يشكل تاريخ 610 م منعرجا حاسما في حياة الأمة العربية في كل الميادين، لأنه فصل بين عهدين متناقضين، عهد سابق لهذا التاريخ، وهو العصر الجاهلي، وعهد لاحق له، وهو العهد الإسلامي.

فإذا سألنا عن المنجزات اللغوية لتلك الأمة في العهد الأول (الجاهلي) فإنه يستحيل أن نجد كتابا لغويا، أو عالِمَ نحوٍ، أو وصفا للّغة، وذلك على غرار بقية المجالات الأخرى، لا لشيء إلا لأن تلك الأمة كانت أمة أمية بدوية غير متحضرة... حيث لم يعرفوا من الثقافة إلا ما كان شفويا بما في ذلك الشعر الذي سجلوا فيه كل ما يخصهم من آداب، وسياسة، واقتصاد، ونُظُم اجتماعية، ومعتقدات دينية، فضلا عن كونه ممثلا نظامَهم اللغوي في أرقى وأبلغ مستوى... حتى قال فيه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-:" كان الشعر علم قوم، لم يكن لهم علم أصح منه." وقال فيه ابن عباس – رضي الله عنهما-:" إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب." وهذا الشعر نفسه- وهو الميراث الوحيد- لم يكن على الأرجح مدونا، وإنما تناقلته الأجيال مشافهة لقلة الكتابة والكَتَبة، لأن الكتابة من مستلزمات الحضارة لا من خصوصيات البداوة.

أما العهد الثاني - أي منذ 610م- فهو العهد الذي تحول فيه العرب -بسبب مجيء الإسلام- من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن البداوة إلى الحضارة، ومن المشافهة إلى التدوين... فهو العهد الذي تحضر فيه العرب تحضرا ايجابيا. وإن من مستلزمات الحضارةِ التمدنُ والاستقرارُ وهجرُ حياة البداوة، ومن مستلزماتها أيضا العلم، لأن الحضارة والجهل لا يلتقيان، ومن مستلزمات العلم التدوينُ، ولذلك اندثرت المشافهة شيئا فشيئا لتحل محلها الكتابة في مختلف العلوم  والفنون.

تحوُّلُ العربِ في ظرف قصير من حال الضعف والتشتت والجهل إلى حال القوة والوحدة والعلم إنما كان في إطار دولة – هي الدولة الإسلامية- التي طالبها الدين الجديد بالعلم والفهم ونشر تعاليم القرآن والسنة خارج شبه الجزيرة العربية، وبين أجناس مختلفي اللغات من فرس، وهند، ونبط، وأقباط، وبربر، ورومان، ويونانيين...وهو الأمر الذي أدى إلى انتشار رقعة الإسلام ودخول الأعاجم المختلفي اللغات في دين الله جماعات ووحدانا، واختلاطهم بالعرب، مع حاجتهم الماسة – وهم أعاجم- إلى قراءة القرآن العربي، وفهمه، وتدبره، وإقامة الصلاة به، إضافة إلى ترددهم على البيئة العربية خاصة الحجاز للحج والعمرة والتفقه في الدين على أيدي أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فضلا عما عرفته بعض البيئات العربية – خاصة الحواضر- من إقامة كثير من الأعاجم المسلمين بها إقامة دائمة، وهو الأمر الذي أدى إلى تفشي اللحن في كثير من البيئات العربية، وضعف سليقة أبناء العرب. وخوفا من أن ينتقل اللحن الواقع في كلام الناس إلى القرآن الكريم صار لزاما على العقلاء من العرب أن يحموا لغتهم وكتابهم المقدس عن طريق البحث اللغوي، والتقعيد لهذا اللسان حتى يتعلمه الأعجمي فيلحق بالعربي في الفصاحة، وحتى يُحفظ به لسان العربي من الزلل، ولتُعَرّب البلدان التي فُتحت كالأندلس وشمال إفريقيا وبلاد فارس والهند والصين...

وفي هذه الظروف بدأ العرب يفكرون في دراسة لغتهم واستخراج قواعدها بدءا بأبي الأسود الدؤلي ومن جاءوا بعده أمثال يحي بن يعمر وعبد الرحمن بن هرمز وعنبسة الفيل وميمون الأقرن ونصر بن عاصم الليثي...  خاصة فيما تعلق بتحسين الخط ونقط المصحف، ليُكمل المسيرة بعد ذلك لغويون ونحاة وبلاغيون عباقرة كعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وعيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب وأبي الخطاب الأخفش الأكبر وصولا إلى شيخ العربية الخليل بن أحمد وتلميذه الأعجمي سيبويه ومن جاءوا بعدهم.

إن هذا النشاط الذي بدأ مع أبي الأسود قد تفرع بعد ذلك مسفرا عن علوم لغوية عديدة أفصحت عن ذكاء العرب المسلمين وإبداعهم في التعامل مع الظاهرة اللغوية، حيث تفننوا ولم يلحق شأوهم في كثير من الفنون أحد ممن سبقهم من الأمم الأخرى، أو ممن جاء بعدهم، فقعّدوا للغتهم صوتا وصرفا وتركيبا، وناقشوا بمستوى راقٍ كثيرا من القضايا التي ناقشتها الأمم السابقة كقضية أصل نشأة اللغة، والوضع والاستعمال، والحقيقة والمجاز، وعلاقة الألفاظ بالمعاني... فأبدعوا في ذلك نحوا، وصرفا، وبلاغة، ومعجما، وعروضا، وخطا إضافة إلى تميزهم في المجال الصوتي الذي كان شديد الصلة بالقراءات القرآنية، هذا فضلا عن إسهامات علماء الأصول ومناقشاتهم اللغوية من أجل الاستنباط الصحيح للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

ويمكننا فيما يلي أن نشير إلى بعض ما تميز به البحث اللغوي عند العرب المسلمين مما يؤكد أن البحث اللغوي ليس وليد الحاضر، ولكنه قديم قدم الحضارات الإنسانية، ولا أدل على ذلك من كثرةِ مؤلفاتهم التي أغنت المكتباتِ العالمية وتنوعِها، إضافة إلى كثرة العلماء الذين أسهموا في ذلك كثرةً لا تضاهيها فيها أمة أخرى:

- البحوث الصوتية التي كانت انطلاقتها من القراءات القرآنية والتي تميز فيها العرب عن اليونانيين باعتمادهم على أسس فيزيولوجية تشريحية دقيقة قائمة على فحص وظائف أعضاء النطق، وعلى تحديد مواضعها بالنسبة لكل صوت.

- الدرس النحوي وما أفرزه من مناهج مختلفة معتدة بالسماع أو القياس، وما ترتب عن ذلك من مدارس نحوية متعددة ، وما صحب ذلك من وآراء نحوية متنوعة حتى داخل المدرسة الواحدة، ولذلك لم يعرف علم من علوم اللغة ما عرفه النحو من ثراء واهتمام وكثرة رواد وتأليف، حتى لقب أشهر مؤلفات النحويين، وهو الكتاب لسيبويه بقرآن النحو.

- انفصال الصرف عن النحو وقيامه علما مستقلا له مواضيعه ومؤلفاته وعلماؤه.

- التأليف المعجمي وتعدُدُ مناهجه ومدارسه، وكثرةُ منتجاته بين معاجم الموضوعات ومعاجم الألفاظ، بدءا بغريب القرآن لابن عباس، مرورا بأعظم عمل معجمي وهو العين للخليل بن أحمد، ثم الغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام، والألفاظ لابن السِّكِّيت، والجمهرة لابن دريد، والبارع للقالي، وتهذيب اللغة للأزهري، والمحيط للصاحب بن عباد،  والصحاح للجوهري، ومعجمَيْ المجمل والمقاييس لابن فارس، وفقه اللغة للثعالبي، ومعجمَيْ المحكم والمخصص لابن سيده... وغيرها من المعاجم، حتى ليمكننا القول إنه لم يخل قرن من القرون من التأليف المعجمي المبدع.

- قيام البلاغة علما مستقلا له أسسه، ومواضيعه، وأعلامه كالجاحظ، وابن المعتز، والجرجاني، والسكاكي، وله مؤلفاته ونظرياته وأهمها نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني.

- نشأة علم أصول النحو مستفيدا من علم أصول الفقه للبحث فيه عن أدلة النحو الإجمالية من حيث هي أدلته، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل.

- إسهام علماء أصول الفقه في الدرس اللغوي خاصة فيما يتعلق بالمباحث الدلالية للاستنباط الصحيح للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ومن ذلك تناولهم لدلالة المنطوق ودلالة المفهوم، العام والخاص، المطلق والمقيد، المجمل والمبين، المشترك والمترادف والمتضاد ومعاني الحروف والأسماء الشرعية وغيرها مما يتعلق بالمبادئ اللغوية التي نجدها مبثوثة في كتب الأصول كالإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، والأشباه والنظائر لتاج الدين السُّبكى، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي، وإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني.

- كان البحث في دلالات الألفاظ من أهم ما تنبه إليه اللغويون وغير اللغويين في وقت مبكر واهتموا به اهتماما كبيرا، خاصة مفردات القرآن الكريم، وما اهتمامهم بالخط ونقط المصحف الشريف ثم ضبطه بالشكل وبحثهم في معاني الغريب في القرآن الكريم والحديث عن مجاز القرآن والوجوه والنظائر في القرآن الكريم، وإنتاج المعاجم الموضوعية ومعاجم الألفاظ... إلا خير دليل على ذلك، ومن أهم تلك المباحث الدلالية تطرق سيبويه في الكتاب لقضية تعدد اللفظ للمعنى وتعدد المعنى للفظ في باب سماه "هذا باب اللفظ للمعاني" فقال:" اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين." ومن ذلك تناول الجاحظ في كتاب (البيان والتبيين) وكتاب (الحيوان) مباحث مرتبطة بموضوع الدلالة كتطرقه للدلالة السياقية، ومناسبة الكلام لمقتضيات المقام. ومن ذلك أيضا محاولة ابن فارس (ت395هـ) في المقاييس ربط المعاني الجزئية للمادة بمعنى عام يجمعها. ومحاولة ابن جني (ت392هـ) في الخصائص ربط تقلبات المادة الممكنة بمعنى واحد يجمعها فيما سماه الاشتقاق الأكبر. ومحاولة أبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي(ت 322هـ) في القرن الرابع الهجري أن يجمع من شتى الألفاظ العربية ألفاظا تغيرت مدلولاتها ومعانيها في العصر الإسلامي عما كانت عليه في العصر الجاهلي ، وذلك من أجل تحديد مدلولاتها وبيان اشتقاقها ومعرفة جذورها، وفق دراسة تطورية تاريخية فوضع بذلك اللبنة الأولى في علم معاني الأسماء العربية والمصطلحات الإسلامية في كتاب سماه (الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية). ومحاولة الزمخشري(ت538هـ) الناجحة- في معجم أساس البلاغة – في التفرقة بين المعاني الحقيقية والمعاني المجازية. دون أن ننسى جهود عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) الدلالية خاصة في كتابيه – دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة - الدائرة في مجملها حول مسألة اللفظ والمعنى في نظرية النظم التي أقامها على النحو وعلم المعاني، أي العلم بالتركيب والعلم بالدلالة. يضاف إلى ذلك كثيرٌ من جهود البلاغيين في دراسة الحقيقة والمجاز وكثير من الأساليب كالأمر والنهي والاستفهام...

    إن ما أشرنا إليه فيما يتعلق بالدرس اللغوي العربي ليس سوى غيض من فيض، ومع ذلك يدل على منجز عربي عظيم، وإبداع غير مسبوق، حيث إن " الدراسات النحوية العربية قد بلغت إلى مستوى علمي رفيع ونضج فكري مستنير. لقد جمعت بين النقل والعقل والوصف والتحويل. وهناك مظاهر عديدة تناولها العرب بالدراسة المستفيضة، ولم يتطرق إليها علماء الغرب إلا في القرن العشرين، قد شملت هذه الدراسات ميادين عديدة منها المورفولوجيا، والتركيب، والدلالة، والصوتيات، وصناعة المعاجم... وهذا لا يعني أن كل الدراسات اللغوية العربية لم يعترها أي ضعف أو خلل".

لقد استمر هذا الدرس اللغوي الذي عرفته جل الحضارات القديمة قرونا طويلة، متسما بالمعيارية، مؤديا وظيفته التعليمية، محاولا إلحاق المتأخر في لغته بالمتقدم، مشدودا إلى ماضي اللغة غير ناظر في حاضرها.

 

Modifié le: lundi 11 décembre 2023, 15:17