الحصّة الثالثة عشرة والرابعة عشرة : النقد الأسلوبي
Résumé de section
- 
                    
النّقد الأسلوبي
1- مصطلح الأسلوبية:
ثم مشكل المصطلح إذا أن التردد بين عد الأسلوبية منهجاً نقدياً أم أنها أوسع من ذلك بسبب تعدد ميادينها وتداخلها مع حقول أخرى كثيرة كالنقد الأدبي ، وعلم البلاغة، واللسانيات ، وعلم النص ، حتى أن الأسلوبية نفسها غدت أسلوبيات ، وهو المصطلح الذي يؤثره سعد مصلوح حيث جعله مقابلاً للمصطلح الإنجليزي Linguistic Stylistics وقيده بوصف " اللسانية " مؤكداً المنطلق اللساني في شرح العلاقة بين البلاغة العربية وهذا الفرع من فروع الدراسة اللسانية المعاصرة.
والاحتراز الأخير هو وجود نوع من التداخل بين مصطلحي (الأسلوب) و(الأسلوبية) وعلى الرغم من ذلك التوضيح الذي قدّمه الدكتور أحمد درويش حول المصطلحين وبدايتهما التاريخية وتحديده للعلاقة الرأسية والأفقية بين المصطلحين إلا أن الإشكالية تبقى قائمة بين هذا التداخل وبخاصة طول الفترة الزمنية التي قطعها المصطلح الأول "الأسلوب"، في مقابل حداثة المصطلح الثاني "الأسلوبية " .
2- تعريف الأسلوبية:
لعل تقاطع مجموعة المفاهيم والمناهج والنظريات النقدية قد شجعت الأسلوبية بتطوير التحليل الداخلي والتزامني ، وعززت الاهتمام المخصص لجماليات الكتابة ، وأضافت الترابط بين الشكل والمضمون ، ودخلت إلى أفكار البنية كما سعت إلى مقاربة النص مقاربة محايثة ، واعترفت اعترافاً أساسياً بالمقام والشفرة المرجعية ، فهي تقع في موقع وسط بين المناهج الداخلية التي أغلقت نفسها على النص ، واتجاهات ما بعد البنيوية . ولقد قطعت الأسلوبية أشواطاً كثيرة في تحليل الخطاب الأدبي من أسلوبية لسانية ، إلى أسلوبية وصفية إلى أسلوبية تكوينية إلى أسلوبية إحصائية ، إلى أسلوبية بنيوية ، كاسرة بذلك انغلاق البنيوية ، ومشرّعة أبواب التحليل والتأويل . كما قطعت أشواطاً أخرى في تعريفاتها: فقد عرّف الأسلوب بأنه إضافة أو زيادة بمعنى أنه يعني التحسين والتجميل. وعرف بأنه اختيار من إمكانات اللغة المتعددة ، سواء أكان اختياراً واعياً مقصوداً أم اختيارا لا واعيا تتطلبه شرائط الابداع وتجلياته ، وعرف الأسلوب أيضاً بأنه انحراف Deviation عن المعيار أو انزياح عنه .
ويعرّف معجم أكسفورد الكبير الأسلوب بأنه " طريقة التعبير المميزة لكاتب معين ( أو لخطيب أو متحدث ) أو لجماعة أدبية أو حقبة أدبية من حيث الوضوح والفاعلية والجمال وما إلى ذلك " . وبهذا المعنى فإن الأسلوب وجد منذ وجدت الكتابة ، فكل خطاب يتوفر على ملمح من ملامح الأسلوب ، أومحاولة تمييز هذا الخطاب اللغوي من غيره من أساليب الكلام ، يشكل بداية لتأسيس نظرية أسلوبية أو خطوة نحو الدرس الأسلوبي . ومن هنا نرى أن الدرس الأسلوبي ليس جديداً، وإنما هو نشاط مارسته جميع المعارف التى اتخذت من الخطاب ميداناً لها ، وتجلت ملامحه في الدراسات الأدبية والبلاغية والنقدية والشروح الشعرية ، وإن تكن هذه التجارب لم تتمكن من تأسيس الأسلوبية علماً مستقلاً
ويرجع أحمد درويش مصطلح الأسلوب Style إلى القرن الخامس عشر على حين يرجع مصطلح الأسلوبية Stylistique إلى بداية القرن العشرين مستنداً إلى المعاجم التاريخية الفرنسية . ويرى أنه كان يقصد بالأسلوب النظام والقواعد العامة مثل " أسلوب المعيشة " أو " الأسلوب الموسيقي " أو "الأسلوب البلاغي " ... الخ ، أما المصطلح الثاني " الأسلوبية " فقد اقتصر على مقول الدراسات الأدبية واحتد مع جورج مونان إلى الفنون الجميلة عامة
ويعتقد بعض دارسي الأسلوبية أنها تعد تطوّراً للفكر الشكلاني ، وعلى الرغم من أن أهمية الأسلوبية تقتصر على أنها إحدى الأدوات التى يمكن أن يستخدمها النقاد في الحكم على الأعمال الأدبية ، فإن بعض النقاد العرب يعتقدون أن الأسلوبية منهج نقدي جديد يستهدف إلغاء البلاغة القديمة وإحلال بلاغة جديدة مكانها تقوم دعائمها على الجمالية والوظيفية
لقد كان نقد العمل الأدبي والحكم على نوعيته يقومان أساساً على تقديرات وأحكام ذات طبيعة أسلوبية - لغوية . فالتحليل الأدبي كان يتضمن على الدوام ملاحظات حول أصالة الكاتب في استعمال المفردات والجمل والصور وغيرها من العناصر اللغوية والبيانية . وهذا يعني أن دراسة الأسلوب كانت تمثل دائرة أوسع وأشمل من تلك التي تغطيها كلمة " الأسلوبية"
ارتبط مصطلح الأسلوب فترة بمصطلح البلاغة حيث ساعد على تصنيف القواعد المعيارية التى تحملها البلاغة إلى الفكر الأدبي والعالمي ، منذ عهد الحضارة الإغريقية ، وبخاصة كتابات أرسطو Aristotle. ثم ما لبثت أن اكتسبت كلمة " الأسلوب " شهرة التقسيم الثلاثي الذى استقر عليه بلاغيّو العصور الوسطى ، حين ذهبوا إلى وجود ثلاثة ألوان من الأساليب ، هي : البسيط ، والمتوسط ، والسامي ، وهي ألوان يمثلها عندهم ثلاثة نماذج كبرى في إنتاج الشاعر الروماني " فرجيل " vergil
3- نشأة الأسلوبية:
ويُعتقد أن الأسلوبية انطلقت من رحم البلاغة بأصولها الأرسطية القديمة ولهذا نجد من يصرّح بالقول : " في البدء كانت البلاغة " ولاينسى أن يشير إلى أبوية المؤسس الأول أرسطو Aristotle ولعل جورج بوفون ( 1707 - 1788 ) في " مقال في الأسلوب " ، قد أحدث هزّة قوية لبعض مفاهيم الأسلوب ولبعض قواعده المعيارية وخلاصتة أن الأسلوب هو الرجل ، رابطاً قيم الأسلوب الجمالية بخلايا التفكير الحية والمتغيرة من شخص إلى شخص ، وليس بقوالب التزيين الجامدة التي يستعيرها المفكرون عادة من المبدعين دون إدراك حقيقي لقيمها
ويتضح أن كلمة أسلوبية ظهرت خلال القرن التاسع عشر وبدأت تتأصل مصطلحاً في السنوات الأولى من القرن العشرين، حيث تلقت دفعة قوية على أثر ازدهار علم اللغة الحديث على يد " فرديناند دي سوسير " ( 1855 - 1913م ) . وقد انبـرى أحد تلامذة دي سوسير وهو شارل بالي ( 1865-1947م ) ، لدراسة الأسلوب بالطرق العلمية اللغوية فعمل على إرساء قواعد الأسلوب من خلال بنيوية اللغة مستفيداً من طروحات دي سوسير، وعليه يشير بعض مؤرخي الأسلوبية إلى أن بالي هو من أصّل علم الأسلوب عام 1902م وأسس قواعده ، حين نشر كتابه الأول " بحث في علم الأسلوب الفرنسي " ، ثم أتبعه بعدّة دراسات أخرى نظرية وتطبيقية ، ومن هنا نعت بالي بأنه المؤسس الأول للأسلوبية . وقد عرّف الأسلوبية بأنها : " العلم الذي يدرس وقائع التعبير اللغوي من ناحية محتواها العاطفي أي التعبير عن واقع الحساسية الشعورية من خلال اللغة وواقع اللغة عبر هذه الحساسية "
ويتلخص تعريف بالي للأسلوبية بأنها " دراسة العناصر المؤثرة في اللغة ، وتلك العناصر التى تبرز بوصفها عوناً ضرورياً للمعاني الجاهزة ". بيد أن بالي حدّد ميدان الأسلوبية بدراسة اللغة مستبعداً اللغة الأدبية من ميدان عمله الأسلوبي باعتبار الأخيرة ثمرة الجهد الإرادي بقصد جمالي ، مقتصراً على تناول وقائع تعبير لغة خاصة في حالة محدودة من تاريخ هذه اللغة ، فهى أسلوبية للغة وليست للكلام Parole . ولعل هذا التوجّه فجّر معارضة بعض اللغويين الذين قبلوا من حيث المبدأ مفهوم الأسلوبية ، ولكنهم رفضوا إهمال اللغة الأدبية وأولوها مكانة بارزة ومن هؤلاء (ماروزو ) الذى أدرك أزمة الدراسة الأسلوبية وهى تتذبذب بين موضوعية اللسانيات ونسبية الاستقراءات وجفاف المستخلصات ، فطالب بحق الأسلوبية في شرعية الوجود ضمن أفنان الشجرة اللسانية العامة ، تاركاً الباب مفتوحاً أمام دراسة اللغة الأدبية.
وتلقت الأسلوبية دفعة قوية أنعشتها مع تطور علم اللسانيات والأبحاث التى انبثقت عنها . وهدف الأسلوبية ، كما يفهم حديثا ، هو دراسة الأدبية في مكوناتها الكلامية والشكلية . وهذا التعريف يحدّد بشكل منهجي وموضوعي مادتين اثنتين تتناولهما الدراسة الأسلوبية هما: مادة الأدب ، أي النصوص الأدبية حيث يتم النظر إلى نصوص مكتوبة تنتمي طبيعتها الخاصة إلى الوظيفة الشعرية في المعنى التي أصّل لها ياكبسون ونظرللنص الأدبي في هذا الصدد بوصفه خطاباً يتم إنتاجه وتلقيه، أما المادة الأخرى فإنها ترتبط بوسائل البحث المستعملة : إنها تقتضي العمل حصراً على دراسة التحديدات اللغوية للأدبية دراسة منظمة وفي جميع الاتجاهات وهكذا تظهر الأسلوبية على مفترق "علوم اللغـة" و"علوم الأدب"
ويعتقد أن الأسلوبية ولدت من رحم البلاغة ولهذا يتكرر القول: " في البدء كانت البلاغة " ، ودائماً نعود إلى الأب المؤسس أرسطو Aristotle ، وينبغي الوقوف عند ثلاث محطات من البلاغة : أولهـا وأقدمها بلاغـة أرسطـو التى ترتبط بالمحاجـة Argumentation ، والتطبيق الملائم لها هو فن الخطابة - الفصاحة - الذي يهدف إلى الإثبات والاقناع بواسطة الخطاب .
ولعل هذه النزعة البلاغية المعيارية توجهت قواعدها التقنينية نحو الوضوح والتوازن والمعقول . وهذا المعقول ليس إلا شعوراً جمالياً - ثقافياً ، أي أنه ذوق . وهذا الذوق الذي وضع تحت اسم مخـــادع هـــو " العقل " هيمن على كل آيديولوجية عصر الأنوار ، وهيمن حتى ، بفعل الاستمرارية في المدارس الدينية ثم العلمانية ، على النظرية الكامنة في كل تعليم اللغة الفرنسية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويبقى بعد ذلك أن الطابع المميز للبلاغة – قياساً إلى الأسلوبية – هو درجة التجريد والتنظيم التقني ، وهو تجريد ينبني على التجريب والخبرة بالوقائع ، باعتباره نوعاً من التعميم العلمي يختلف عن التعميمات المنطقية القبلية والأحكام القيمية المسبقة .
ولعلم تراكيب الجمل دور في التطور المذهل الذي حققته ثورة اللسانيات الوضعية واللسانيات السوسيرية ومجموع اللسانيات البنيوية في دراسة اللغة أحدثت انقطاعاً عن التقليد البلاغي ، رغم أنها بقيت ، ظاهرياً ، داخل الميدان الذي يُدعى إجمالياً باسم الأسلوبية . ويقوم علم تراكيب الجمل على دراسة أشكال الجملة الخاصة للغة معينة ، هادفاً إلى وضع لائحة بهذه الأشكال تكون على أشد ما يمكن من الكمال ، ومن ثم يهدف في مرحلة ثانية ، إلى تصنيفها كلها وفق مواقف التواصل أو وفق مستويات تتخطى النوع الأدبي، وخاصة ذلك الذي يتمثل في إعادة التركيز الكامل والمعلن على اللغة غير الأدبية، بالنسبة للحالة التى أضحى عليها التقليد البلاغي ، أى الإلحاح على وقائع لغوية واسعة ، غير فنية وغير فردية ، وكذلك طريقة غير تقييمية بتاتا
6- الأسلوبية في النقد العربي الحديث :
مثلما تعدد الاتجاهات الأسلوبية في الغرب، في أن اللغة هي المحدّد الأول والأخير للظاهرة الأسلوبية، فقد تنوعت كذلك أساليب النظر واتجاهات البحث لدى الأسلوبيين العرب، وهذا أمرٌ طبيعي جدّاً لارتباطه بتعدّد منابعهم الثقافية واختلاف تصوراتهم المعرفية والفكرية والجمالية، ولعله من الصعب رسم بانوراما شاملة لتلك الاتجاهات، وربما أمكن الإشارة السريعة إلى أن بعض الأسلوبيين العرب عدَّ الأسلوبية اتجاهاً بذاته يمثل بديلاً للبلاغة العربية ، واعتبرها منهجاً مناسباً للتعامل مع النصوص الأدبية وتقويم جمالية النص وتقدير ملامحه الوظيفية.
ولا تخلو دعوة بعض الأسلوبيين العرب إلى تأصيل واضح ومستوعب للأسلوبيات اللسانية منطلقين من تجديد البلاغة العربية ، مؤكدين متانة الصلة واستحكامها بين البلاغة والأسلوبية ، لاعتقاد بعضهم أن الأخيرة وليدة البلاغة ووريثها الشرعي ، ومدركين في الآن نفسه كونهما فرعين معرفيين ينتظمان في مسارين تاريخيين مختلفين ، وهذا ما عبر عنه المسدى في قوله : " الألسنية امتداد للبلاغة ونفي لها نفس الوقت "، وقد تراوح هذا الجهد التأصيلي لدى عدد من الأسلوبيين العرب من مثل شكري محمد عياد، وحمادي صمودفي " التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوّره" ، ومحمد الهادي الطرابلسي" خصائص الأسلوب في الشوقيات" ، وسعد مصلوح " في البلاغة العربية والأسلوبيات اللسانية آفاق جديدة "، ومحمد عبد المطلب وغيرهم.
ولعل هذه الجهود التأصيلية التي تزامنت معها أو أعقبتها ممارسات تطبيقية أشرنا في حواشي هذه الدراسة إلى أبرز أعلامها ، تشكل المشروع التحديثي الذي سعى الأسلوبيون العرب إلى إرسائه . وعلى الرغم مما وجه للدراسات الأسلوبية العربية من نقود تتمثل في محدودية نتائج بعض دراساتهم واضطراب رؤية بعض دارسيها ، أو افتقارهم إلى المنهج الصارم وعدم التزام روح البحث الرصين ، واتسام بعض دراساتهم بالغموض الشديد والتعقيد المبالغ فيه ، فإن الدارس المنصف لا ينكر قيمة ما أتاحوه للدرس الأسلوبي من التعريف بالأسس المنهجية التي بنيت عليها الأسلوبية ، والإشارة إلى اعتمادها التحليل العلمي الموضوعي ، وتيسيرها الأدوات المنهجية التي غدت ركناً معرفيا مهما للممارسة التطبيقية . ولعل تلك الدراسات التطبيقية لهؤلاء النقاد والأسلوبيين تكون شاهداً على ما أضافوه من جديد للنقد العربي الحديث .
ال