مخطط الموضوع

  • عام

  • التعريف بالمقياس

    مقياس: منهجية و تقنيات البحث التاريخي

  • بطاقة التواصل

    الاستاذ: حبيب كدومة

    جامعة الجيلالي بونعامة-خميس مليانة

    كلية:العلوم الإنسانية والعلوم الإجتماعية

    قسم التاريخ

    مقياس: منهجية و تقنيات البحث التاريخي

    الجمهور المستهدف: طلبة السنة الثانية ليسانس تاريخ

    التخصص: تاريخ عام

    المعامل:02

    الرصيد:03

    البريد الإلكتروني:h.kadouma@univ-dbkm.dz

     

    الحجم الساعي:14-16أسبوع(45ساعة)

    المدرج 04: -القطب القديم-كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية

    طريقة التقييم:تقييم متواصل(استجواب الأعمال الموجهة+امتحان المحاضرة

  • فضاء التواصل

    • أيقونة منتدى

      هذا الفضاء مخصص للتواصل معكم لا تتردوا

    • أيقونة المحادثة

      مرحبا بكم على فضاء الدردشة

  • قائمة المحتويات

    منهجية و تقنيات البحث التاريخي، مقياس سنوي موجه لطلبة السنة الثانية ليسانس تاريخ

    ويتضمن المحاور التالية:

    ـ تعريف علم التاريخ، مكانته، اهدافه، صفات المؤرخ

    ـ علم التاريخ عند اليونان

    ـ علم التاريخ عند الرومان

    ـ علم التاريخ عند العرب 

    ـ لعلوم المساعدة في دراسة علم التاريخ

    ـ الذاتية و الموضوعية في الكتابة التاريخية

  • المقدمة

     

    كيف أكتب مقدمة كتاب - موضوع

    يعتقد كثير من الدارسين لتخصص التاريخ، ان هذا التخصص يشتمل على سرد الحوادث الماضية، لكي يحفظ ذكرى الماضي و يمجد الأفعال البارزة في حياة الأمم و الأشخاص، وهناك من عامة الناس من يعتقد انه جملة من القصص توجد بغرض التسلية و إمتاع النفس، فظل التاريخ يتراوح بين نظرة العوام و محاولات الباحثين الاكاديميين لتغيير تلك النظرة، وهو ما أسهم في ظهور البحث العلمي التاريخي، و الذي يسعى من خلاله الباحثون للوصول للحقيقة التاريخية  في ذاتها قدر المستطاع، ومن هذا الباب فقد تغيرت نظرة الغرب للتاريخ بعد ان كان يقتصر على سرد الأحداث، و تاريخ الأسر الحاكمة و الحروب و المعارك، التي دارت بين الدول و الأمم، ليشمل تاريخ الحضارة بكل جوانبها الاجتماعية و الفنية ، و التيارات المختلفة التي تؤثر في حياتها، وفي هذا القرن صار التاريخ علم دراسة و تحليل ومقارنة و نقد، له قوانينه و قواعده ومناهجه التي لا يعييها إلا دارس المقتدر الذي يجمع بين الحاسة التاريخية الأمينة، و الوعي العلمي المتين، وبعبارة أخرى انتقل علم التاريخ من كونه فرع ثانوي من فروع المعرفة الإنسانية، إلى أحد أعمدتها الأساسية، تفتح له الأقسام و الشعب في الجامعات العربية، و تخصص له الكراسي في الجامعات الأوروبية، و يبحث في ميدانه مؤرخون كبار، و يسعى لدراسته و خوض غماره طلاب كثيرون.

    الخريطة الذهنية

     

  • المحور الأول: ماهية علم التاريخ

    وسنحاول في هذا الجزء من المحاضرات أن نعطي للطلبة الذين اختاروا تخصصهم هذا،  مجموعة من المعارف المتنوعة المرتبطة بمسار التطور التاريخي لعلم التاريخ من بدايته الى  وقتنا هذا ، وذلك على ضوء بناء منهجي، نبدأه بالإشكاليات التالية:

     ـ كيف  نشئ علم التاريخ ؟ وماهي مناهج البحث فيه؟

     ماهي مساراته واتجاهاته؟

    -       من هم ابرز المفكرين و الباحثين الذين اسهموا في بنائه؟

    -       ماهي اسهمات الحضارات المختلفة في علم التاريخ ؟

    -       من هو المؤرخ و ماهي صفاته؟

    اذن هي اشكاليات و اطروحات سنجيب عليها ، لتكون بمثابة القاعدة التي يعتمدها الباحث المبتدئ – الطلبة الموجهين للتخصص-، للتعرف على تخصصه و المعارف المرتبطة به هذا الى جانب ما يستم التعرض اليه في حصص الاعمال الموجهة ، التي تكون مكملة لما تطرقنا اليه في المحاضرة.

     

     

     

     

     

    ـ أصل كلمة التاريخ:

    لقد اختلفت الآراء في تفسير كلمة تاريخ وأصلها، ففي اللغة العربية يقول المؤرخ السخاوي في كتابه " الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ": ' التاريخ الاعلام بالوقت، يقال ارخت الكتاب وورخته أي بينت كتابته، وقيل اشتقاقه من الارخ يعني بفتح الهمزة وكسرها، وهو الأنثى من بقر الوحش، لأنه شيء حدث كما يحدث المولود، إلا انه يبدو ان أصول كلمة التاريخ مستمدة من الكلمة السامية التي تعني القمر أو الشهر، وفي الأكادية (أرخو) وفي العبرية (يرخ)، وهذه الكلمة لم تستعمل في العربية.

    فأما استعارة العربية لهذه الكلمة من الاكادية فبعيد الاحتمال، كما و انه ليس من المحتمل الافتراض أنها استعيرت مباشرو من العبرية أو الآرامية، وخاصة لوجود (ى) في الصورة العبرية ، وهناك احتمال اخر ان أصلها من العربية الجنوبية، ففما لاشك فيه ان عرب الجنوب اهتموا بأمر التوقيت لعوامل عديدة، منها الزراعة التي تخضع لتقلبات الجو و تبدل المواسم، ومنها الأعياد و الشعائر الدينية التي لها ارتباط وثيق بضبط الأوقات، ومنها التجارة في البر و البحر، وقد ورد لفظ " ورخ " في نقوش العربية الجنوبية وجمعها " أورخم "بمعنى الشهر القمري.

    لغة : ذكر أهل اللغة فيه معاني عدة: فمن قائل: إن التاريخ هو الإعلام بالوقت، أو التعريف بالوقت،  وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ووقته الذي ينتهي اليه زمنه ، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث و الوقائع الجلية، وهو فن يبحث عن وقائه الزمان من ناحية التعيين و التوقيت وموضوعه الانسام و الزمان/ ومسائله  أحواله المفصلة للجزئيات تحت دائرة الأحوال  العارضة للإنسان وفي الزمان.

    كما يقال: أرخت المولود أو الحدث في يوم كذا، أو أرخت الحادثة الواقعة في بلد كذا، أي: عرفتها بالوقت أو حددتها بالوقت أو أعلمت بوقتها. ونقل صاحب كشف الظنون عن بعض أهل اللغة: أن التاريخ هو تعيين وقت ينسب إليه زمان يأتي عليه أو مطلق الزمان، سواءً كان ماضياً أو مستقبلاً. وقيل أيضاً فيه: إنه تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع، من ظهور ملة أو دولة أو أمر هائل مما يندر وقوعه. وهذا معنى واضح ومهم؛ لأن الأحداث مرتبطة بالزمن، إضافة إلى أن بعض الحوادث تجعل مقياساً تاريخياً، على سبيل المثال: حادثة الفيل، يقال فيها: ولد بعد عام الفيل بعامين، ولد قبل عام الفيل بكذا، أي: أن هذه الحادثة كانت عظيمة وهائلة وغير مألوفة ونادرة وليست متكررة؛ فعرفها الناس، وتناقلوا خبرها، وضبطوا وقتها، ثم جعلت مقياساً بعد ذلك. وكما أرخ المسلمون أيضاً في عهد عمر رضي الله عنه بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت حدثاً عظيماً ترتب عليه بناء الدولة الإسلامية، والتحاق المسلمين بالنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، فجعل هذا الحدث العظيم -الذي هو حدث نادر غير متكرر- مقياساً تاريخياً، ولا يزال حتى هذا اليوم مقياس تاريخنا إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

    التاريخ اصطلاحا:

    أما تعريف التاريخ في الاصطلاح كعلم مستقل بذاته، فإن الأقوال فيه مسترسلة ومطردة، بمعنى: لم يأخذ العلماء فيه بما يقال في التعريفات ومنها:

    التاريخ هو دراسة الحوادث، أو الحوادث نفسها، والحوادث جمع حادث، والحوادث هو كل ما يطرأ على حياة البشر، وكل ما يطرأ من تغيير على الأرض متصلا بحياة البشر، وإذا كان التاريخ في حقيقته هو الحوادث، وكانت الحوادث هي التغيرات، والتغيرات وليدة الزمان انتهينا الى ان التاريخ هو الزمان.

    وهناك من يرى ان التاريخ هو وعاء الخبرة البشرية، وهو العلم الخاص بالجهود البشرية، أو هو المحاولة التي تستهدف الإجابة على الأسئلة التي تتعلق بجهود البشرية في الماضي، ومنه نستشف المستقبل وقد يحدث الظن ان التاريخ هو الماضي، او الاحداث التي طواها الزمن في غيابه، ولم تعد تهمنا في قليل او كثير، وليس هذا بصحيح، فالتاريخ يشمل الماضي والحاضر والمستقبل معا، ولا يمكن الفصل بينهم بل هو بالضبط وحدة لا تتجزأ، كالنهر الدفاق المياه المتلاحق الأمواج، لا تجد في تياره فجوة، ولا ترى بين امواجه ثغرة.

    يقول المؤرخ راوس في مؤلفه " التاريخ أثره وفائدته "، أن التاريخ يبحث في المجتمع الإنساني وفي حكاياته وكيف أصبح الانسان كما هو الآن.

    ويقول السير تشارلز فيرث عن التاريخ: " التاريخ شيء لا يسهل تعريفه، ولن يبدو لي انه سجل لحياة المجتمعات الإنسانية وللتغيرات التي اجتازتها تلك المجتمعات والأفكار التي تحكمت في توجيه نشاط تلك المجتمعات وللظروف المادية التي ساعدت أو اعاقت تطورها".

    ومن هنا يمكننا القول أنه ومنذ  أخذ الانسان البدائي منذ فجر المدنية يقص على أبنائه قصص اسلافه ممتزجة بأساطيره و معتقداته، بدأ التاريخ يظهر الى حيز الوجود في صورة بدائية أولية، وبدا الإحساس به يتكون في ذهن البشرية منذ أقدم العصور، وتدرج التعبير عن التاريخ مختلطا أولا بعناصر من الفن كالرسم و النقش على الحجر، وعندما سارت البشرية قدما في مضمار الحضارة في شتى أساليبها و صورها، رويدا رويدا، أخذ التاريخ يشكل أساسا جوهريا في تسجيل موكب البشرية الحافل الدؤوب، إذا هو المرآة أو السجل أو الكتاب الشامل الذي يقدم لنا ألوانا من الاحداث و فنونا من الأفكار وصنوفا من الاعمال.

    كما يلخص لنا المؤرخ رونثال في مؤلفه " علم التاريخ عند المسلمين "، معاني كلمة التاريخ، في قوله: " ان الأصل التاريخ لكلمة ايستوريا  istoriaالاغريقية ( و التي تقابلها كلمة التاريخ في اللغة العربية)ذو أهمية اكبر فعندما نشطت الحركة الفكرية و السياسية نشاطا عظيما في الدويلات الايونية، في القرنين السادس و الخامس قبل الميلاد، كان تعبير استوريا يقصد منه البحث عن الاشياء الجديرة بالمعرفة، أي لنوع من المعرفة كان يهم مواطن المدينة الواحدة، و التي تشمل معرفة البلاد و العادات والمؤسسات السياسية المعاصرة او الماضية، وسرعان ما أصبحت كلمة istoria مقتصرة على معرفة الاحداث التي صاحبة هذه الظواهر، وبذلك ولد تعبير التاريخ بمعناه الشائع، وقد أخذ الرومان تلك الكلمة بمعناها ومبناها، وظلت كلمة استوريا تعبيرا فنيا لم تتبدل حروفه بانتقاله الى اللغات الاوربية كما كان يحدث لو مانت هذه الكلمة دارجة الاستعمال عند العامة، ومن كلمة استوريا اشتقت الكلمات الأوروبية الحديثة مثل history  بالإنجليزية، و histoire  بالفرنسية.

    وقد أصبح الشائع حاليا التفريق بين كلمة history كتعبير دال على مسيرة الانسان الحضارية على سطح الأرض منذ القدم، وعبارة كتابة او تدوين التاريخ historiagraphy  كتعبير عن العملية الفكرية الانشائية التي تحاول إعادة تسجيل و بناء وتفسير مسيرة الانسان على كوكبه، فالتاريخ أشبه ما يكون بنهر هائل متدفق تحوي مياهه كل تفاصيل نشاط وأفكار وتطلعات و أحاسيس ونجاح و إحباطات الانسان  منذ الخليقة، أما تدوين التاريخ، أي العملية الفكرية الانشائية فليست سوى مشهد يلتقطه المؤرخ من الماضي القريب او الماضي البعيد، ويحاول من خلال مصادره المتاحة، ومنهج علم التاريخ، وقدراته كمؤرخ، أن يعيد تركيبه.

     

    فائدة التاريخ:

    تدور جهود المؤرخين حول النفاذ الى الماضي، بهدف استلهام احداثه والتأمل فيها، ومعرفة كل ما يطرأ عليها من تغيير ولا شك أن التنقيب عن تلك الاحداث والوقوف على كنه دوافعها ونتائجها يكشف لنا عن الدروس التي تفيد في توجيه حاضرنا وفهم مستقبلنا، وكيف ينبغي له أن يجئ، فالمستقبل ملتقى أنظار الجميع ومحط آمالهم.

    ينبغي لنا ان لا ننسى القيمة العظيمة التي يفرزها لنا الماضي، وهي الوقوف على اوضاع المجتمعات السابقة لنا، والعادات والتقاليد والأفكار التي اندثرت وتركت القليل ـ أو لا شيء ـ خلفها، فانت لا تستطيع ان تفهم وطنك مالم تعرف شيئا من تاريخه.

    ومن المؤرخين المسلمين الذين كتبوا حول فائدة التاريخ، العلامة بن خلدون في مقدمته، ومما جاء في هذا الشأن: " اعلم ان فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضيين من الأمم في اخلاقهم والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا."

    ـ والى جانبه نجد ما كتبه المقرزي في مقدمة كتابه " المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، فيقول:" وبعد، فإن علم التاريخ من أجل العلوم قدرا، وأشرفها عند العقلاء مكانة وخطرا، لما يحويه من المواعظ والإنذار بالرحيل الى الاخرة عن هذه الدار، والاطلاع على مكارم الاخلاق ليقتدي بها، واستعلام مذام الفعال ليرغب عنها أولو النهي...".

    أهمية دراسة التاريخ لدراسة التاريخ الإنساني أهمية كبيرة وتعود بالنفع بحيث تساعد تجارب الماضي على فهم الحاضر بصورة أعمق وأوضح، وفيما يأتي أهمية دراسة التاريخ: يساعد التاريخ على فهم الناس والمجتمعات فهو يساعد على تعميق فهم سلوكيات الناس وكيفية بناء مجتمعاتهم؛ وذلك بناءً على الكم الكبير من المعلومات، والآثار الذي يوفرّه، فتجارب الإنسان السابقة تساعدنا بشكل كبير على فهم الحاضر، فعلى سبيل المثال فهم مدى تأثير الاعتقادات على تشكيل الحياة الأسرية.

    . يساهم التاريخ في زيادة التفاهم الأخلاقي تساهم دراسة التاريخ في زيادة أخلاق الإنسان؛ وذلك من خلال اطلاعه على القصص والأحداث الماضية؛ مما يثير إحساسه بالأخلاق، فالدروس التي يتلقاها الإنسان أثناء دراسته للتاريخ مفيدة جداً له؛ على الصعيد الأخلاقي؛ فهي تجنبّه أخطاء السابقين كما تعلّمه الشجاعة والاجتهاد وغيرها من الأمور.

    يساهم التاريخ في تكوين هوية الفرد يساهم التاريخ في تكوين هوية الفرد، فتاريخ الأمة التي ينتمي لها تعتبر مكوّناً رئيسياً لهوية الفرد، وهذا ما يوفرّه التاريخ.

     



     

  • المحور الثاني : صفات المؤرخ

    من هو المؤرخ؟

     ـ بذل المؤرخون وفلاسفة التاريخ، منذ أن عرف الإنسان كتابة التاريخ، جهودًا جمة في مجال تعريف التاريخ وتوضيح حدوده، وتعيين هويته ووظيفته، ومع ذلك فإن جهدًا مماثلًا لم يبذل في تعريف (المؤرخ) نفسه، وهو الكاتب للتاريخ، من هو؟ ما صفاته؟ ما تميزه؟ ما هي الاستعدادات الواجب توفرها فيه قبل أن يكون مؤرخًا؟ مع أن التاريخ، بوصفه علمًا، هو نتاج عمل المؤرخ، وثمرة جهده، ومما زاد هذه الإشكالية إشكالًا أن مصطلح (المؤرخ) - أي: رجل التاريخ - ينصرف إلى معنيين لا معنى واحد، أولهما: أنه من يقوم بتسجيل الحدث ساعة وقوعه، والثاني: من يكتب التاريخ مستندًا إلى شهادات أولئك (المسجلين)، ولا يتسع تعريف المؤرخ للمعنيين معًا؛ فالمؤرخ بمعنى (المسجل للتاريخ) هو شاهد عيان، لا أقل ولا أكثر، يكتب شهادته عما رآه أو سمع به ويمضي، والمؤرخ بالمعنى الآخر هو باحث في شهادات غيره، لا يحق له أن تكون له شهادته بين الشهود؛ فهو قاضٍ يقضي مستندًا إلى ما بين يديه من شهادات، ولا يحق له أن يترك منصته فيفقد حيدته حين يدلي بشهادته مثل سائر الشهود، ولو فعل لما أصبح قاضيًا أصلًا، أو بمعنى آخر: لا يصبح مؤرخًا بذلك المعنى الذي ذكرنا، وهنا يمكننا الاستشهاد بما جاء به كوندرسيه في تأكيده على وظيفة المؤرخ هي اكتشاف العقبات التي وقفت ـ أو قطعت المجرى الطبيعي للتقدم و التخلص منها، وعمله هو انتزاع الماضي من ظهر الحاضر، حتى يمكن للحاضر أن ينهض و يواصل رقيه ورخاءه وسعادته."

    ـ صفات المؤرخ: لا يدرس التاريخ عفوا ولا يكتب اعتباطا، وليس كل من يحاول الكتابة في التاريخ يصبح مؤرخا، كما قد يتصور بعض الناس، او كما يتخيل بعض الكتاب، حينما يسطرون صفحات طويلة عن حوادث ماضية أو معاصرة، ويعتقدون بذلك أنهم يكتبون تاريخا، ما داموا قد أمسكوا بالقلم، فلا بد من أن تتوفر في المؤرخ الصفات الضرورية وأن تتحقق له الظروف التي تجعله قادرا على دراسة التاريخ وكتابته.

    ان خوض غمار البحث في الدراسات التاريخية، يستوجب من الباحث ان يتحلى بجملة من الصفات ولعلنا نركز في جملتها على:

    أمّا صفات المؤرخ الناجح، فعليه أن يكون عالمًا محبًا للدرس، ذا جلد، وصبوراً فلا تمنعه وعورة البحث، والمصاعب، والعقبات عن مواصلة العمل ولا توقفه ندرة المصادر، ولا يصرفه عن عمله غموض الوقائع واختلاطها واضطرابها. ولا يعجزه السفر والترحال  عن الوصول الى المادة المطلوبة.

     كما عليه أن يتصف بالأمانة والشجاعة والإخلاص، فلا يكذب ولا ينتحل ولا ينافق أصحاب الجاه والسلطان ولا يخفي الوقائع والحقائق التي قد لا يعرفها غيره في بعض الاحيان. او قد لا ترضية او ترضي قومه.

    كما عليه أن يلتزم بملكة النقد؛ فلا يقبل كل كلام أو يصدق كل وثيقة أو مصدر بغير تفنيد وتمحيص واستقراء، فيأخذ الصدق أو ما قارب الحقيقة. وعليه أن يبتعد عن حب الشهرة والظهور، والاحتفال بالكسب والألقاب والجاه والمنصب، وأن يكرس نفسه لعمله العلمي في صمت وسكون.

    وعلى المؤرخ أن يتصف بالترتيب، وأن يكون ذا عقل واع ومرتب ومنظم؛ لكي يميز بجلاء بين الحوادث، وينسق الحقائق ويحدد العلاقة بين حوادث التاريخ في الزمان والمكان، ويربطها في اتساق وتوافق. ومن أهم الصفات التي يجب أن يتصف بها الموضوعية وعدم التحيز والتحرر من الميل أو الإعجاب أو الكراهية لعصر خاص أو ناحية تاريخية معينة أو لشخص بعينه.

     كما عليه أن يكون ذا ذوق رفيع وصاحب إحساس وعاطفة وتسامح وخيال، بما يتيح له أن يدرك آراء الآخرين ونوازعهم، وما يجيش في صدورهم من شتى العواطف، والدوافع التي حركتهم لاتخاذ سلوك معين في الزمن الماضي، فآثار الإنسان تتحدث إلى قلب المؤرخ المجيد فيجد في ثناياها صدى البشر وصدى نفسه وتتجلى فيه روح العلم والفن، ويبعث التاريخ حيّا ويحيا في التاريخ ويعيش للتاريخ.

    ونخلص من هذا الى ان الشروط الواجب توفرها  فيمن يتصدى لكتابة التاريخ تنقسم الى قسمين: قسم يرجع الى مادة المؤرخ و معلوماته ومعارفه، وقسم يرجع الى اخلاق المؤرخ و نفسيته. ويمكن الجزم انه كلما تحلى الباحث بهذه الصفات الا و كان عمله ، عمل علمي موضوعي بحت، فالمؤرخ بمثابة القاضي الذي لا يكون حكمه اقرب الى العدل الا بقدر المستوى الذي يصل اليه من الالتزام بالصفات الانف ذكرها .

     



    [1]

  • المحور الثالث: الكتابة التاريخية عند الغرب.

    يتطرق هذا المحور : الى اسهامات الغرب في مختلف الفترات الحضارات من القديم الى المعاصر

    مع التعريج على كبار المؤرخين و مناهجهم و اسهاماتهم في تطوير البحث التاريخي.

     

    ـ الكتابة التاريخية عند الغرب القدماء:

    1-            عند اليونان:

    الراي القائل إن اول كتابة تاريخية ذات شأن ظهرت عند اليونان، كانت في الاشعار المنسوبة الى هوميروس صاحب الملحمتين الخالدتين " الالياذة و الاوديسا "، له أساس من الصحة ، ففي اشعار هوميروس معلومات وافرة عن المجتمع اليوناني و ثقافته، حيث يمكن تكوين صورة واضحة لحضارة عصره من خلال الاطلاع على اشعاره، ولكن ميلاد الكتابة التاريخية الحقيقية عند الاغريق كان يستلزم خلفية تاريخية لم يتيسر ظهورها عند اليونان الا في القرن السادس قبل الميلاد، وهذه الخلفية هي ظهور المتابة النثرية و النظرة الناقدة الى الاساطير الشائعة ، وبواعث الاهتمام بالبحث عن أصول المجتمع و نشأة النظم و القوانين و العادات و التقاليد.

    ويعتبر هيكاتيوس  Hecataeus ، اول مؤرخ اغريقي، وقد كتب في اصل الشعب الاغريقي، و اتخذت كتاباته التاريخية اتجاها نقديا صريحا تجاه الاساطير اليونانية القديمة، التي دارت حول نشأة الخلق ، ويقول في ذلك: " لست أدون  هنا الا الرواية التي اعتقد صحتها و صدقها، فان اساطير اليونان كثيرة، وفي رايي أنها تدعو الى السخرية."

    وجاء من بعد هيكاتيوس مؤرخ كبير هو هيرودوت ، وقد اختلف الناس في امره و الحكم على كتاباته، على ان ذلك لم يمس بشهرته التي اكتسبها فهو عندهم " أبو التاريخ "، وقد فطن هيرودوت عن ادراك و تقدير دقيقـ ان التاريخ علم  او من الممكن ان يكون علم، ومن  ثم لابد ان يعرض لأعمال الانسان، وقد ادرك هيرودوت ان التاريخ ليس من قبيل الاساطير، وانام هو من قبيل البحث العلمي فكلمة تاريخ  يونانية في الأصل ومعناها " بحث و استقصاء" التي اتخذها  هيرودوت عنوانا لكتابه، قد استحدث بها ثورة في التأليف، فتحويل الاساطير الى تاريخ علمي، لم يكن بالأمر المألوف عند العقلية الاغريقية، فكان بمثابة فتح جديد في القرن الخامس قبل الميلاد.

    وقد كان هيرودوت رحالة مطبوعا على حب الاستطلاع، والحرص على التزود من المعرفة وكان يسال ويستفسر ويجمع المعلومات والاخبار بمختلف الوسائل والطرق، ويحاول ان يتعرف على العادات والتقاليد والعقائد والأديان والقوانين والنظم، ولا يكاد يفلت من اهتمامه الفاحص ونظرته الشاملة شيء، وبقوة عبقريته استطاع ان يحتوي كتابه كل ما رآه بعينيه وسمعه بأذنيه في أسلوب جذاب وعرض شيق، مما جعل كتابه من طرائف كتب التاريخ الخالدة.

    وممن عاصروا هيرودوت ثيوكيديدس، الذي ركز في كتابته حول موضوع واحد وهو موضوع الحروب البلوبونيزية، التي قامت بين اثيما و اسبرطة في الثلث الأخير من القرن الخامس قبل الميلاد، وبذلك جاءت كتابته ملمة بكل تفاصيل الموضوع، وهذا راجع لكونه معاصرا للحوادث الحاصلة، حتى انه اشترك في البعض منها، كما كان على صلة مباشر ة بالساسة و القادة الآثينيين ، ومما ميز كتابته بانه حلل الحوادث و المواقف و الشخصيات تحليلا اجتماعيا و نفسيا عميقا، فكان بذلك  اول مؤرخ يتبع المنهج العلمي التحليلي في كتابة التاريخ.

    2-ـ عند الرومان:

    تأثرت كتابة التاريخ عند الرومان أثناء بلوغها مرحلة النضج تأثرا كبيرا بمبادئ ومناهج مؤرخي اليونان الذين كانت كتاباتهم نموذجا حرص الرومان على الحذو به، لذا نجد الرومان كحال اليونانيون اعتبروا التاريخ فرع من فروع الادب، باستثناء عدد قليل منهم لذا كانت كتابتهم أدبية اكثر منها تاريخية فلم يخضعوها لمناهج البحث العلمي، فكان الاهتمام بصقل الأسلوب و تجانس العبارة هند كبار المؤرخين من أمثال: سللستيوس و ليفيوس، و تاكيتوس غاية أسمى من تحري الحقيقة التاريخية، وفي ذلك يقول الخطيب الروماني "شيشرون ": " نحن نسلم للبلاغين بحق تشوية التاريخ حتى تكون روايتهم اشد وقعا في النفس."، وقد ظهر بين الرومان مؤرخون لهم مكانتهم و لكنهم لم يبلغوا مستوى ثيوكيديدس او بوليبيوس في تحري الدقة، و اخضاع المادة للنقد الصارم و النظر الفاحص، ولم يستطع الوصول الى اعظم المؤرخين اليونان أسلوبا سوى المؤرخين الرومانيين ليفيوس و تاكيتوس.

    المؤرخ تيتوس ليفيوس ويعتبر مؤرخ روما العظيم،  الذي جاء بعد سللوستيوس في فترة الانتقال من الحكم الجمهوري الى الحكم الإمبراطوري، حيث يعتبر من كبار كتاب الحوليات، ان لم نقل اعظمهم حيث تناول تاريخ روما منذ تأسيس المدينة حتى 9 م، وهي مدة طويلة من الزمن، عالجها بتفصيل و إسهاب، متغلبا على  سللوستيوس، في تخليه عن النزعة الأدبية، فهو اديب كبير قبل ان يكون مؤرخا و لا يباريه احد في تصوير الوقائع، و الأشخاص، فجاء أسلوبه فخم رائع، يكشف عن الدراية بالحيل البلاغية و يعتبر تاريخ ليفيوس ملحمة تشيد بأمجاد روما نثرا، وهو لا يهدف الى التحري العلمي او الاستقصاء الدقيق بل الى الإصلاح الأخلاقي، عن طريق العبر المستخلصة من الماضي، وعن طريق ابراز الفضائل القديمة و البطولات الوطنية، ومما يعاب على كتاباته انه يعوزه قدر كبير من ملكة النقد ففي كتبه الاوى يروي بإسهاب كبير من  الاساطير الرومانية القديمة و مهما وجه الى ليفيوس من نقد فإنه المصدر الوحيد عن كثير من الفترات في تاريخ الجمهورية الرومانية.

    أما اخر المؤرخين الرومان الكبار فهو بويليوس كورنيليوس تاكيتوس الذي رسم صورة رائعة عن حياة لشعوب الجرمانية و عاداتها و تقاليدها في كتابه: " جرمانيا "، فقد الف تاكيتوس كتابه زمن الامبراطور تراجان ، وهو أعظم وصف قام به مؤرخ قديم، تناول حياة الجرمان، و الجدير بالذكر ان تاكيتوس لم يزر الجرمان في مناطقهم الاصلية على الحدود الامبراطورية الشمالية، ولكن بوصفه من الطبقة الارستقراطية كان باستطاعته التحدث مع الجند العائدين من الجبهة و الاطلاع بحرية على الوثائق العمومية، وقد وضع كتابه بهدف عقد مقارنة بين البساطة المثالية في المجتمع التي ذكرته بفضائل روما القديمة، ويتمز أسلوبه بالمتانة الى جانب بلاغته و قدرته الفائقة في التصوير، وكانت تغلب عليه مراعاة الدقة في التحري لما يروى من الاحداث ولكن تغلب على كتاباته الدعاية الأخلاقية و الاكتفاء بتعليل الاحدث بالأسباب الداخلية.

    وعلى اية حال لم يكن للمؤرخين الرومان بوجه عام، أصالة المؤرخين اليونان، فقد عالجوا الكتابة التاريخية متأثرين بطريقة المؤرخين اليونان، باتخاذهم قدوة ومثل، ومهما يكن في كتابة المؤرخين الرومان من عيوب فان كتاباتهم التاريخية أصبحت منهجا جديرا بالثقة، واقل تأثرا بالأساطير والتعصب الديني من الكتابات.

     

     

     

     

     

  • الإمتحان التقييمي

  • قائمة المصادر والمراجع