تميزت الحركة الأدبية في المغرب العربي بالنمو والتطور خاصة المرحلة التي عرفتهافترة ما بين القرنين 4ه و5ه، حيث اهتم أدباؤها ونقادها بدراسة ما وفد من أدب المشارقة، من خلال حركة التدوين، وحاولوا وضع بصماتهم الأدبية والنقدية ليخلصوا لتأسيس حركة أدبية ونقدية تحمل سمات المغرب العربي وقضاياه وتصوره.

     لقد ساهم هذا التطور في بروز أدباء ونقاد أخذوا على عاتقهم دراسة الأدب المشرقي، وبلورة أفكاره أمثال: عبد الكريم النهشلي حيث يعد أديبا وناقدا متميزا صاحب كتاب: "الممتع في علم الشعر" وعمله"، ويعتبر أستاذا لابن رشيق القيرواني صاحب كتاب "العمدة".

1-            الحياة السياسية في المغرب العربي ما بين القرنين الرابع والخامس هجريين:

واكبت هذه الفترة حكم الدولة الفاطمية سنة (297ه) نسبة إلى فاطمة، مذهبها شيعي حيث تميز المشهد السياسي بنوع من الاستقرار والأمن، كانت بدايتها الفعلية مع الخليفة "عبيد الله المهدي"، بعد أن قتل الداعية "أبي عبد الله الشيعي" الذي مهد لعبيد الله المهدي قيام الدولة الفاطمية فقتله هو وأخيه "أبي العباس" خوفا من المؤامرة، ولقد تعرض المهدي للعديد من الثورات والمقاومات نذكر منها: مقاومة البربر المعادين للمذهب الشيعي (قبيلة زناتة).

وفي ولاية عبيد الله المهدي خرج ابنه وولي عهده "القائم بأمر الله" سنة 315 ه إلى المغرب بلغ تيهرت، ثم أمر ببناء مدينة سماها المحمدية وهي "المسيلة" حاليا.

2-            النقد عند عبد الكريم النهشلي:

أ‌-     حياته: اعترت حياة عبد الكريم النهشلي توعا من الغموض نظرا لشحّ المعلومات التي وجدت في حقب التاريخ والتي تفرقت بين كتب التاريخ السير والتراجم.

اسمه محمد عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي التميمي تنتسب أسرته إلى العرب الذين سكنوا بلاد المغرب حين قدومهم مع الفتوحات الإسلامية، فهو بنو نهشل: من تميم بالعراق، إذن هو عربي، واشتهر آل نهشل بنظم الشعر، وقد نسب عبد الكريم النهشلي إلى الجزائر، حيث يقال بأنه ولد بمدينة المحمدية من أرض الزاب أو المسيلة.

نشأته: نشأ عبد الكريم النهشلي بالمحمدية، وقضى بها أيام شبابه، حيث تلقى مبادئ الدين وعلوم اللغة العربية، ولقد كان له أدب خاص بفترة شبابه في المسيلة إلا أنه لم يصلنا من أدبه شيء (ضاع مع جملة ما ضاع عن حياته).

ومن آثاره في النقد الأدبي كتب كتابا سماه "الممتع في علم الشعر وعمله" حيث تعتبر من أهم الكتب النقدية في المغرب العربي، الأمر الذي جعل ابن رشيق القيرواني يتغنى به في كل موضع من كتابه "العمدة".

-                  تناول عبد الكريم النهشلي القضايا الأدبية والنقدية، وكان يعود فيها دائما إلى آراء الأدباء والنقاد المشارقة.

-      تعرض في كتاب الممتع للشعر بالدراسة وحاول أن يقيم علما خاصا به، وأن يجعل كتابه ملما أو موسوعة في الشعر وكل ما يتعلق به، ويرجع في ذلك إلى أخبار العرب في الأدب والنقد مثل: مفهوم الشعر وظروف نشأته، خصائصه (الوزن، القافية)، تصنيفه.

ملاحظة: الدولة الفاطمية وهي رابع دولة تأسست في الجزائر نسبة إلى فاطمة الزهراء، أسسها عبيد الله المهدي سنة 297ه،بعد أن بايعه أبو عبد الله الشيعي الذي كان سببا في قيامها (جمع أنصارها...)، وقتله هو وأخوه خشية المؤامرة، كان مقرها تونس (القيروان)، ثم نقلت إلى مصر وبعدها خرج القائم بأمر الله سنة 315 ليدخل إلى الجزائر مدينة المحمدية المسيلة حاليا.

1-            مفهوم الشعر عند النهشلي:

     اتبع عبد الكريم النهشلي في تعريفه للشعر سبل النقاد القدماء الذين تذوقوا الشعر (كابن سلام الجمحي 231ه) الذي عرفه بأنه: "علم قائم بذاته له أصوله وقوانينه، وله صناعته وثقافته يعرفها أهل العلم" حيث قصد بمفرده "صناعة" ائتلاف اللفظ مع المعنى وكذا ابن قتيبة: الذي اعترف الشعر مهتما بالجانب الشكلي بحيث يقول: "وليس يوجد في العبارة عن ذلك أبلغ ولا أؤجر مع تمام الدلالة من أن يقال فيه" إنه قول موزون مقفى يدل على معنى. ابن قتيبة: نظر إلى الخصائص الفنية للشعر وهما اللفظ والمعنى وجعلهما مقياسا لقياس جودة الشعر[1].

قدامة بن جعفر يعرفه على أنه: "كلام موزون مقفى يدل على معنى"[2]، وعليه بعد عرض بعض التعريفات للنقاد القدماء (المشارقة) نلاحظ أن كل واحد نظر إلى الشعر من وجهة رأيه ولكنهم اهتموا بقضية اللفظ والمعنى اهتماما كبيرا، نرى تعريف عبد الكريم النهشلي  للشعر راجعا إلى مفهومه عند العرب حيث يقول: "ولما رأت العرب المنثور ينفلت من أيديهم ولم يكن لهم كتاب يتضمن أفعالهم، تدبروا الأوزان والأعاريض، فأخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستويا... فألفوا ذلك وسموه شعرا والشعر عندهم الفطنة..." ويرجع في ذلك إلى تعريف الأخفش الذي يقول: "الشاعر صاحب شعر، وسمي شاعر لفظته" هذا يعني أن النهشلي يعود بنا إلى أسباب وضع الشعر لأن العرب قديما لم يحسنوا الكتابة والقراءة، فاحتاجت إلى فن يحفظ أخبارها ويخلد مآثرها ويكون سهلا في الحفظ، فاخترعوا الشعر والأوزان...

     اعتبر عبد الكريم النهشلي الشعر هو الفطنة ويظهر ذلك في قوله: "الشعر عندهم الفطنة ومعنى قولهم ليت شعري أي ليت فطنتي" ويعني بمصطلح الفطنة أي ما يمنحه الموهبة الشعرية من قدرة على: الملاحظة، التميز، قوة الإدراك، سعة الخيال، الذكاء، حيث يتمكن الشاعر باكتسابه لهذه القدرات على استخدامه الصور البيانية والمحسنات البديعية بطريقة إبداعية أي اكتسابه اللغة الشاعرية، فالشاعر الذي يفقد الفطنة لا يمكن أن يكتب بلغة شاعرية وذلك تلخصه في المخطط التالي:

           الشاعر                        شعر                     متلقي              

           
    Zone de Texte: (يوظف في لفظ+معنى)
إبداع جمالية (شعرية)
      Zone de Texte:   المرسل (لغة شاعرية)
  Zone de Texte: القارئ (يتأثر ويتذوق)
 
 

 

 

 

 

2-    نشأته: تعرض عبد الكريم النهشلي إلى نشأة الشعر وعاد بنا إلى آراء علماء العرب حيث يقول: "... أصل الكلام منثور ثم تعقبت العرب ذلك واحتاجت إلى العتاد بأفعالها وذكر سابقيها ووقائعها وتضمين مآثرها، إذ كان المنطق عندهم هو المؤدى من عقولهم، وألسنتهم خدم أفئدتهم، والمبينة لحكمهم، والمخبرة لآدابهم وأن لا فرق عندهم بين الإنسان ما لم ينطق وبين البهيمة ... لذلك قالوا الصمت متام العقل، والنطق يقظته، والمرء مخبوء تحت لسانه حتى ينطق..."، ومن هنا نفهم أن النهشلي يرى أن أصل الكلام عند العرب منثور، ولكن هذا الشكل لم يناسبهم في حفظ أخبارهم وآدابهم ومآثرهم لأنه يفتقر إلى الفنية فاهتدوا إلى الشعر ليكون بديلا عن ذلك.

-                  ويرى النهشلي أن الشعر: "أبلغ البيانين وأطول اللسانيين، وأدب العرب المأثور وديوان علمها المشهور".

-                  وعليه اهتم النهشلي بالشعر وزكاه ورفع من شأنه.

3-             خصائصه:

*العروض: يؤكد النهشلي على العلاقة بين أوزان الشعر العربي وأساليب الغناء حيث يقول: "أخرجوا الكلام أحسن مخرج بأساليب الغناء فجاءهم مستويا" ولقد استفاد تلميذه ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة حيث يقول: "وكيف أن اللفظ إذا كان منثورا تبدد في الأسماع وقد تدحرج عن الطباع... لكن إذا أخذه سلك الوزن وعقد القافية تألفت أشكاله، وازدوجت فوائده وبناته، واتخذ اللابس جمالا والمدخر مالا، فصار فرطة الآذان، وقلائد الأعناق، وأماني النفوس، وأكاليل الرؤوس، يقلب بألسن ويخبأ في القلوب..." ومعنى ذلك أن المتلقين لا يهتموا للكلام المنثور بقدر ما يهتموا بالكلام الشعر وجماليته تكمن في وزنه وقافيته.

أصناف الشعر (موضوعاته أغراضه):

تميز النهشلي في تصنيفه للشعر بتوجه نقدي وهو (النقد الأخلاقي) أي ترجيح النزعة الدينية الأخلاقية حيث يقول في هذ الصدد: " الشعر هو خير كله، ذلك ما كان في باب الزهد والمواعظ الحسنة والمثل العائد... على من تمثل بالخير وما أشبه ذلك، وشعر هو ظرف كله، وذلك القول في الأوصاف والنعوت والتشبيه وما يفنن به من المعاني والآداب، وشعر هو شر كله، وذلك الهجاء وما تسرع به الشاعر إلى أغراض الناس، وشعر ينكسب به وذلك أن يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيها ويخاطب كل إنسان من حيث هو ويأتي من جهة فهمه"[3].

1- شعر هو خير كله: شمل الزهد والمواعظ الحسنة والمثل، فارتباكه بالزهد مثلا كونه يحمل إحساسا بدنو الأجل، واقتراب حساب الإنسان ويحمل التفكير في الموت وما ادخر له الإنسان، لذلك اعتبره النهشلي غرض يذهب بالخير كله، لإشعاعه بأنوار الخير (توبة المذنب، وسلوكه إلى طريق الهدى) كذلك الموعظة الحسنة والمثل.

2- شعر هو ظرف كله: ويحمل التشبيهات والنعوت التي احتوتها أغراض مثل: الغزل والحماسة والوصف، وتكون وفق الحاجة أو ظرف معين، فمثلا: في غرض الوصف يصف مدينة وفقا للحالة التي هي فيها قد يكون وصفا خارجيا، أو داخليا، وصف المرأة.

3- شعر هو شر كله: شمل الهجاء وقد تلحق به أغراض كالذم والعتاب، ويقصد بالشعر المخالفات الشرعية والأخلاقية التي يحتويها هذا الشعر، كظلم الناس والتغذي على أغراضهم بشتى أنواع الظلم الكلامي.

4- شعر التكسب: وهو شعر يكون الغرض منه استغلالي نفعي كمدح خليفة من أجل نيل الهدايا والمال، ويدخل فيه الرثاء أيضا.

 

 

 

 

 

ويعرض المخطط التالي: مراتب الأغراض الشعرية عند عبد الكريم النهشلي:

 

 

 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يوضح لنا المخطط البياني تصور عبد الكريم النهشلي لأصناف الشعر بحسب الموضوعات والأغراض والتي تدور بين ثنائية (الخير/الشر) لتكون الهجاء في أسفل السهم ويتصدره الزهد والمواعظ الحسنة وكذا للوصف وهي أغراض تحمل موضوعات تحقق المنفعة للناس حيث تقدم بنسيج جمالي وقالب إبداعي (تعلوه الأوصاف والتشبيهات والمعاني الأدبية الراقية، وفي المقابل نجد الهجاء والتكسب وهي أغراض تحمل نوايا سيئة التي يحقق من ورائها الشاعر غرضا شخصيا أو يسيئ إلى الناس بذمهم ووصفهم بأقبح الأوصاف.

 



[1]  ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تح: مفيد قميحة، محمد الأمين ضناوي: دار الكتب العلمية، بيروت/ لبنان، ط2، 2005، ص13/16.

[2]  قدامة بن جعفر، نقد الشعر، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، دط، ص64.

[3]  ابن رشيق القيرواني، العمدة، دار الجيل، ط5، 1981، ص1- 106.

Last modified: Monday, 18 December 2023, 8:31 AM