طرح دي سوسير مجموعة من الثنائيات التي بنى عليها نظريته، سواء فيما يتعلق بفهمه الخاص للظاهرة اللغوية، أو فيما يتعلق بطريقة وصف وتحليل هذه الظاهرة علميا، وهي:

1-   ثنائية الموضوع: اللغة  La Langue والكلام  La Parole:

اللغة والكلام – وحتى اللسان- عند من سبق دي سوسير -وعند غير المتخصص- شيء واحد، أي " تلك العناصر المادية التي يمكن سماعها ونطقها، وتتسم بخصائص فيزيائية مميزة" وربما قالوا: مُيٍّز الإنسان عن الحيوان باللغة، وللعرب لغة هي غير لغة الفرنسيين، أو كلامهم غير كلام الفرنسيين، أو لسانهم غير لسان الفرنسيين، ولغة زيد أبين من لغة عمرو، أو كلامه أبين من كلامه... و" كثيرا ما نستخدم في كلامنا اليومي كلمة لغة للتعبير عن الكلام، نقول لغته جيدة أو لغته رديئة والمقصود بهذا الاستخدامُ الفردي للغة." وقد يوضح ذلك ما جاء في تعريف ابن جني ( ت 392ه) للغة – وهو من أحسن التعريفات- من خلال اعتباره إياها مادة صوتية – والصوت يدرك بالحواس- حيث قال:" أما حدها – أي اللغة- فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم." حيث يمكن أن يصدق هذا التعريف على ما تنتجه الجماعة، كما يصدق على ما ينتجه الفرد من أصوات تسمى في عرف اللسانيين المحدثين كلاما La Parole، دون إنكار ما جاء في التعريف من نقاط ركز عليها المحدثون في تعريفهم للغة كخاصيتها الاجتماعية، ووظيفتها التواصلية.

أما اللسانيون الوصفيون المحدثون، وعلى رأسهم دي سوسير فيفرقون بين مصطلحات طالما اعتقد من سبقوهم أنها ذات معنى واحد، وقد اعتمد دي سوسير في تفريقه على ثنائية (اللغة  La Langue والكلام  La Parole) قصد معرفة أي شقي هذه الثنائية يعد موضوعا صالحا للدراسة اللسانية، ومن ثم تعلقت هذه الثنائية -كما ذكرنا- بموضوع الدراسة اللسانية، حيث اختلف مفهوم اللغة (أي اللسان)  La Langueعند دي سوسير -باعتبارها موضوع الدرس اللساني- عن مفهومها لدى من سبقوه، وهو الأمر الذي وضحه من خلال هذه الثنائية، حيث لم يهتد أولئك القدماء إلى التفريق أو رسم حدود فاصلة بين المفردتين فاعتبروهما بمعنى واحد، ولذلك عقد دي سوسير بينهما مقارنة قصد تبيان أوجه الاختلاف بينهما، وتبيان أيهما أجدر بأن يكون موضوعا للدراسة اللسانية، فكان أهم ما ركز عليه هو فكرة النظام التي ارتبطت باسمه وكانت أهم كشوفاته، حيث تصدق عنده على أحد شقي هذه الثنائية دون الآخر.

انطلق دي سوسير في تفريقه بين شقي هذه الثنائية من ثالوث ( اللغة Le Langage/ اللسان La Langue/ الكلام La Parole) حيث كثيرا ما تتداخل مفاهيم هذه المصطلحات فلا يفرق الناس بينها، وربما اعتبروها مترادفات، ولذلك – ورغبة منه في تحديد أيّ منها يصلح موضوعا للسانيات- فرق بينها باعتبار بعضها متضمنا لبعض حسب الترتيب الذي ذكرناه.

فاللغة  Le Langage: هي اللغة الإنسانية بصفة عامة، وهي ملكة إنسانية تمثل ما تميز به الإنسان بشكل عام عن باقي الكائنات الحية الحيوانية من وسيلة اتصالية راقية لا تشبه طرائق الحيوانات في الاتصال، ولذلك – إذا ما أردنا أن نذكر ما تميز به الإنسان- قلنا: إنه عاقل، إنه مفكر، إنه ذو لغة... فاللغة الحقيقية إذن – باعتبارها ملكة- لا تنسب إلا إلى الإنسان، وهي لغة واحدة غير متعددة، غير أنها لا تُدرك إلا في إطار مجتمعي معيّن فتسمى حينئذ لسانا، وهو – وإن كان بشريا- إلا أنه يختلف من مجتمع إلى آخر فيتعدد لأجل ذلك.

فإذا أردنا أن نقدم دراسة علمية عن اللغة الإنسانية فإنه يتوجب علينا معاينة هذه اللغة الإنسانية، غير أننا سنصطدم بحقيقة متعلقة بكون اللغة الإنسانية غير مجسدة في صورة واحدة يمكن إدراكها، حيث إننا إذا طلبنا من أحدهم أن يعبر عن حالة ما باللغة الإنسانية فإنه لا مناص من استعمال الإنجليزية إن كان إنجليزيا، أو الفرنسية إن كان فرنسيا، أو العربية إن كان عربيا، أو العامية إن كان عاميا... أي إن بعض بني الإنسان يتكلم بطريقة معينة، وبعضهم الآخر يتكلم بطرائق أخرى تنتمي جميعُها إلى اللغة الإنسانية، ونجد بعضهم يكتب بطريقة معينة وبعضهم الآخر يكتب بطرائق أخرى... وهكذا، إذ ليس هناك لغة واحدة موحدة بين البشر، وإنما لهم صور متعددة للغة. فهل ننطلق في هذه الدراسة التي أردناها للغة الإنسانية من الإنجليزية أم الفرنسية أم العربية أم... ؟! أننطلق من لغة تكتب من اليمين إلى الشمال أم من لغة تكتب من الشمال إلى اليمين...؟! لأجل هذا قلنا إن اللغة الإنسانية Le Langage لا تُدرك إلا في إطار مجتمعي معيّن فتسمى حينئذ لسانا La Langue، وداخل تلك الأطر الاجتماعية يمكن دراستُها دراسة علمية.

 وبهذا يتضح أن اللغة  Le Langage– لأنها إنسانية- أعم من اللسان  La Langue– لأنه مجتمعي فقط-، وإنّ هذه اللغة  Le Langage ذات جانبين: جانب جماعيLa Langue، وجانب فرديLa Parole، ولا يمكن تصور أحدهما بغير الآخر.

 

 

 

 

أما اللسان La Langue: فمختلف عن اللغة، لأنه يعني اللغة المعينة، كالعربية والفرنسية والإنجليزية... فهو جزء محدد من اللغة، وهو جزء جوهري لكونه نتاجا اجتماعيا لملكة اللغة، ومجموعةً من التقاليد الضرورية التي تبناها مجتمع ما ليساعد أفراده على ممارسة تلك الملكة، فممارسة هذه الملكة لا يكون إلا بمساعدة الوسيلة التي تبدعها المجموعة وتضعها في خدمة هذه الملكة.

 فإذا كانت اللغة ملكة بشرية خُصّ بها الإنسان دون سواه من الكائنات من أجل التواصل، فإن اللسان ظاهرة اجتماعية تمثل نظاما من العلامات التي تعارف عليها أبناء مجتمع معين وتوارثوها جيلا عن جيل فمكّنتهم من التواصل فيما بينهم فقط، ولذلك يمكن القول إن اللسان La Langue: نظام من العلامات الصوتية الاعتباطية التي تُستخدم في الاتصال بين بني الإنسان.

وليس للسان  La Langueتحقق فعلي، لأنه عبارة عن قوانين وقواعد لغوية ( مجردة غير محسوسة) محصورة موزعة على أذهان أبناء المجتمع الواحد، أو هو كما – كما عرّفه دي سوسير-" رصيد (trésor) يُستودع في الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمع واحد بفضل مباشرتهم للكلام، وهو نظام نحوي يوجد وجودا (تقديريا) في كل دماغ، أو على الأصح في أدمغة المجموع من الأشخاص، لأن اللسان لا يوجد كله عند أحد منهم بل وجوده بالتمام لا يحصل إلا عند الجماعة."

والناس حين يتواصلون-ويحصل بينهم فهم متبادل- لا يتكلمون القواعد(لأنها مجردة غير محسوسة) وإنما ينشئون كلاما(مادي محسوس) منطوقا أو مكتوبا، ويتفاوتون في ذلك، انطلاقا من تلك القواعد ووفقا لها، فينقلون " اللغة من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل عن طريق الكلام أو الاستعمال".

فاللسان أشبه ما يكون ببرمجة (مجردة) آلية موحَّدة لمجموعة من الحواسيب زُوِّدت جميعا بنظام واحد (وليكن نظام الوورد2007)، حيث إننا إذا كتبا نصا (مادي محسوس) وفق ذاك النظام (وورد2007) المسجل في ذاكرة حاسوبنا، فإنه لا يمكن أن نطلق اسم الوورد على ذلك النص، لأن النص المُنتَج ليس عبارة عن قوانين، وإنما هو مُنتَج مادي حصلنا عليه انطلاقا من القانون المجرد(وورد2007) الذي بُرمج عليه حاسوبنا– وهو ليس ملكا لحاسوبنا وحده-ومن ثم فإنه بإمكاننا أن ننقل ذاك النص إلى حواسيب أخرى، فإذا كانت تلك الحواسيب مزودة بالبرنامج نفسه( وورد2007) استطاعت أن تقرأ النص، وكأنها تواصلت مع حاسوبنا الذي ينتمي إلى مجتمعها، أما إذا لم تكن مزودة بالبرنامج نفسه(وورد2007) -مع كونها مزودة ببرامج أخرى- فإنها لن تستطيع قراءة النص، وكأنها حاولت التواصل مع حاسوبنا فلم تفلح لأنه لا ينتمي إلى مجتمعها وإنما ينتمي إلى مجتمع آخر. ومثل النص الذي أنتجه حاسوبنا وقرأته الحواسيب الأخرى المماثلة فإنه باستطاعة تلك الحواسيب إنتاجُ نصوص أخرى لا حصر لها وقراءتُها أو فهمُها انطلاقا من كونها مزودة بالبرنامج نفسه.

 فهل يُستساغ بعد الآن الخلط أو عدم التفريق بين النظام وبين ما ينتجه ذلك النظام؟! إن طبيعة كلٍ منهما تختلف عن طبيعة الآخر، ولذلك فإن طبيعة اللسان La Langueتختلف عن طبيعة ما ينتجه اللسان، وهو الذي سماه دي سوسير كلاما  La Parole كما سنتعرف على ذلك.

معنى كون اللغة (اللسان)  La Langue  نظاما:

    لنا أن نطرح السؤال التالي – إذا أردنا أن نفهم ماهية النظام بصفة عامة -: ما الذي جعل من كومةٍ من الرمل والحصى، وحزمةٍ من الحديد، وأكياسٍ من الإسمنت، وقطعٍ من الخشب، وصفائحَ من الزجاج و... ما الذي جعل من هذا الركام بيتا جميلا مرة؟ وحجرة دراسة مرة أخرى؟ ومسجدا مرة ثالثة؟... إنها الأنساق (الأنظمة) التي نُظمت وفقها تلك العناصر، فلولا النسق (النظام) لبقيت تلك العناصر مجرد أكوام من الرمل والحصى والحديد... لولا النسق (النظام) لما كان لأيٍّ منها قيمة، أي لولا المخطط الذي اختاره المهندس، ولولا معرفة أين يوضع الحديد؟ ومن أي عيار؟ وكيف ينسج؟ وكيف تخلط الخرسانة؟ وما نسبة الإسمنت فيها؟ وما نسبة كلٍ من الماء والرمل والحصى؟ ولولا معرفة أن الأساس يُقدَّم علة الأعمدة، وأن الأعمدة تُقدَّم على الجدران، وأن السقف يأتي في الأخير... لولا إتقانُ كل هذا، وتفاعلُ كلِّ هذه العناصر، وقيامُ كلٍ منها بدوره، والتزامُه بمكانه لما حصلنا على ذلك البيت المتقن، أو الحجرة الدراسية الرائعة، أو المسجد الجميل... فمن عرّف اللغة خارج مفهوم النظام – بكونها أصواتا- كان كمن عرّف البيت بكونه كومةً من الرمل والحصى ...  إلخ.

    إن اعتبار اللغة (اللسان) نظاما عند دي سوسير يعني أنها بنية تحكمها شبكة من العلاقات الداخلية التي تربط مستويات اللغة بعضها ببعض، أو إنها مجموعة من الأنظمة تتكامل فيما بينها ولا يمكن فصل نظام عن آخر أثناء التأدية الفعلية للكلام. فاللغة -إذن- ليست مجرد قائمة من المفردات ولاهي " مجموعة من الألفاظ يعثر عليها المتعلم في القواميس، أو يلتقطها بسمعه من الخطابات ثم يسجلها في حافظته." إنما تُتصور اللغة وتُوصف باعتبارها نظاما " من العناصر المترابطة على المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية، لا على أنها تراكم من كيانات قائمة بذاتها."

                                            4/ المستوى الدلالي                   (تُدرس الدلالة دراسة علمية)

                       

                                      3/ المستوى التركيبي        (لا تُدرس الجمل، بل أنماط الجمل)       

اللغة (اللسان) La Langue = نظام                                                          

                                          2/ المستوى الصرفي           (لا تُدرس الكلمات، بل أنساق الكلمات)

     

                                   1/ المستوى الصوتي            (لا تُدرس الأصوات، بل قوانين الأصوات ووظائفها )                                                                                             

    إن النظام في اللغة (اللسان) يعني – في اللسانيات- تلك العلاقات المتبادلة للعناصر، "العلاقات بين العناصر، وليس العناصر نفسها هي موضوع العلم." ومن ثم قال دي سوسير بأولوية النسق أو النظام – في الدراسة اللسانية- على العناصر، ووظيفة اللسانيِّ هي استكشافُ تلك العلاقات التفاعلية الداخلية بين عناصر النسق، ووصفُها وتحليلُها، فلا يُحدَّد أيُّ عنصر إلا من خلال علاقته الخلافية مع العناصر الأخرى، لأن حصول التغير على أحد العناصر يعني تغيرَ النظام كلِّه أو ربما تعطُّلَه، فإذا قلتُsad صباح هذا اليوم أيقظني منبه الساعة) فإني سأكون بصدد التعامل مع نظام تركيبي خاص في لغتنا العربية، وإذا قلتُsadأيقظني منبه الساعة صباح هذا اليوم) فإني سأكون بصدد التعامل مع نظام تركيبي آخر تتيحه لغتنا، أما إذا قلتُsad منبه أيقظني هذا صباح اليوم) فإن النظام في هذه الحالة قد تعطل، ولا أحد من أبناء العربية يوافقني على ما نطقته من تركيب فاسد، لا لشيء إلا لأني خالفت النظام ولم ألتزم به – مع أني صغت تلك القطعة من العناصر نفسِها التي ركبتُ منها التركيبين الأول والثاني !

أما الكلام La Parole: فهو التأدية الفعلية الفردية للسان، أي ما ينتجه فرد ما داخل مجتمعه انطلاقا مما يعرفه من نظام وقوانين وقواعد لسانِه ( كاللسان العربي أو الفرنسي أو الإنجليزي...) ولذلك فهو " نشاط شخصي مراقب، يمكن ملاحظته من خلال كلام الأفراد أو كتاباتهم." ومن ثم يتعدد الكلام داخل المجتمع الواحد بتعدد الأفراد الناطقين، فأقول: سمعت كلام زيد، وأعجبت بكلام فاطمة... لأنه– حسب دي سوسير- إنتاج شخصي خاص بالفرد الذي أنتجه صوتا أو كتابة، دون أن ننسب الكلام إلى الجماعة، لأن للجماعة لساناLangue وليس لها كلامParole، ومن ثم اعتُبر (الكلام) العنصر الأضيق بين هذه العناصر الثلاث( اللغة/ اللسان/ الكلام)، فالكلام متضمَّن في اللسان، واللسان متضمَّن في اللغة، أو فلنقل: اللغة مشتملة على مجموعة من الألسنة، وكل لسان مشتمل على كلام كثيرٍ من الناس.

وباختصار نقول إن دي سوسير استطاع التمييز بين ما هو ملكة بشرية، وما هو تواضع اجتماعي، وما هو نشاط فردي متعلق بالذكاء والإرادة، حيث إن:

اللغة Le Langage: هي ما يميز الإنسان عامة عن بقية العوالم الأخرى من ملكة لغوية.

اللسان La Langue: يكون داخل اللغة، وهو ما يميز مجتمعا عن آخر، كالذي يتميز به المجتمع العربي عن المجتمع الفرنسي أو الإنجليزي –مثلا- من نظام لغوي معين.

الكلام La Parole: يكون داخل اللسان الواحد، وهو ما يميز شخصا عن آخر داخل المجتمع الواحد، كالذي يتميز به زيد عن عمرو –مثلا- فيما ينتجه كل منهما.

يمكننا القول - بعد هذا التفريق- إن اللسانيات تهدف إلى دراسة اللغة الإنسانية Le Langage بصفة عامة، ولما كان غيرَ ممكن إدراكُ هذه اللغة الإنسانية إلا في وفق وجودين، أحدهما اجتماعي وهو نظام يميز جماعة عن أخرى La Langue، والآخر فردي وهو أداء La Parole يميز فردا عن آخر داخل المجتمع الواحد، كان لزاما على دي سوسير أن يختار أيّ هذين الوجودين ( النظام الاجتماعي أم الأداء الفردي) أولى بالدراسة العلمية.

وقد قرر دي سوسير غير مرة في كتابه أن اللسان La Langue هو موضوع الدراسة وحده، لكن الكلام La Parole هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لدراسة اللسان دراسة علمية لكونه –أي اللسان- مجردا لا يمكن التعرف عليه إلا من خلال كثيرٍ من الكلام الذي أنتجه أبناء مجتمع ما انطلاقا من قواعده، وفي هذا يقول روبنز:" بينما يشكل ( Parole) أو الكلام المادة التي يمكن الحصـول عـلـيـهـا مباشرة، فإن الهدف الصحيح للغوي هو ( Langue) لغةُ كل جماعة لغوية، أي المعجم والقواعد والفونولوجيا المغروسة في كل فردٍ بسبب نشأته في اﻟﻤﺠتمع المعين وتنشئته على الأسس التي وفقا لها يتكلم لغة هذا اﻟﻤﺠتمع ويفهمها."

لم اعتبرت اللغة ( اللسان La Langue) أولى في الدراسة اللسانية من الكلام La Parole على الرغم من كونهما جانبين متناظرين لظاهرة واحدة هي اللغة الإنسانية؟!

بإجراء مقارنة بين اللغة La Langue( التي سميناها من قبل لسانا) وبين الكلام La Parole من خلال خصائص كل منهما تتبين أفضلية اللغة في الدراسة اللسانية على الكلام، وبمثل تلك المقارنة استطاع دي سوسير أن يميز –باقتدار- المستوى الذي يتأثر بذكاء الفرد وثقافته وإرادته، من المستوى الذي يعمل البنيويون على كشفه ووصفه ودراسته. فكثيرة هي الخصائص التي جعلت من اللغة(اللسان) La Langueموضوعا للدرس اللساني، ويكفيها كونها قواعد قارة ثابتة من صنع المجتمع لا من صنع الأفراد، والثابت يمكن ملاحظته ووصفه وصفا دقيقا، بخلاف ما لم يكن قارا كما هي حال الكلام La Parole باعتباره نشاطا فرديا متنوعا متعلقا بذكاء الفرد وإرادته. وقد ذهب ستيفن أولمان إلى أبعد من ذلك حين ركز على ما يلي: اللغة ثابتة مستقرة والكلام عابر سريع الزوال، واللغة تفرض علينا من الخارج في حين الكلام نشاط متعمّد مقصود، كما أن اللغة اجتماعية والكلام فردي.

    وقد رسم محمد قاسم المومني حدودا فاصلة بين المصطلحين لا تخرج في مجملها عن تلك الحدود التي بينها دي سوسير، فقال:"...أما (Langue) فهو النظام الذي يتعالى على الأفراد، هي جملة القواعد التي تحدِّد ضمن حالة لغوية استعمالَ الأصوات والأشكال ووسائل التعبير التركيبية والمعجمية. فهي تجريد باعتبارها نظاما متعاليا. وهي ظاهرة اجتماعية بما أنها توفر النمط الذي يحتذيه كل أفراد المجموعة اللغوية الواحدة في أفعالهم اللسانية وردود أفعالهم. أما (Parole) فهي تخص الاستعمال الفردي لهذا النظام المتعالي، فهي ظاهرة فردية محسوسة تخرج بالوضع اللغوي من وضع التجريد إلى وضع المحسوس، ومن وضع القاعدة إلى وضع استعمال القاعدة."

    كما أن اللغة(اللسان) La Langueسابقة للكلام باقية بعده، إذ إنها موجودة وإن لم تُنطق، يقول ليونز:" هناك علاقة وثيقة بين اللغة والكلام، ومنطقيا فإن الأخير (الكلام) يفترض سلفا الأول (اللغة) أي: إن المرء لا يستطيع الكلام دون استخدام اللغة، أي بدون التكلم بلغة معينة، لكن من الممكن أن يستخدم اللغة دون أن يتكلم."

   إضافة إلى عدم إحاطة الفرد باللغة (اللسان) La Langue لسعتها، وقديما قال الشافعي في الرسالة:" لا يحيط باللغة إلا نبي." إذ إنها ليست موجودة بشكل مكتمل عند أي متكلم وإنما وجودها المكتمل متعلق بالجماعة، فكل فرد يحاول أن يأتي كلامُه وفق لغة مجتمعه، ولكن لا يمكن أن يحققها تحقيقا كاملا، فاستعماله لها استعمال نسبي ولذلك نجد الأفراد متفاوتين في مراعاة قواعد لغتهم، ولعل هذا من أهم الخصائص التي دفعت بدي سوسير لأن يتخذ اللسان (اللغة)  La Langueموضوعا للدرس اللساني، خاصة أن كلام الأفراد يتحقق في صُوَر كثيرة غير محصورة سواء أتعلق الأمر بالمفردات أم بالعبارات والجمل، وهي منتجات لا سبيل إلى حصرها فضلا عن دراستها. أما القوانينُ والقوالب التي تصاغ وفقها تلك المفردات، والأنماطُ التي تبنى عليها تلك الجمل فمحصورةٌ معروفة في كل لغة ولذلك يمكن دراستها، ومن ثم كان موضوع الدراسة العلمية للسان مقصورا على تلك القواعد والأنماط أو النماذج التي يأتي الكلام وفقها.

     فبإمكاننا أن ننجز عددا غير متناهٍ من الجمل التي تشبه جملتنا (أكل الولد التفاحة) والتي جاءت وفق النمط التالي(فعل ماض+ فاعل معرف ب "ال" + مفعول معرف ب "ال") فنقول: قرأ الطالب النص- راجع التلميذ الدرس– حرث الفلاح الأرض- قرض الفأر الحبل... لنجد أنفسنا أمام جمل غير محصورة، ولكنها وفق نمط واحد على منواله أُنشِئَت تلك الجمل، ولذلك لا ينبغي أن ندرس كل تلك الجمل التي تمثل قائمة مفتوحة، وإنما ينبغي أن ندرس تلك النماذج والقواعد المحصورة في كل لغة.

Last modified: Monday, 11 December 2023, 4:18 PM