Section outline

  • الحصّة الثالثة عشرة والرابعة عشرة: ســوســــــيولوجـــيــا الــنّـــــص

    1.مفهوم سوسيولوجيا النّص:

    سوسيولوجيا النّص الّذي يتطلّع النقّاد الاجتماعيون المحدثون- وخصوصا بييـر زيما - هو العلم الّذي يهتم بمسألة معرفة كيف تتجسّد القضايا الاجتماعية في المستويات الدّلالية والسّردية للنّص، وليس النّص الأدبي فحسب بل يتجاوز الاهتمام إلى البنى اللّغوية (الخطابية) للنصوص النّظرية والأيديولوجية وغيرها، فسوسيولوجيا النّص بوصفه علم اجتماع نقدي يسعى إلى تحديد علاقة الخطاب بين النظريّة والأيديولوجية، وبين النظريّة والتّخييل، وهو في الوقت نفسه نقد للخطاب الّذي تتعّدى اهتماماته ومشاغله المجال الأدبي، كما أنّه يتجاوز

    وهو من المناهج الّتي تدرس الأدب من الخارج، وعند دراستنا للمنهج الاجتماعي لا تنفصل عن دراسة المنهج التاريخي وذلك لأنّه نشأ لحفظ المنهج التّاريخي، وتقول فيه النّاقدة الفرنسية  (دي ستال: 1766-1817) إنّنا لا نستطيع فهم الأثر الأدبي وتذوّقه تذوّقا حقيقيا في معزل عن المعرفة والظّروف الاجتماعية الّتي أدّت إلى الإبداع. وهذه المقولة كان لها أثرا كبيرا في نشأة المنهج الاجتماعي، حتّى قال النّقاد:"إنّ الأدب تعبير عن المجتمع، وظهرت الحركة الاجتماعية وطوّرتها ونظّمتها الحركة الماركسية كحركة اجتماعية انعكست على الموقف الفكري والأدبي". وهو أحد المناهج السّياقية، وهو يركّز كثيرا على السّياق الخارجي للنص، أو على المضمون الاجتماعي للأثر الأدبي مع إهمال واضح للخصائص الفنية والشّكلية للنّص الأدبي، ومميزاته الأدبية.

    2.  تاريخ سوسيولوجيا النّص وإرهاصاته:

    ومن أوائل المفكرين الغربيين الّذين تبنوا هذا الاتجاه سان سيمون (1760- 1825) وجماعته، الّذي دعوا معه إلى تنظيم المجتمع والقضاء على الأسرة والفردية، وتفاني الفرد في خدمة مجتمعه والتّضحية بكل غال ونفيس في سبيل إسعاد مجتمعه. وتحقيقا لهذه الأهداف النّبيلة، دعوا كذلك إلى توجيه الأدب نحو خدمة المجتمع، ولا يعني هذا أن اتجاه الأدب نحو المجتمع والتّعبير عنه أمر حديث، بل إنّه يرجع إلى عصور وأزمان قديمة؛ وتعود البدايات الأولى للاعتقاد بالعلاقة الوثيقة بين الأدب والواقع إلى نظرية المحاكاة عند أفلاطون وأرسطو، على اختلاف كلّ منهم في تقديره لوظيفة الفنان أو الأديب، غير أنّ الأصل في الفكر الّذي انطلق منه كلّ منهما هو الاعتقاد بتصوير الأدب للواقع حيث "يرى أرسطو بأنّ الشّعر نوع من المحاكاة، وهو يستخدم المصطلح ذاته، الّذي يستخدمه أفلاطون لكنه يمنحه مفهوما جديدا متباينا عن مفهوم أفلاطون الّذي كان يرى أنّ الشّعر محاكاة للمحاكاة، وبالتّالي فهو صورة مزيّفة ومشوّهة عن عالم المثل أو الحقيقة الخالصة..".

    وفي مطلع القرن الفائت ظهر النّقد الاجتماعي مغلّفا برؤية سوسيولوجية تستمد جوهرها الأنطولوجي- بصورة واضحة - من الفلسفة المادية الجدلية الّتي أسّسها كارل ماركس وإنجلز، وطوّرها لينين ورفاقه، والّتي تطوّرت مرتطبة بالتّقدم العلمي وبمسيرة الحركة العالمية الثّورية، داعية إلى تحليل الإنتاج الاجتماعي باعتباره أساس الوجود، برؤية علمية مادية جدلية تاريخية، ومن منظور الجذور الطّبقية باعتبارها النّظرة العامة إلى العالم لأكثر الطّبقات ثورية، وهي الطّبقة العاملة، ومهمتها الخاصة ببناء المجتمع الشّيوعي....

    لتتبلور هذه المنطلقات في منهج نقدي عُرف بأسماء شتى (المنهج الواقعي، المنهج الاجتماعي، المنهج الماركسي،المنهج المادي التّاريخي، المنهج الإيديولوجي، النّقد الجماهيري...) تبعا للاتجاهات والنـّزاعات الّتي تفرّعت عن الفلسفة الأم، وتبعا لخصوصية كلّ ناقد في استثمارها...، وأفرز جملة من المصطلحات الجديدة الّتي لا يزال بعضها يستعمل اليوم (رؤية العالم، الالتزام، الانعكاس، الأدب السّلبي، جدلية الشّكل، الشّكل والمضمون، الفهم والشّرح، الواقع والواقعية...).

    وتعدّ (نظرية الانعكاس) السّفير المفوض للفلسفة المادية في عالم الأدب والنّقد حيث تدرج النّص الأدبي ضمن قائمة البنى الفوقية الّتي تعكسها البنية التحتية للمجتمع، ومن هنا فإنّ (السّوسيو- نقدية) بتعبير سعيد علوش، تستهدف القانون الاجتماعي في النّص، لا قانون النّص، فهذا الأخير ليس سوى تجربة اجتماعية عبر واقع ومتخيل...، هذا وقد ترجمت الفلسفة المادية أدبيا على أيدي نخبة من كبار النقاد أمثال بلينسكي وبلخانوف في مرحلة متقدّمة، ثم جورج لوكاتش (1885-1971) ولوسيان غولدمان (1913-1970) رائد البنيوية التّكوينية في مرحلة لاحقة. تجلى ذلك منذ دعا النّاقد السّوفياتي الشّهير غريغوريفيتش بلينسكي(1811-1848) إلى التّشديد على الرّؤية التّاريخية الاجتماعية إلى الإبداع الفني، من زاوية الجدل الطبقي.

    وإذا كان علم الاجتماع من العلوم الحديثة، وعلم اجتماع الأدب علما جديدا في ميدان علم الاجتماع ما زال في طور النّشأة والتّكوين، فإنّ علم اجتماع النّص لم يكتمل بعد، وهو في تطوّر مستمر، وقد حاول الفرنسي بيير زيما (pierre zima) منذ السّبعينات إلى الآن تحديد مفاهيمه النّظرية وأدواته المنهجية الجديدة، وتطبيقها على نصوص أدبية، كما يحلم علم اجتماع النّص بحسب زيما إلى تطبيق مفاهيمه وأدواته المنهجية على نصوص فلسفية ودينية وتجارية....

    ظلّ علم الاجتماع والأدب بعيدين عن بعضها البعض إلى وقت قريب نسبيا، ومن هذا التّباعد التّعارض بين المدخل الفردي الخاص بعلم النّفس والتّحليل  النّفسي من جانب والمدخل الجماعي لعلم الاجتماع من جانب آخر، وهذه الإشكالية ما زالت بارزة في النّقد الحديث إلى الآن، يحاول علم اجتماع النّص تجاوزها من خلال الجمع بين المدخل الاجتماعي ومدخل التّحليل النّفسي يتّجه بها إلى الوضع الاجتماعي اللّغوي، اللّهجة الجماعية والبنى الدّلالية والسّردية للنص التّخيلي.

    ومع الإقدام على إزالة الحواجز التّقليدية بين علم الاجتماع والأدب جاءت الدّعوة إلى تخصّص جديد يحمل اسم علم اجتماع الأدب كميدان جديد من ميادين الاجتماع، يعدّ أحد الملامح المميّزة للاهتمام بهذا العلم من خلال تزايد اهتمام الباحثين في علم الاجتماع منذ عقد السّتينات. وقد كانت هناك محاولات كثيرة لتحليل الأشكال الأدبية في إطار سياق اجتماعي، ولكن أغلبها كانت تنطلق من معطيات الفلسفات الوضعية والمادية الّتي ترى في الأدب تصوّرا للواقع أو انعكاسا إلاّ أنّ علم اجتماع النّص بحسب بيير زيما يرى أنّه لا يمكن وصف علاقة النّص بالمجتمع، بالاعتماد على هذه الأفكار الناجمة عن المطابقة أو التشابه غير المقنع الّذي يختزل النّصوص بأفكار مفهومية لا يمكن التحقّق منها. إنّ علم اجتماع النّص يركّز على مسألة ما إذا كان من الممكن وصف العلاقة بين النّص الأدبي وسياقه الاجتماعي على المستوى الأمبريقي. ولا يتحقّق وصف كهذا إلاّ إذا ظهر الأدب والمجتمع من منظور لغوي.

    3. السّوسيولوجيا والنّص الأدبي:

     أ .جهود ميخائيل باختين في بناء سوسيولوجيا النّص:

    يعدّ باختين من أبرز مُنظري الأدب في القرن الماضي، والمبني على نظرة ثاقبة لعلاقة الأدب بالمجتمع عبر نافذة اللّغة، ويعود له الفضل في إحداث سوسيولوجيا النّص من خلال فكرته القائلة: "بأنّ غالبية ملفوظات الخطاب لا يمكن أن تدرك إلاّ في سياق حواري".

    اشتغل باختين عبر مؤلّفاته على موضوع السّوسيولوجيا حيث يسعى إلى تحليل الأعمال الأدبية من الدّاخل، أي تحليل المستوى التّركيبي، والكشف عمن خلاله فقط عن العلاقات الاجتماعية، بغية الكشف عن التّماثل الموجود بين ما هو موجود في الواقع، وما هو موجود في البنية اللّسانية المتحقّقة في النّص الرّوائي.

    إنّ الرّواية في نظر باختين خطاب حواري متعدّد الأصوات، وإنّ: "العمل الأدبي والرّوائي بوجه خاص إطار تتفاعل فيه مجموعة من الأصوات المتعدّدة، إذ تتحاور متأثّرة بمختلف القوى الاجتماعية من طبقات ومصالح فئوية وغيرها" . وقد اعتمد باختين في سوسيولوجيا النّص من خلال مقاربته للرواية، وتقسيمها إلى صنفين:

    -       الرّواية المونولوجية (المناجاتية)/أحادية الصّوت.

    -       الرّواية الحوارية (الدّيالوجية)/متعددة الأصوات.

    ب. جهود بيير زيما في سوسيولجيا النّص:

    يعدّ كتاب النّاقد التّشيكوسلوفاكي بييـر زيما (من أجل سوسيولجيا النّص الأدبي) "المجال الّذي طرح فيه أهم تصوراته النّقدية، عن العلاقة بين النّصوص الأدبية الرّوائية، والقيم الفكرية والإيديولوجية الّتي تحملها ويقوم منهجه على نظرة تدعو إلى التآلف بين الأبحاث الشّكلانية، والبنيوية الحديثة، والنّتائج الّتي وصلت إليها سوسيولوجيا الأدب كما قدّمها غولدمان في البنيوية التّكوينية، لأنّ هذا النّوع من الحوار النّظري كان بإمكانه أن يغني سوسيولوجيا النّص الأدبي، ويجعل منها علما للنص قائما بذاته".

    يرى زيما أنّ العلاقة المتبادلة بين الأدب والمجتمع تقوم من خلال النّشاط اللّساني، وأنّ للأدب وظيفة كلامية فيما يخص الحياة الاجتماعية، ويأخذ زيما على الشّكلانيين الرّوس أنّهم لم ينظروا إلى المجتمع أبدا على أنّه مجموعة من اللّغات الاجتماعية المتعدّدة الأصوات، والمتداخلة فيما بينها أو المتناسقة تناسقا شديدا يؤدّي بها إلى التّناحر والتّصارع، وذلك رغم إنجازهم الكثير من الدّراسات ولاسيما في الأدب الرّوسي، ولم يخطر في بالهم على الإطلاق أنّ للإيديولوجيا والنّظريات طابعا ألسنيا يقرّبها من النّص الأدبي، فالأدب إذ يستوعب الإيديولوجيات والنّظريات، ويحاكيها طورا، ويحرفها تارة. فهو يعمد إلى ذلك بوصفها لغات كما فعل جون بول سارتر مع الإيديولوجيات الإنسانوية الّتي راح يعرضها مستهزئا بها في كتاب الغثيان.

    يُعيد زيما صياغة مقولتي الفهم والتّفسير عند "غولدمان" وفق منظور جديد، ويضع بذلك مخططات منهجه، الّذي يُلغي القوالب النّقدية الجاهزة لسوسيولوجيا الأدب ويؤكّد على ضرورة الانطلاق من النّص وبنيته اللّغوية الاجتماعية دون أن ينفي الحمولة الإيديولوجية للرواية، والّتي يتمّ الكشف عنها في نهاية المطاف عند إدراج العمل الرّوائي ضمن البنية الفوقية العامة في المجتمع.