محاضرة 4 : الأدب الجزائري على عهد الرستمين
الشعر الجزائري في عهد الدولة الرستمية:
إن الحديث عن الشعر الجزائري يسوقنا إلى الإشارة إلى الإشكالية إن الحديث عن الشعر الجزائري يسوقنا إلى الإشارة إلى الإشكالية الأجناس الأدبية (Genres)، والذي أطلق عليه في الدراسات المعاصر بـ "نظرية الأجناس"، فالعرب قديما عرفت الشعر وكان ديوانا لها، وكان حظ النثر قليل، ولقد تفطن نقادنا إلى ضرورة البحث في الشعر والنثر معا، فالشعر يحمل خصائص سردية (عناصر)، وكذلك النثر يستفيد من الشعر في بعض التفاصيل كالإيحاء والتكثيف...الخ، وبالتالي فمشكلة التصنيف لا حدود لها، وفي هذا الصدد يقول عبد المالك مرتاض: "إن مصطلح الأجناس "Genres" والذي تطور من بعد إلى نظرية الأجناس حديث النشأة، قريب العهد بالاستعمال في النقد الأدبي، وهو مصطلح تسرب إلى النقد العربي المعاصر عن طريق نظريات النقد الغربي اعترف بالأجناس الأدبية، ورسم لها الحدود ...."[1]، يرى الناقد أن تقسيم الأجناس الأدبية إلى شعر ونثر وغير ذلك يعتبر تعسف في حق الأدب، ويرجع ذلك إلى أن جل الأجناس الأدبية تستفيد من بعضها البعض، فقد يحضر في الشعر مثلا بعض المظاهر السردية كالحوار، الشخصية، كيف لا والرواية مثلا تحمل طابعا ديناميكيا وهي جنس هجين تستوعب الشعر في قالبها.
سؤال: ما هي الأجناس الأدبية التي عرفها الأدب العربي في الجزائر على عهد الرستمين؟ (2ه-3ه) (منتصف 2ه إلى نهاية 3ه) اتفق الباحثون في الأدب العربي على أن سكان الجزائر على عهد الدولة الرستمية لم يعرفوا إلا جنسين هما، الشعر والنثر، ولقد ازدهر الشعر على حساب النثر على شاكلة ما حصل للأدب في المشرق والأندلس.
كلنا نعرف أن الفتوحات الإسلامية تأخرت في بلاد المغرب، لأن الفاتحين اهتموا بحروب الردة أولا، ثم الفتوحات الإسلامية في الشام والعراق، وقد حمل الأدب العربي نفس الخصائص التي تميز بها في بيئة الأم (شبه الجزيرة العربية)، حيث كان قائما على جنس الشعر أساسا، ففي الجزائر أيضا بني على الشعر أيضا، ولم نكد نلفى حديثا عن النثر الفني في القرون الثلاثة الأولى للهجرة وعليه لقد اعتنى الباحثون والنقاد القدامي بالشعر عناية خاصة وكان النثر مكملا له لا غير.
2-خصائص الشعر ومقوماته:
لقد ضاع معظم الشعر في عهد الدولة الرستمية مع الحروب والفتن، خاصة مع احراق المعصومة (مكتبة تيهرت العظيمة)، وكذلك مع تغير الأفكار والايديولوجيا والمذاهب.
عرف الشعر الجزائري بالتقليد للشعر في المشرق على جميع الأصعدة شكلا ومضمونا حيث أخذ يستلهم أو يعارضه، أو تحداه ...، ولم يستأثر شعراؤنا بشخصية بارزة إلا قليلا.
- اختص بشاعرية متميزة، وافتقر إلى جو مخصب يبلورها.
- اتسم بالإبداعية العالية التي اقتدى بها بشعراء المشرق حيث كتبوا شعر على منوال قصائدهم (شعر عمودي موزون ومقفى)، على مستوى الشكل، أما المضمون كتبوا في معظم الأغراض (وصف، مدح، رشاد، هجاء، حكمة، زهد ...)
لقد تساءل النقاد وعلى رأسهم عبد المالك مرتاش عن استطاعة الشعراء الجزائريين على أن يرسموا البنية المحلية، ويعكسوا الحياة اليومية لسكان تيهرت، وأن يعبروا عن آمالهم وآلامهم، في ذلك العهد المبكر من التاريخ؟
لقد كشف البحث في تاريخ الجزائر الثقافي أن الشعراء آنداك لم يرقوا إلى أن يستحدثو شعرا يعكس الحياة الحقيقة لسكان تيهرت آنذاك لأنهم انساقوا وراء التقليد الأعمي للشرق وفي ذلك يقول مرتاض: ".... وذلك تأسيسا على ما لدينا الآن من وثائق ونصوص: أن لا إلا ما كان من أبيات بكر بن حماد التي يصف فيها مدينة تيهرت ... فقد ضاع ذلك الشعر بين حب التعلق بالشرق، ونبذ النتاج المحلي (وهي عقدة ثقافية لا تبرح لازبة بالجزائريين خصوصا والمغاربيين عموما" ومن الأغراض التي كتب فيها الشعراء الجزائريين نذكر:
1-الوصف: يعتبر الوصف من أهم أغراض الشعر الجاهلي والعربي بصفة عامة، حيث كان الشاعر العربي قديما يتغنى بوصف كل ما تقع عليه عينة وما يحيط به (بيئته)، وعليه وأصبح غرضا يحمل خصائص جمالية ولصيقا بالشعر أكثر من الأجناس الأخرى، فقد تعني الشاعر الجاهلي بوصف الفرس، والبيداء والمطر، والحبيبة و الطلل، هذا ما ألفيناه في شعر امرؤ القيس، وبحكم أن الشعر الجزائري في هذه الحقبة كان تقليدا للشعر في المشرق، فقد انكب الشعراء الجزائريون يتفننون في الوصف رغبة منهم في التفوق والتفرد (وصف الأشخاص، الزمن، الأمكنة، الأحداث...).
سمات قصائد الوصف:
- كانت ذات أهمية كبرى، حيث كانت تصدر عن طبع وسليقة
- عكست القصائد التجارب المعاشة.
ومن القصائد التي اشتهرت في هنا الغرض وصف بكر بن حماد التيهرتي لمدينة تاهرت المعروفة قديما بشدة البرد وهطول الثلج، حيث كانت قصيدته بمثابة بطاقة هوية تمثل انتماءه للمنطقة حيث يقول:
ماأخشن البرد وريعانه وأطرف الشمس بتيهرت
تبدو من الغيم إذا بدت كأنها تنشر من تخت
فنحن في بحر بلا لجة تجري بنا الريح على سمت
نفرح بالشمس إذا ما بدت كفرحة الذميّ بالسبت
يعرض المقطع وصفا لمناخ مدينة تاهرت الشديد والبرودة، خاصة في فصل الشتاء (ريعان البرد (أوله)، وأن الشمس تزورهم بين الفينة والأخرى، وشبهه بمناخ البحر الذي تتلائم أمواجه وهم في سفينة تأخذها الريح يمنيا شمالا، ومن شدة البرودة سكانها يفرحون بالشمس كالإنسان الذي يتنظر عهدا.
ولقد زار أحد أبنائها الحجاز فرأى منها حرا شديدا فأنشد وبيتا في ظرف من السخرية قائلا:
أحرقيني ما شئت، فإنك والله بتاهرت ذليلة
وهو وصف للشمس وغيابها في مدينة تاهرت، وتمركزها في الحجاز.
2-المدح: وهو غرض يعتمد على الإحسان والثناء على المرء بماله من صفات حسنة، والمدح والمديح، جمعه: مدائح وأماديح، وقد لازم هذا النوع الشعري الشعراء العرب القدماء، واشتهرت في العصر الأموي خاص في مدح الأمراء إما طعما في التكسب أو إعجابا بشهامتهم وخصالهم وكرامتهم ومآثرهم.
لقد قلت النصوص التي تنصرف إلى هذا النوع الأدبي، ومن ذلك مقطوعة يمدح فيها بكر بن حماد أحمد بن سفيان بن سوادة التميمي الذي كان عاملا للأغالبة على إقليم الزاب ومنها يقول:
فتى يسخط المال هو ربّه ويرضي العوالي والحسام المهندا
وممن منحهم بكر بن حماد الأمير أحمد القاسم بن ادريس صاحب مدينة كرت التي كانت تقع بين مديني فاس والمغرب الأقصى، واتسم مطلعها بالتكلف ولقد مدحه طعما في عطية، وأجمع النقاد على خاوها من الشعرية حيث يقول:
إن السماحة والمروءة والندى جمعوا لأحمد من بني القاسم
وإذا تفاخرت القبائل وانتمت فافخر بفضل محمد وبفاطم
وبجعفر الطيار في درج العلا وعلى الغضب الحسام الصارم
إني لمشتاق إليك وإنما يسمو العقاب إذا سما بقوادم
فابعث إلي بمركب أسمو به عليّ أن أكون عليك أول قادم
واعلم أنك لن تنال محبة إلا ببعض ملابس ودراهم
3-الزهد: وهو النظر إلى الدنيا بعين الزوال وهو عزوف النفس عن الدنيا وملذاتها، والمزهد: القليل المال والقليل الشيء، وقد عرف بكر بن حماد التيهرتي بالزهد وقد أطلق عليه الناقد عن المالك مرتاض لقب "أبو العتاهية الجزائر"، فقد برع في هذا الغرض، وقد اعتبر من أبرز شعراء القرن 3ه في أقطار المغرب وتدور أشعاره ما حول الزهد في الدنيا والتذكير بالآخرة، والدعوة إلى التزود بالعمل الصالح قبل الموت، ومنها قوله:
لقد جمحت نفسي قصدت وأعرضت وقد مرقت نفسي فطال مروقها
فيا أسفي من جنح ليل يقودها وضوء نهار لا يزال يسوقها
إلى مشهد لا بدلي من شهوده ومن جزع الموت سوق أخوقها
ستأكلها الديدان في باطن الثرى ويذهب عنها طيبها وخلوقها
هنا يذكر الشاعرنفسه في بالموت وينهاهاعن الصدود والأعراض ويذكره بمشهد القبر الموحش.
4-الغزل: وهو غرض يكون فيه التغني بالجمال وإظهار الشوق إليه والشكوى من فراق الحبيب وهو فن شعري يهدف إلى ذكر محاسن الحبيبة وينقسم إلى قسمين: العزل العذري، . العفيف أو البدوي، والغزل الصريح وهو الحضري، ولا نكاد تلمس هذا النوع عند بكر بن حماد وذلك لسببين هما:
1-كان راوية للحديث وعالما مميزا، فلا يقول شعرا في الغزل خشية أن يسيء إلى سمعته.
2-اشتهر بالزهديات والوعظيات، وهي صفة مكملة لرواية الحديث وحفظه ومدارسته.
ولقد اثبتت الدراسات أن له بعض المقطوعات التي كتب فيها غزلا رقيقا فبرع فيه حيث يقول:
خلقن الغواني للرجال بلية فهن موالينا وعبيدها
إذا ما أردنا الورد في غير حينه أتتنا به في كل حين خدودها
5-الرثاء: وهو بكاء الميت ومدحه بعد موته، وهو غرض من أغراض الشعر الجاهلي (تعداد وذكر لمناقب الميت ومدح له بعد موته)، وقد كتب فيه بكر بن حماد التيهرتي وما وصلنا مقطوعة له في رثاء ابنه عبد الرحمن حين موته حين عادا من مدينة القيروان، حيث تعرضا لغارة فقتلوا الابن وجرحوا الوالد حيث يقول:
زهوّن وجدي أنني بلا لاحق وأن بقائي في الحياة قليل
بلى، ربّما دارت على القلب لوعة فيرجعها صبر هناك جميل
وأن ليس يبقى للحبيب حبيبة وليس بباق للخليل، خليل
ولو أن طول الحزن مما يرده للازمني حزن عليه طويل
تبدّد ما قد كان منك مجمعا وجلله رمل عليك مهيل
وهناك مقطوعة أخرى لبكر بن حماد، أقل شهرة وتداولا الناس، وقد تفرد بذكرها صاحب كتاب "رياض النفوس" وصاحب كتاب "معالم الايمان" وهي لامية مؤثرة، دافعة العاطفة جياشة الإحساس تنصح باللوعة والوجع.
6-الحكمة والتوجيه: وهي علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية، وهي قوة عقلية علمية متوسطة بين الغريزة والبلادة، وقد صادفنا نص وحيد لأفلح بن عبد الوهاب والذي مطلعه:
العلم أبقى لأهل العلم آثارا يريك أشخاصهم روحا وأبكارا
حتى وإن مات ذو علم وذو ورع ما مات عبد قضى من ذاك أوطارا
وذو حياة على جهل ومنقصة كميّت قد ثوى في الرمس أعصارا
لله عصبة أهل العلم إن لهم فضلا على الناس غيابا وحضارا
العلم علم كفى بالعلم مكرمة والجهل جهل كفى بالجهل إدبارا
هذه مقطوعة من قصيدة طويلة لأمير حاكم وهو من نسل بني رستم، وهذا لما يثبت أن الحكام الجزائريين في أول دولة جزائرية على عهد الإسلام كانوا علماء وأدباء، وإنها أول قصيدة قيلت في تاريخ الشعر الجزائري، ومن المؤكد أن أبا بكرا كان يحفظها ويحمل بفحواها، حينما سافر إلى بغداد طالبا للعلم، وقد بلغ عدد أبياتها ثمانية وثمانين بينا.
[1]عبد المالك مرتاض، الأدب الجزائري القديم، ص 56.