إن كان اعتناء دي سوسير ومعظم البنيويين باللغة باعتبارها نظاما نظريا مجردا منفصلا عن الواقع الخارجي، فإن علماء التخاطب اعتنوا – خلافا للبنيويين- بالكلام أو الاستعمال، لأن " هذا النظام المجرد يمكن أن يُجتلى، ويتحقق في الواقع الفعلي، ويرتبط بما هو خارج اللغة عندما ننقله من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل عن طريق الكلام، أو الاستعمال." بل، ورغم نقلنا إياه من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل يبقى ذلك المُنتَج الكلامي – من أجل تحديد المقصود منه- مفتقرا إلى عناصر خارجة عن اللغة ونظامها، يجب الاهتمام بها، والكشف عنها، وتحديد أدوارها وقيمة كل منها في فهم الخطاب "وهي المخاطِب، والمخاطَب، والسياق، أي ربط الجملة بزمان، ومكان، ومخاطبين، ومقام تخاطبي، وتحديد ما تشير إليه التعبيرات اللغوية الإشارية."

    فبالنظر إلى اللغة من خلال ذلك الطابع الاجتماعي يتجلى أن اللغة لا تطبق فعليا ولا تُستعمل إلا بين اثنين فأكثر يشتركان في نظام تلك اللغة ويصلح كل منهما – بتبادل الأدوار والتفاعل فيما بينهما وإقامة جسور للتواصل أخذا وعطاءً- أن يكون متكلما ومتلقيا في الوقت نفسه، وتكون منتجات اللغة عبارة عن رسائل متداولة بينهما وفق مسار دائري تعود فيه الرسالة إلى النقطة التي انطلقت منها، ولذلك شاعت تسمية الاستعمال اللغوي بين الطرفين بدورة التخاطب " وأضحى اللسانيون يبحثون في مبادئ (أو أصول) التخاطب principles of communication لبلوغ كنه مراد المتكلم بدلا من الاقتصار على البني اللغوية المجردة."

    أما دورة التخاطب فتطلق على كل ما تُبلَّغ به الأفكار وتُنقَل بواسطته الأخبار من مكان إلى آخر كالصوت، والخط، والإشارة باليد أو المنكب أو الحاجب... وغير ذلك مما تبلّغ به الرسائل من أنظمةٍ سواءٌ كانت لغوية طبيعية، أو اصطناعية ما دامت قائمةً على قصد التبليغ وإرادة ذلك، كالإشارات البحرية، وأعلام الكشافة، وإشارات المرور، والحركات اليدوية، فضلا عن اللغة الإنسانية الطبيعية باعتبارها تشترك مع ما ذكرنا من طرائق تواصلية في عناصر تلك الدورة، وإن كانت اللغة- باعتبارها موضوع الدرس اللساني- " أقدر الوسائل على التبليغ والتوصيل"، ولذلك سنقتصر على الأنظمة التواصلية البشرية ذات الطبيعة اللفظية وفق الهندسة التي اقترحها اللساني الروسي رومان جاكبسون Roman Jackobson، والتي تقوم على الاعتداد بكل جزئيات اللغة، الداخلية والخارجية التي لا غنى للرسالة اللغوية عنها، وذلك باعتبار اللساني معنيا بها – حسب جاكبسون- حيث " لا يمكن استبعاد نقطة منها لأنها تشبه الدارة الكهربائية تماما، والخطاب فيها هو التيار، فلو أسقطنا عنصرا في الدارة انقطع التيار، أو على الأقل تختلّ الدارة، ويتشوّه مخططها البياني، وكذلك الأمر بالنسبة للدارة التواصلية الكلامية، فغياب عنصر منها يعرقل السير العادي للرسالة، أو يحدث على الأقل خللا."

وتتمثل عناصر هذه الدورة التخاطبية في ستة أركان حسب المخطط التالي:

 

 

 

 

 

 
 

 

 

 

 

جهاز استقبال

 

جهاز إرسال

 

2ـــ المرسَل إليه

 

1ـــ المرسل

 

                               

 
 

 

 

 

 

 

 

    أما عما يمثله كل عنصر من عناصر هذا المخطط فيبدو فيما يلي: 

1- المرسِل Destinateur: وهو نفسه الباثّ أو المخاطِب أو الناقل أو المتحدِّث الحائز على جهازي الإرسال والاستقبال، حيث يعتبر أهم عناصر دورة التخاطب، حتى إن السامع قد يقتنص معلومات ثمينةً انطلاقا من جرس صوت المرسِل فقط، كتعرفه على " جنسه وسنه، وبدانته (Stoutness. Corpulence) وحالاته الصحية، والمنطقة الجغرافية التي ينتسب إليها، والطبقة الاجتماعية التي أثرت فيه، بل حتى على حالاته النفسية التي يوجد عليها آن الحديث." ولذلك " يستحيل على أي تصورٍ لوضعٍ تخاطبي لفظي أن يستغني جزئيا أو كليا عن المرسِل"فهو مصدر الخطاب شرط تمتعه بالصفتين التاليتين:

أ- تمتعه بالقدرتين المستقبِلة والمنسِّقة من أجل الترميز codage وتفكيك الرمز décodage اعتمادا على النظام اللغوي (نظام الترميز) المشترَك بينه وبين المرسَل إليه.

ب- تمتعه بلياقة كافية – ولو في مستواها الأدنى- تمكنه من توجيه الخطاب منطوقا (أداء مباشر) أو مكتوبا (أداء غير مباشر).

2- المرسَل إليه Destinataire : وهو المتلقي أو السامع أو المستقبِل أو المخاطَب الذي يقابِل للمرسِل فيُوَجَّه إليه الخطاب منطوقا أو مكتوبا – سواء كان في حضرة المرسِل زمانا ومكانا أو لم يكن - شرط امتلاكِه– كالمرسِل- جهازي الاستقبال والإرسال، وتمتعِه بما يتمتع به المرسِل خاصة ما تعلق بالقدرتين المستقبِلة والمنسِّقة من أجل تفكيك رموز الرسالة décodage اعتمادا على النظام اللغوي المشترك بينه وبين المرسِل، إضافة إلى الترميز codage، وهو ما يمكِّنه من التحولِ إلى مرسِلٍ يخاطِب المرسِل السابق الذي يتحوّل بدوره إلى مرسَلٍ إليه، لأن كلَّ من يُتَصَوَّرُ منه الاستقبال يُتَصَوَّرُ منه الإرسال لتتم دورة التخاطب.

3- الرسالةMessage : هي ما يريد المرسِل تبليغه إلى المرسَل إليه من أفكار، ولا يكون ذلك إلا في إطار ماديٍّ (صوت أو خط) وفق النظام اللغوي المشترك بينهما، أو هي "الجانب الملموس في العملية التخاطبية، حيث تتجسد عندها أفكارُ المرسِل في صورة سمعية لمّا يكون التخاطب شفهيا، وتبدو علاماتٍ خطيةً عندما تكون الرسالة مكتوبة"، وباختلاف مادة الرسالة يختلف جهاز إرسالها لدى المرسِل وجهاز استقبالها لدى المرسل إليه، فإذا كانت الرسالة صوتية فإن جهازَ إرسالها هو الجهاز النطقي وجهازَ استقبالها هو الأذن، أما إذا كانت الرسالة خطية فإن جهازَ إرسالها هو القلم أو ما يقوم مقامه كلوحة مفاتيح الحاسوب مثلا، أما جهازُ استقبالها فهو العين. وكلٌّ من الأذن والعين -باعتبارهما جهازي استقبال للرسالة- يحوِّلان ما استقبلاه من رموز صوتية أو خطية إلى الدماغ من أجل فك تشفير ذلك الخطاب اعتمادا على ما يتمتع به المرسِل والمرسَل إليه من نظامِ ترميزٍ مشتركٍ.

4- السَّنَنCode : أو الوضع، وهو اللغةُ المعينةُ أو النظامُ اللغويُّ الذِّهنيُّ المشتركُ بين أبناء الجماعة اللغوية الواحدة، الموزَّعُ على مستويات اللغة كلِّها، صوتا وصرفا وتركيبا ودلالة، والذي ينسجُ على منواله المرسِلُ رسالتَه codage، وعلى منواله أيضا يستقبل المرسَلُ إليه الرسالةَ ويفكك شفراتِها décodage، فهو نظام ترميزUn Code مشترك بين المرسِل والمتلقي، وعليه يعوِّل كلٌ منهما لأجل إنشاء الرسالة، أو لأجل استقبالها وفهمها، وإذا اختلف السَّنَنُ لم يتمكن المتخاطبان من فهم ما بينهما من رسائل لعجز المتلقي عن فك شفرات الرسالة ما دام نظامُه غيرَ نظام المرسِل، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تعطل دورة التخاطب وعجزها عن مواصلة مسارها، ولذلك فإن الرسالةَ لن تعدوَ كونَها مجردَ أصواتٍ أو خطوطٍ مبهمة، كعربي يستمع إلى ياباني!! أو يحاول –عبثا- قراءة نص مكتوب باللغة الصينية!!

5- السياقContexte  أو المرجع Le référent: فعلى الرغم من اشتراك المتخاطبين في السنن إلا أن المرسَل إليه قد يعجز عن فهم فحوى الرسالة، أو قد يفهمها فهما خاطئا إذا حاول ذلك – فهم الرسالة- دون رجوع أو احتكام إلى السياق بنوعيه -اللغوي وغير اللغوي- الذي قيلت فيه الرسالةُ، حيث " لا تفهم مكوناتها الجزئية، أو تفكك رموزها السَّنَنية إلا بالإحالة على الملابسات التي أُنجزت فيها هذه الرسالة قصد إدراك القيمة الإخبارية للخطاب، ولهذا ألحَّ جاكبسون على السياق باعتباره العاملَ المفعِّلَ للرسالة بما يمدُّها به من ظروف وملابسات توضيحية"

 فلو قلت مخاطبا أحدهمsadضمِّد حاجب الصبي واحذر العين) ثم قلتsad أظن الرجل عينا أرسله الأعداء) ثم قلتsadأصابت الصبيَّ عينٌ) ثم قلتsadزرت مدينة سطيف وشربت من عين الفوارة)... لفهم المخاطَبُ، مستعينا بالسياق اللغوي، أن لكلمة (عين) معانيَ مختلفة كشفت عنها الكلمات السابقة أو اللاحقة لها، فهي تعني في المثال الأول العين التي نبصر بها، وفي المثال الثاني الجاسوس، وفي الثالث عين الحاسد، وفي الرابع نبع الماء، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالسياق غير اللغوي، أو الخارجي، المتمثل في الظروف والملابسات المحيطة بالحدث الكلامي، فلو خاطبت أحدَهم قائلاsadاحذر العينَ) لما عرف ما أقصده لاحتمال دلالة الكلمة (عين) على معانٍ متعددة بسبب غياب القرائن اللفظية المعيِّنة للمعنى المقصود، غير أنه بإمكان هذا المخاطَب الاستعانةُ بالسياق غير اللغوي أو الخارجي لفهم الخطاب، فلو قيلت تلك الجملة (احذر العينَ) في وقت الحرب مثلا لعرفنا أنها تعني الجاسوس، ولو قيلت أثناء حديثنا عن شيء فائق الجمال لعرفنا أنها تعني عين الحاسد، ولو قيلت في المستشفى أو حلبة الملاكمة لعرفنا أنها تعني آلة البصر. وكذلك لو سمعت هذه الجملة (أنهيت العملية) ثلاث مرات في أماكن مختلفة وعلى ألسنة أشخاص مختلفي التخصصات، كأن أسمعها من تلميذ في المدرسة، ثم من طبيب في المستشفى، ثم من جندي في الثكنة العسكرية، حيث سيمثل كلٌّ من التلميذ والمدرسة سياقا خارجيا محددا لمعنى كلمة (عملية) وهو(عملية حسابية)، ويمثل كلٌّ من الطبيب والمستشفى سياقا خارجيا محددا لمعنى آخر لها، وهو (عملية جراحية)، بينما يمثل كلٌّ من الجندي والثكنة العسكرية سياقا خارجيا محددا لمعنى ثالث لها، وهو (عملية عسكرية)، وشتان بين المعاني الثلاث لكلمة عملية التي حددها السياق الخارجي.

6- القناةCanal : القناة هي الممر الذي تُنقل عبره الرسالة من المرسِل إلى المرسَل إليه، وتختلف باختلاف مادة الخطاب، فقناة الخطاب الصوتي الناقلة للموجات والذبذبات إلى الأذن، غير قناة الخطاب الخطي الناقلة للألوان والأشكال إلى العين... وإذا كانت القناة غير صالحة للنقل تعطلت دورة التخاطب ولم تصل الرسالة، كأن تكون المسافة بين المتخاطبين بعيدة جدا تمنع وصول الصوت أو قراءة الخط، أو يكون إرسال الهاتف أو تدفق الإنترنيت ضعيفا إذا كان الخطاب عبر هاتين القناتين.

    فالرسالة الحاملة لفكرة معينة، والتي يريد المرسِل تبليغها إلى المرسَل إليه، إنما تتم صياغتُها نطقا أو كتابةً وفق سَنَن معين مشترك بين المتخاطبَيْن، حيث يرسلها المرسِل اعتمادا على جهاز الإرسال الخاص به عبر قناة صالحة للنقل، ليتلقَّفها بعد ذلك المرسَلُ إليه في شكل رموز صوتية أو خطية اعتمادا على جهاز الاستقبال الخاص به محاولا فهم الفكرة التي تعبر عنها تلك الرموز، ولذلك يعمد إلى تفكيك شفراتها مستعينا بالسَنَن نفسِه الذي نُسِجت الرسالة على منواله، وبالسياق الذي قيلت فيه. وبنجاح المرسَل إليه في فك شفرات تلك الرسالة، وبتفاعله معها، يتحوّل إلى مرسِلٍ بينما يتحول المرسِلُ السابق إلى مرسَلٍ إليه، حيث " يعمل عقل الإنسان في حالة بث الرسالة بطريقة مختلفة عن عمله في حال استقبالها وتلقيها " ، فيعيد العملية السابقة بعناصرها ولكن بطريقة عكسية فتكتمل دورة التخاطب، ولولا ذلك التفاعل لما تمّت الدورة، إذ " لا تستقيم الحياة ببثٍّ من طرف واحد، بل لابد من أن نتبادل مع الآخرين مشاعرهم وأفكارهم واقتراحاتهم، ويكون (التواصل) لا (الاتصال) وحده سبيل ذلك، وتكون اللغة هي الأداة التي تحدث ذلك وتؤدِّيه."

    ويشرح الدكتور صالح الضامن ما يتم أثناء تلك الدورة قائلا:" لابد لنَقْلِ أي خبر أو فكرة من أن يكون لهذا الخبر أو هذه الفكرة مصدر ونهاية مختلفان في الزمان والمكان، أي إن الخبر أو الفكرة ينتقلان من نقطة البداية إلى نقطة أخرى هي نقطة النهاية، ولابد من أن يسلك هذا الخبر طريقا يُدعى الممر أو القناة، ولكي يمر الخبر عبر الوسط الناقل له فلابد من صياغته في رموز متعارف عليها، ويستعان لتحقيق ذلك بجهاز الإرسال لدى الإنسان وهو الجهاز الصوتي، وبعد إرسال الخبر لابد أن يوجد هناك جهاز لاقط، وهو أذن السامع تتلقى تلك الرموز وتترجمها وتعيدها إلى الصيغة التي انطلق بها الخبر من المصدر."

 

Last modified: Monday, 11 December 2023, 5:18 PM