المحاضرة الثالثة: عوامل نشوء الأدب الجزائري القديم
مقدمة: يتأثر أي أدب على مر العصور بجملة من العوامل التي تتولّد عنها حركة أدبية لها مقوّماتها وخصائصها، ولقد تعرّض الأدب الجزائري إلى جملة من العوامل التي تنوّعت لتثري الأدب بشقيه الشعري والنثري من خلال اتّخاذها كحوافز لكتابة الأدب والتعبير عما يجول في خواطر الأدباء من خلال أعمالهم الأدبية ومن ذلك نذكر:
1-عامل الفتن والحروب: لقد شهدت الفترة ما بين (1ه إلى 3ه) العديد من الانتفاضات والاضطرابات السياسية والفترة والثورات وكذا الحروب والانقلابات، فلا تكاد تهدأ حرب ونضع أوزارها حتى تشتعل حرب أخرى على أنقاضها.
إن الحديث عن الدولة الرستمية الصغيرة الرقعة، الفتية النشأة، لا تكاد نجد لها استقرار إلا على عهد مؤسس الأول عبد الرحمن بن رستم، بن بهرام بن سام بن كسرى، وبعد وفاته خلفه ابنه عبد الوهاب الذي ظل في الحكم عشرون سنة ثم خلفه ابنه أفلح بن عبد الوهاب الذي دام حكمه خمسين سنة ثم تتابع حكم حكام بني رستم فكانوا خمسة من الأمراء وترك الأمر شورى بينهم فاشتعلت الفتن وتأججت الحروب، فكانوا أمراء بني رستم يفزعون إلى التماس المساعدة الخارجية من نفوسة طرابلس، حيث حاصر أبو اليقطان وهو آخر حكام بني رستم مدينة تيهرت سبعة أعوام حتى استسلم أهلها بعد أن أجهدهم الحصار، حيث اشترط عليه أن يعفو على كل من ارتكب أعمال القتال والنهب.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو:
- كيف تؤثر هذه الحروب وما علاقتها بنشأة الأدب في الجزائر؟ وهل حقيقة أن الاضطراب السياسي قد يكون عاملا في الازدهار الأدبي أو عامل إخماد لأية حركة ثقافية وأدبية تظهر؟
يرى الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض أن البحث في هذه الأشياء يكون نسبيا، فعلى حسب رأيه إن تغير الأمراء وتنصيب يتطلب إقامة احتفالات واحتفاءات ويستدعي مديحا وتنويها هذا ما يجعل الخطباء يتفنون، والشعراء يبدعون، ففي مثل تلك المناسبات الكبيرة ينتعش الشعر أو النظم على وقد تنفس الأدب الصعداء في عهد أبي حاتم الذي رفع شأن العلماء على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم وقد وصلتنا مقطوعة واحدة أنشأها بكر بن حماد مادحا فيها الأمير أبا حاتم، ويعتذر إليه لتورطه مع العامة في فتنة كانت اضرمت على حاتم فتمكن من إطفاء نارها ومطلها:
ومؤنسة لي بالعراق تركتها وغصن شبابي في الغصون نضير
- ازداد اتصال الشعراء بالأمراء من أجل نيل الشهرة.
- كان عدم الاستقرار في الدولة الرستمية عاملا مساعدا في نشأة وازدهار الأدب الجزائري بشقّيه (الشعر والنثر)ن حيث أنها وبحكم خارجية مذهبها( الإباضي)، وقيام نزعتها على الجدال الشديد والحوار العنيف، كانت مضطرة إلى اصطناع اللسان والعقل لاقناع الخصوم وطمأنة الأحياء، ومثل هذا السلوك يؤدي إلى انعاش حركة الابداع وبلورة الفكر الأدبي في الدولة.
- كانت الدولة الرستمية منتمية إلى المشرق العربي فكريا ومذهب وحضاريا، فلم تستطيع أن تنفصل عنه، حيث كانت تستمد القوة الروحية من الحركة الخارجية التي كان مقرها المشرق العربي (عمان)، وكانت تجلب من هناك الكتب لإثراء مكتبة تيهرت لغويا.
2-الازدهار النسبي للثقافة والعلم:
إن الدولة الرستمية هي أول دول جزائرية حاولت نشر اللغة العربية عن طريق تعليم الناس مبادئ الدين الإسلامي بلغته الأصل وتحفيظهم القرآن، وترويهم الحديث النبوي حتى إن مبارك الميلي يزعم أن العربية "هي لسان الدولة الرسمي"، ولكنه لا يتكرر أن البربرية كانت تعيش مع العامية الفصحى، بل إننا نجد إشارات إلى وجود شعراء برابرة مفلقين على ذلك العهد، لكن التاريخ لم يحفظ لنا نصوصا.
ولعل الذي جعل الرستمين وهم فرص يتخذون من العربية لسانهم الرسمي ثلاث عوامل:
أ-إن العربية هي لغة الإسلام، فكان من العسير تبني لغة غير العربية لمخاطبة الناس وهم مسلمون.
ب-كانت العربية في حقيقة أمرها، على ذلك العهد وما بعده، لغة عالمية بلا منازع، فكان من العسير عليهم فرض لغة أخرى غير مخدومة ولا متطورة في هذه الدولة العجمية الانتماء.
ج-إن فارسيتهم أبت عليهم ترسيم البربرية من باب قول: "عليّ وعلي أعدائي"، إذا كان مستحيلا اثبات اللغة الفارسية في الجزائر، في بيئة بربرية إسلامية خالصة وبنزعة دنيوية سياسية فقط، كما إن ترسيم البربرية في تلك المرحلة لم يك هو أيضا، وارد لأنها لا ترقي إلى مستوى لغة العلاقات العامة مع بلدان المشرق (عمان-جبال نفوسة (ليبيا حاليا).
- إذن كان نشر العربية واتخاذها لسان رسميا لدولتهم من الأمور التي اقتضتها الظروف التاريخية والدينية والسياسية واللغوية والاجتماعية التي كانت تحيط بهم وتفرض نفسها عليهم.
- كانت اللغة العربية هي لغة العلاقات الخارجية مع الدول المجاورة والبعيدة في أقصى المشرق العربي.
- كان الرستميون يجتهدون في نقل كل ما يصدر من كتب ذات شأن في المشرق العربي وخصوصا في بلاد عمان، وأول مكتبة عمومية أسست في تيهرت هي المكتبة التي أطلق عليها: "المعصومة" وهي المكتبة التي أحرقها الشيعة حتى أسقطوا الدولة الرستمية.
3-حب الحرية:
عرف الخوارج بتطلعهم الشديد للحرية، وحبهم لها، حيث كانوا يتوقون للثورة على النظام السياسي الحاكم لأدنى علة ولأبسط سبب، حيث ألفيناهم يقضون على آثار بني أمية في المشرق وعلى مضاجع العباسين في عهدهم الأول، وأقروا بوجوب الخروج على الحاكم الجائر.
ثم إن الحاكم الجائر مسألة نسبية جدا، إذ قتله لشخص منهم مثلا، أنهم بما استوجب إدانته، ثم تبين من بعد ذلك أن القتيل بريء، وأن القضاء عليه كان ينقصه التحري، فإن هذا الامام يفتدي في نظرهم جائز غاشما، يجب الخروج عنه ومحاربته.
- ان التشدد في المواقف والمعاملة من طرف الأمراء هو الذي جعل العامة يتأهبون الثورة والانتفاض على مثل هذه الأنظمة الفاسدة توقا للحرية، فالبرغم من الفتن والحروب التي ظلت تتضرم ولا تكاد تخمد على عهد الرستمين بحكم قلة التجربة السياسية في تسيير شؤون الدولة من جهة ومن جهة ثانية ثم بحكم الأطماع الخارجية مما كان في تيهرت على عهدهم
فإن تمجيدهم الحرية جعلها تعمل مع عامل الفتن مالا يعمله الاستعباد مع الأمن، وأصبحت مشعلا لتنوبر حركة الابداع في الدولة.
- وكان لمجاورة الدولة الرستمية لإمارات خارجية شمالا وغربا وشرقا (الأندلس، القيروان...)، عاملا آخر مهما للازدهار النسبي للأدب والحركة الثقافية العربية.