على تتابع المنطوق، والبعد الرأسي (الترابطي associative Paradigmatic المتمثل في أنظمة العناصر أو الفئات المتقابلة.(

يمثل البعدان الأفقي والرأسي (العمودي) نوعين من العلاقات بين الأدلة داخل النظام، هما على التوالي العلاقات التركيبية( التوزيع)، والعلاقات الاستبدالية (الترابطية أو الاختيار):

  أ- العلاقات التركيبية syntagmatiques ( التوزيع): تتمثل في العلاقات التي تعقد بين وحدتين فأكثر من أجل تراكيبَ وأنماطٍ معينة للوحدات وفق ما هو معروف من اختصاص كل لغة بقواعد تركيبيةٍ معينةٍ تمكِّن مستعمليها من البناء الصحيح للمفردات والجمل، ومن ثم تُعرف قيمة كل وحدة لغوية من خلال تقابلها مع وحدات أخرى تسبقها أو تلحقها أو من خلالهما معا. يقول دي سوسير:" نحن عادة لا نتفاهم باستخدام إشارات فردية معزولة، بل باستخدام مجموعات من الإشارات، أو كتل منتظمة، هي  في حد ذاتها إشارات. ففي اللغة يمكن إرجاع كل شيء إلى الفروق وكذلك إلى المجموعات."

ولذلك فإن كل التراكيب والبنى المتاحة في لسان ما -سواء كانت مفردات أو جملا- منطويةٌ على علاقات تركيبية تسمح لعناصرها بالتوزع والانتظام وفق طرائق خاصة، وتمنع توزعها وفق طرائق أخرى لا يتيحها نظام تلك اللغة، و" لا قيمة للكل إلا من خلال أجزائه، كما لا قيمة للأجزاء إلا بفضل موقعها في الكل. لذلك لا تقل العلاقة السنتاكمية (التركيبية) بين الجزء والكل أهمية عن العلاقة بين الأجزاء."

   ب- العلاقات الاستبدالية أو الترابطية Paradigmatiques (الاختيار أو الاستبدال): يقول دي سوسير:" تكتسب الكلمات علاقاتٍ خارج الحديث – تختلف عن الصنف المذكور آنفا- فالكلمات التي تشترك في أمر ما ترتبط معا في الذاكرة، ويتألف منها مجموعات تتميز بعلاقات متنوعة، فعلى سبيل المثال، توحي الكلمة الفرنسية  enseignement(تعليم) بصورة لا شعورية بعدد كبير من الكلمات مثل (enseigner (يعلم)،  renseigner(يتعرف على)... جميع هذه الكلمات ترتبط بعضها ببعض بطريقة ما."

ويتم الاختيار لتحقيق المراد من بين قائمة العناصر التي تعقد بينها علاقةٌ ترابطية في الذاكرة بناء على:

-       ما يراد تبليغه من معنى، فنقولsadقُتِل الرجل) بدل (مات الرجل) لما بينهما من فرق دالٍّ على كونه مات معذورا نتيجةَ اعتداء.

-       ما يحتاجه السياق، فلا نختار إلا ما يتلاءم مع بقية الوحدات المسهمة في التركيب، فنقولsadأجب عن السؤال) ولا نقولsadأجب على السؤال)، ونقولsadجاءت الطالبة) ولا نقولsadجاء الطالبة)، ونقولsadأجابني الطلبة) ولا نقولsadأجابوني الطلبة)، ونقولsad رجل ذكي) ولا نقولsadطأس ذكي)...فلا يكون الاختيار عشوائيا، وإنما تراعى بقية العناصر.

-       ما يتلاءم ورصيد الفرد من المفردات، فقد نختار مفردة جهلا بغيرها، فنقول (أخفى غيظه) جهلا ب( كظم غيظه) ونقولsadشرهت نفسي) جهلا ب( لقِست نفسي)...

-       ما يرغب فيه المنشِئُ، كأن يختار لفظة دون سواها، لا عن جهل بغيرها، ولكن لرغبة شخصية كأن تكون أكثر تداولا، أو أخف من غيرها، أو ذات وقع خاص، أو لتشكيلها مع غيرها جناسا أو سجعا، أو لأنها تمكِّنه من التورية إذا قصد ذلك وكانت اللفظة متعددة المعنى، أو لأنها غريبة إذا كان المتكلم متفاصحا مولعا بالغريب... 

    إن العلاقات التركيبية والعلاقات الترابطية مسؤولتان عن الأداء الصحيح للغة، وبذلك يُفَسَّر عدمُ خطأ جلِّ أبناء المجتمع في التركيب والاختيار فلا نسمع: أكل الولد الحليب، افترس الثور الولد، رضع المولود الشعير، شرب العشب الماء، قضمت الدابة العشب... بينما نسمع: أكل الولد التفاحة، افترس الأسد الولد، امتص العشب الماءَ... لأن الفضل في ذلك يعود – فضلا عن آلية التركيب- لآلية الاختيار التي يسهر عليها النظام، فتعمل آليا دون شعور منا، "وهكذا يتم التفاهمُ(الإنساني) والاستعمالُ اللغوي –عامة- بهذه السرعة التي نعهدها.

إن المتكلم العادي لا يدرك العمليات المعقدةَ العقلية والعضوية التي يقوم بها لنطق صوت واحد أو كلمة واحدة، وهو – كذلك- في مجال تأليف الجمل- عندما يتكلم لغته الأم- لا يدرك العملياتِ البالغةَ التعقيد التي يقوم بها. ولكن المتكلم قد يتعثر، وقد يخطئ خطأ بيِّنا، عندما يتكلم لغةً غير لغته، وهو يبذل جهدا (شعوريا) لتأليف الجمل على قدر إتقانه لتلك اللغة، وهذا الجهد يتناقص كلما ازداد إتقانه لها."  

ويمكن الوقوف- من خلال ما سبق ذكره- على بعض النقاط الجامعة أو الفارقة بين العلاقتين حسب دي سوسير:

- يعملان معا في وقت واحد بما يشبه الغربلة العقلية، ففي الزمن الذي يحدث فيه التركيب مُمَثلا للعلاقات التركيبية، يحدث الاختيار مُمَثلا للعلاقات الترابطية.

- تكون العلاقات التركيبية بين وحدات حضورية موجودة بالفعل، بينما تكون العلاقات الترابطية بين وحدات غيابية كامنة في الذاكرة.

- تكون العلاقات التركيبية محدودة العناصر حسب ما يحتاجه التركيب أو الجملة، أما عناصر العلاقات الترابطية فهي قائمة مفتوحة.

- تقوم العلاقات التركيبية على شكل خطي بارتباط الوحدة بما يسبقها من وحدات أو يلحقها أو بهما معا، أما في الترابطية " فالكلمة تشبه المركز في مجموعة فلكية يلتقي فيها عدد غير محدود من العناصر المتشابهة." فلا خطية في العلاقات الترابطية، وهو الفرق الذي وقف عليه دي سوسير، إذ لاحظ أن " الارتباط الذي يتألف خارج الحديث يختلف كثيرا عن ذلك الذي يتكون داخل الحديث، فالارتباطات التي تقع خارج الحديث لا يدعمها التعاقب الخطي، ويكون مكانها في الدماغ، فهي جزء من الذخيرة الداخلية للغة التي يملكها كل متكلم "

    فاللغة –إذن- ليست مجرد رصف للعناصر ولكنها تضافر عمليتين متزامنتين هما التوزيع والاختيار المتعلقان -على التوالي- بالعلاقات التركيبية والعلاقات الترابطية، ولذلك لا تحدث عملية التركيب التي تعقِد بين مجموعة محدودة من الوحدات التي تظهر على السطح أثناء الكلام إلا بالتزامن مع عملية أخرى مهمةٍ في الدماغ يتم من خلالها اختيار أيٍّ من تلك العناصر المترابطة ذهنيا أولى بالظهور على مستوى التركيب.

البنيوية بعد دي سوسير:

كنا قد ذكرنا أن دي سوسير أبو اللسانيات ورائد البنيوية الأول، لكنه ليس البنيوي الوحيد، لأن معظم النظريات اللسانية بعده قد تبنت الطرح البنيوي وانطلقت منه غير أنها كان لها ما يميزها عن نظرية دي سوسير سواء بالاتفاق معه أو بمخالفته، ولعل من النظريات التي وافقت دي سوسير في أفكاره ومناهجه إلى حد بعيد نظرية الغلوسيماتيك للويس هلمسليف.

 

نظرية الغلوسيماتيكGlossématique  (ضمن المدرسة النسقية أو الشكلية/ حلقة كوبنهاجن)

يمثل هذه النظرية اللساني لويس يلمسليف   Louis Hjelmslev(1899م- 196م) الذي ولد بكوبنهاجن بالدانمارك، وبعد الدراسة الجامعية بجامعة كوبنهاجن التي شغل والدُه - وهو أستاذ رياضيات- رئاستها، غادر بلاده فدرس بلثوانيا سنة 1921، وببراغ سنة 1923، ثم بفرنسا سنتي 1926 و 1927م، وهناك تابع محاضرات ميي Meillet وفَندريس Vendryes، كما تعرف خاصة على أفكار دي سوسير ومناهجه التي ساعدته على إرساء دعائم نظريته العالمية الجديدة (الغلوسيماتيك)

انبثقت هذه النظرية عن مدرسة كوبنهاجن التي تأسست في ثلاثينيات القرن العشرين (بين 1933 و 1936م) على يد مجموعة من العلماء على رأسهم يلمسليف يحدوهم الأمل في ترك بصمة خاصة بهم تميزهم عن غيرهم من اللسانيين، لاسيما البراغيين لما لقيته دراساتهم من نجاح، ومنذ عام 1944م بدأت أعمال الحلقة اللسانية لكوبنهاجن تتوالى على منوال أعمال الحلقة اللسانية لمدرسة براغ،  يقول عبد الرحمان الحاج صالح:" ظهرت في الربع الثاني من القرن العشرين نزعة بنوية جد متأثرة بأفكار سوسسور وأشهر من كان يمثلها هم بروندال V.Brondal ويلمسليف L. Hjelmslev وأولدال  H.Uldallوهذان اللغويان الأخيران هما اللذان أسسا ما سمياه بال Glossématique وهي تمثل نظرية سوسور في أقصى درجات التجريد الصوري." فعلى الرغم من أن يلمسليف لم يكن إلا شارحا لأفكار دي سوسير، إذ كانت آراؤه عبارة عن نظريات سوسيرية، خاصة فيما يتعلق بالعلامة اللغوية، أو العلاقات، أو صورية اللغة... ولكن كل ذلك وفق نظرة صورية مجردة، حيث أضفى يلمسليف وزملاؤه على دراساتهم اللغوية صبغة علمية، وكسوها بمصطلحات غريبة، وصاغوا عناصرَ للغة في رموز جبرية، وتراكيبَها في معادلات رياضية، وهو ما أحدث ردود أفعال عنيفةً من قبل اللسانيين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والفلسفية. ونتيجة لصعوبتها، وطبيعة مصطلحاتها غير المتجانسة لم تنل تلك الأفكار الاهتمام الذي تستحق، ومن الانتقادات التي وجهت لغلوسيماتيك يلمسليف أنها نسخة نظرية وشخصية للسانيات دي سوسير غير أنه طبقها على نحو فيه مغالاة منطقية.

يرى هذا الاتجاه بأن اللسان ليس قائمة مفردات بل إن جوهر اللسان يكمن في تلك العلاقات النسقية الموجودة بين وحداته التي تشكله ولا مناص له منها. فاللغة كيان صوري مستقل وهي شكل أكثر من كونها مادة، ويخضع هذا الشكل أو الكيان لنسق من العلاقات الداخلية يمكن دراستها بنوع من المعادلات الجبرية، ومن هنا فهي ترى اللغة تركيبا رياضيا أو شكلا صوريا بعيدا عن المظهر الدلالي أو الصوتي. بعبارة أخرى إن يلمسليف ينظر إلى واقع الحدث اللساني نظرة شكلية محضة لا يخرج في ذلك عما أشار إليه دي سوسير وهما:

- كَونُ أن اللغة شكل ولا يمكن أن تكون جوهرا (مادة).

- كَونُ أن دراسة اللغة ينبغي أن تتم وفق مستويين اثنين: مستوى المضمون Contenu، ثم مستوى التعبير Expression.

 فكل لغة تتكون من هذين المستويين، أي إنها أدلة ذات مظهرين: مظهر صوتي وآخر دلالي، وفي كلا هاذين المستويين يُهتم بالشكل لا بالجوهر، ومما يجب التنبيه عليه أن هذين المستويين متحدان في الدليل اللساني في نظرية سوسير غير مستقل أحدهما عن الآخر، لأن مستوى التعبير هو(الدال) ومستوى المضمون أو المحتوى هو(المدلول)، ولما كانت العلامة اللغوية – حسب سوسير- ذات وجهين، فهي – حسب يلمسليف- ذات مستويين، ولكن لايُهتم في كل مستوى إلا بما كان شكلا، دون ما كان جوهرا أو مادة.

والمخطط التالي يوضح هذين المستويين:

وقد اهتم بالشكل واستبعد المادة لأن المادة – كما هو موضح في المخطط السابق- مما تختص به الفونتيك (كما هو مبين في مادة التعبير) أو مما يختص به علم الدلالة (كما هو مبين في مادة المضمون)

وترتكز منهجية التحليل عند يلمسليف على البحث عن الوحدات المكونة للسان عن طريق الاستبدال، ففي مستوى التعبير، مثلا، نستبدل – بعد التحليل إلى المكونات النهائية- القافَ من الفعل (قام) بالنون لنحصل على (نام) – وفق ما هو معروف عند البراغيين- فالاختلاف بين الوحدات ناجم عن استبدال أو مقابلة عنصر مكونٍ بآخر. ومستوى المضمون أيضا قابل-حسبه- للتحليل لمكوناته النهائية وفق ما هو معروف في نظرية التحليل التجزيئي أو التكويني للمعنى، التي ترى أن معنى الكلمة مجموعة من العناصر التكوينية أو النويات المعنوية، أو المكونات الدلالية. وهي تقوم على تشذير كل معنى من معاني الكلمة إلى سلسلة من العناصر الأولية مرتبة بطريقة تسمح لها بأن تتقدم من العام إلى الخاص. فكلمة (رجل) مثلا تحلل بحسب هذه النظرية على النحو التالي:

رجل: اسم / محسوس / معدود / حي / بشري / ذكر / بالغ...

أما كلمة (امرأة) فتحلل على النحو التالي:

امرأة: اسم / محسوس / معدود / حي / بشري / أنثى / بالغ...  

فكلمة امرأة اختلفت عن كلمة رجل في مكون واحد هو مكون الجنس، واشتركتا في سائر المكونات الأخرى.

Last modified: Tuesday, 26 March 2024, 2:23 AM