أسباب ظهور المدارس النحوية ( السياسية، المعرفية، المذهبية...)
ارتبطت نشأة النحو بفشو اللحن زمانا ومكانا، وذلك في العراق بلا خلاف، وعلى وجه التحديد في البصرة، وفي خلافة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أو في بداية الدولة الأموية، وعموما في زمن حياة أبي الأسود الدؤلي على الأرجح، وفي تلك البيئة العراقية البصرية ترعرع النحو ونما وتميز بأسسه وأصوله ومنهجه وضوابطه وقواعده ومصطلحاته خاصة على يدي الخليل بن أحمد بعد أبي عمرو بن العلاء. وعن الخليل أخذ رأسُ المذهب الكوفي في النحو." فلماذا ارتبط النحو منذ نشأته بالعراق، وبالبصرة خاصة دون سواها من الأمصار؟
روايات كثيرة تتحدث عن سبب إقدام أبي الأسود على وضع النحو واصفةً حال اللغة في المجتمع العراقي عامة والبصري خاصة، وذلك بعد اختلاط أهلها بالأعاجم، منها أن أبا الأسود جاء إلى زياد بن أبيه، أمير البصرة، وكان يعلم أولاده فقال: إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال له زياد: لا تفعل. قال: فجاء رجل إلى زيادٍ فقال: أصلح الله الأمير، توفي أبانا وترك بنون، فقال زياد: توفي أبانا وترك بنون! ادعوا لي أبا الأسود، فلما جاءه قال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه ففعل. ومما حفز أبا الأسود الدؤلي إلى التقعيد للعربية سماعُه قارئا يقرأ على قارعة الطريق قوله تعالى:{ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولهُ }- التوبة من الآية 3- بالكسر، فقال: حاشا لله أن يبرأ من رسوله، وما كنت أحسب أن أمر الناس قد صار إلى هذا، ولذلك قال أبو عمرو بن العلاء واصفا ما آلت إليه اللغة في العراق من لحن وما ترتب عن ذلك من فساد في الدين مترتب عن الفساد اللغوي:" أكثر من تزندق بالعراق لجهلهم بالعربية."
ولما كانت العلوم ثمرة من الثمار الطيبة للحضارات كان العراق -وهو أرض الحضارات- أولى بأن يحتضن علم النحو ويتعهده بالرعاية، يقول صاحب كتاب نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة:" إقليم العراق العربي من أسبق الأقاليم مدنية وعمرانا لخصب تربته ووفرة مياهه واعتدال جوه، تعاقبت عليه قدما متحضرو الأمم من البابليين والأشوريين والفرس، كما انحدر إليه العرب من بكر وربيعة وكانت منهم إمارة المناذرة بالحيرة، ولما أشرقت عليه شمس الإسلام في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- أنشأ فيه المسلمون البصرة سنة 15. ثم الكوفة بعدها بستة أشهر على أصح الروايات، وسرعان ما ازدهر البلدان وتحولت إليهما حضارة بابل والحيرة وهوت إليهما أفئدة من المسلمين وزخرا بالعلماء والقواد وتقاسما مدنية العراق، حتى كان إذا قيل العراق فمعناه البصرة والكوفة، وكانوا يطلقون أحيانا عليهما العراقين."
ويمكن إجمال أهم الأسباب التي جعلت من العراق موطنا للنحو حاز به قصب السبق وتميز من خلاله عن بقية بلاد العرب فيما يلي:
- العراق ملجأ العجم -خاصة من الفرس- قبل الفتح الإسلامي وبقي كذلك أثناء الفتح وبعده، بل صار بعد الفتح ملجأً للعجم والعرب وهم ذوو لغات (لهجات) مختلفة، لتوفره على أسباب الحياة الحضارية الكريمة، فهو " على حدود البادية وملتقى العرب وغيرهم، توطنه الجميع لرخاء الحياة فيه، فكان أزهر بلد انتشر فيه وباء اللحن" حيث " اختلط العربي بالنبطي، والتقى الحجازي بالفارسي، ودخل الدين أخلاطُ الأمم، وسواقطُ البلدان، فوقع الخلل في الكلام، وبدأ اللحن في ألسنة العوام."
- أسبقية تفشي اللحن في أمصار العراق بدءا بالبصرة، خاصة بعد الفتح، بسبب ذلك الاختلاط الذي لم تعرف منه بقية البلاد العربية إلا القليل، قال أبو بكر الزبيدي:" ولم تزل العرب في جاهليتها وصدر من إسلامها، تبرع في نطقها بالسجية، وتتكلم على السليقة، حتى فتحت المدائن، ومصرت الأمصار، ودونت الدواوين." إذ حينها وقع الخلل في الكلام، وبدأ اللحن في ألسنة العوام. وقد قيل إن البصرة أول مدينة مصرت في الإسلام أيام خلافة عمر بن الخطاب– رضي الله عنه- فكانت إلى اللحن وانتشار الفساد اللغوي أسبق، ومن ثم فإن " أول ما وضعت نواة ذلك –أي النحو- في مدينة البصرة التي كثر فيها هذا الزيغ اللغوي والخطأ في التلاوة، وانتشرت فيها العامية بسبب مستوطنيها من الأعاجم واختلاطهم بأبناء العرب."
ومن ثم راح علماء العراق يتتبعون مواضع اللحن مسطرين معايير الصواب اللغوي في جميع مستويات الدراسة اللغوية ليستعين بها الموالي وعرب الحضر، ومن ذلك ما نقل عن الفراء من قوله: أَوَّلُ لَحْنٍ سُمِعَ بالعِراق هذه عَصاتي بالتاء. وقد قيل أيضا: إن أول لحن ظهر في العراق قولهم: حيِّ على الصلاة بكسر الياء والصواب الفتح، وقيل: قوله: " لعل له عذرٌ وأنت تلوم." كما قيل: أول زيغ ظهر في الألسنة تسكين أواخر الكلم هربا من الإعراب.
- ما عرف للعراق من خبرة متوارثة في مجال العلوم والتأليف، خاصة أن اليونانيين - وهم أهل الفلسفة والمنطق والطب - قد تكاثروا في البصرة منذ أسكنهم الإسكندر فيها إثر غزوه لتلك المنطقة، ولذلك اتسعت فيها- بعد الفتح- الدراسات العقلية والفلسفة والكلامية، فضلا عن علوم أخرى على رأسها علم النحو الذي كانت البصرة أسبق في الاهتداء إليه والتبريز فيه من الكوفة التي كانت مشتغلة بالقراءات ورواية الشعر، وذلك بنحو قرن من الزمن. قال ابن سلام في الطبقات:" وكان لأهل البصرة في العربية قدمة، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية، وكان أول من أسس العربية وفتح بابها، وانهج سبيلها ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي... وإنما قال ذلك حين اضطرب كلام العرب، فغابت السليقة ولم تكن نحوية، فكان سَراة الناس يلحنون ووجوهُ الناس." فلماذا سبقت البصرة الكوفةَ؟
عوامل سبق البصرة في علم النحو:
- العامل الجغرافي: كانت البصرة أقرب مدن العراق إلى بوادي العرب الأقحاح، ولذلك سهل على علمائها التعامل معهم من خلال الرحلة المتبادلة، خلافا للكوفة البعيدة عن تلك البوادي " فعلى مقربة منها بوادي نجد غربا والبحرين جنوبا، والأعراب تفد إليهم منهما ومن داخل الجزيرة العربية بكثرة، وكل أولئك يسر لعلماء البصرة حينما قاموا بتدوين القواعد أن يجدوا طلبتهم وينالوا رغبتهم، ففي هذه الثلاثة مدد من اللسان العربي الفصيح لا ينفد وهم في بصرتهم مقيمون لا يتجشمون بعدئذ أسفارا ولا يجربون قفارا، إذ لم تشتد الحاجة أولا للرحلة في مدى الطبقتين الأوليين من طبقاتهم."
وقد أسهم هذا العامل الجغرافي في الاختلاط الاجتماعي بين البدو الفصحاء وأهل البصرة المتحضرين فاستفاد علماؤها من الأعراب الذين استوطنوها، يقول محمد حسين آل ياسين: " وكان لها من موقعها الجغرافي المهم ومن كونها مركزا تجاريا يتوسط الشرق والغرب ما ساعد على نموها واتساعها بزمن قصير، فهاجر إليها من هاجر من القبائل العربية وبخاصة من تميم وقريش وكنانة وثقيف وباهلة وبكر وعبد القيس والأزد وغيرهم."
- العامل الثقافي: ويتمثل خاصة في قرب سوق المربد منها، وهو كسوق عكاظ في الجاهلية، فيه ما يشبه النوادي الأدبية والمجامع الثقافية، فكان يقصده الشعراءُ ورواتُهم للإنشاد والاستفادة من النقاد، ويتردد عليه أصحابُ المذاهب للمناظرات والدعوة إلى عقائدهم " كما كان العلماء والأدباء والأشراف ينزلون فيه للمذاكرة والرواية والوقوف على ملح الأخبار، واللغويون يأخذون عن أهله ويدونون ما يسمعون، والنحويون يسمعون فيه ما يصحح قواعدهم ويؤيد مذاهبهم."
وفضلا عما تميزت به البصرة من اشتمالها على سوق المربد، وعما زخرت به من مدارس لتعليم القرآن الكريم وتفسيره، ومن حلقات مسجدية لتعليم الصبيان، ومن مجالس للوعظ والقصص، قد تميزت عن الكوفة أيضا بتعايش ثقافي بين أمم مختلفة، فإضافة إلى العرب الذين استوطنوها، وهم من قبائل شتى، قد " سكنها الفرس الذين دخلوا الإسلام... واستوطن البصرة أيضا جماعة من السِّنْدِ يسمون (الزُّطّ)، وجماعة من النبط الآراميين (الصابئة)، والسَّبابِجَةُ الوافدون من جنوب شرقي آسيا، واليونانيون الذين تكاثروا منذ أسكنهم الإسكندر فيها في غزوه لهذه المنطقة، والزنوج النازحون إليها من السودان وزنجبار... ومن الطبيعي أن يكون نتيجة هذا المزيج من اللغات والثقافات والعادات تأثرا وتأثيرا واضحين في كل واحدة من هذه العناصر، فللعرب غلبة الدين واللغة، وللفرس غلبة أسباب الحضارة من ملبس ومأكل وملعب وبناء وغير ذلك، ولليونانيين والهنود غلبة الفلسفة والمنطق والطب، وهكذا صار الطابع الذي يطبع المجتمع البصري مزيجا من كل هذه الثقافات المتباينة."
- العامل السياسي: ويتعلق الأمر بما كان بين المِصْرَين -على الرغم من انتمائهما لبلد واحد هو العراق -من خلافٍ سياسي مترتب عن الخلاف بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- والمطالبين بالثأر لعثمان -رضي الله عنه- وعلى رأسهم الأمويون، وذلك منذ وقعة الجمل بين علي وعائشة -رضي الله عنها- والتي تعتبر وقعة بين المِصْرَين، حيث كانت البصرة التي نزلتها عائشة -رضي الله عنها- عثمانيةً أُموية، وهو الأمر الذي جعل منها مدينة مستقرة لنيلها رضى الأُمويين منذ القرن الهجري الأول، ولذلك تقدمت وازدهرت في وقت مبكر وحازت قصب السبق في علوم كثيرة منها النحو، بينما كانت الكوفة التي اتخذها علي -رضي الله عنه- مدينة علوية -عباسية بعد ذلك- مناوئة للأُمويين، وهو الأمر الذي جعل منها مدينة مضطربة لعدم رضى حكام بني أُمية عنها، وذلك منذ القرن الهجري الأول أيضا، فتخلفت عن البصرة لسخط الأُمويين على أهلها، ولم تزدهر وتنافس في مجال العلوم إلا حين سقط الأُمويون وقام مقامهم العباسيون الذين أقصوا البصريين المناوئين لهم منذ أيام الفتنة الكبرى، وقدموا الكوفيين الموالين لهم منذ أيام الفتنة أيضا، ولذلك كانت بيعة أبي العباس السفاح، أول الخلفاء العباسيين، في الكوفة وذلك " بفضل تشيعها ومظاهرتها للهاشميين، ولقد حفظ العباسيون لها تلك الصنيعة وعطفوا عليها وكافئوها، فانقلب الأمر في البلدين، وعزت الكوفة بعد ذل وأفل نجم البصرة بعد تألق { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران/ 140]