المحاضرة الثّامنة : أبعاد المواطنة
Section outline
-
يتجلى البعد السياسي للمواطنة في مدى إحساس الفرد بانتمائه إلى الوطن كجسم سياسي يتمثل في مؤسسات الدولة والأحزاب والنقابات والجمعيات وأفكار حول الشأن العام والمجال العمومي والأفكار التي تتبلور لدى الفرد حول هذا الجسم ومدى سعي الفرد للتأثير فيه عن طريق الولاء أو المعارضة للنظام أو الخوف منه والابتعاد عنه أو الثورة عليه. ويهتم البعد الثقافي بما يوفره الوطن من إحساس بالانتماء إلى جماعة تمثل الهوية وتتجسد هذه الهوية المشتركة فيما يجمع الفرد مع غيره من الممارسات اليومية من عادات وتتجسد كذلك في الرموز المشتركة لما يمثل الهوية الوطنية أو الهويات الجماعية المتعايشة في ظل الوطن الواحد . كما أنّ هناك أبعاد ثقافية وطنية، ولعل أهمها على الإطلاق الدفع بحجة الخصوصية الثقافية للهروب من تطبيق القواعد العالمية لحقوق الإنسان.
1- البعد السياسي للمواطنة:
المقصود بالدولة هنا ، السلطة السياسية الحاكمة، بكل مكوّناتها وأجهزتها المنبثقة عنها والعلاقة بين المواطن والدولة هي علاقة متبادلة، يحكمها مفهوم الحق والواجب، لأن نظرية (العقد الاجتماعي) التي يقول فيها كثير من علماء الاجتماع والسياسة، تقضي بأن المواطنين ارتضوا الخضوع للسلطة الحاكمة، مقابل قيام هذه السلطة بتأمين حقوق هؤلاء المواطنين، وبذلك تصبح مسألة تأمين هذه الحقوق واجبات على الدولة، ومن هنا أتى مفهوم الحق والواجب في العلاقة بين المواطن والدولة.
2- البعد الجغرافي للمواطنة:
الوطن إذا تعددت أصول مواطنيه العرقية وعقائدهم الدينية وانتماءاتهم الثقافية والسياسية، لا يمكن ضمان وحدته واستقراره إلا على أساس مبدأ المواطنة الذي يرتكز على منظومة قانونية وسياسية واجتماعية وأخلاقية متكاملة. إن مبدأ المواطنة في منظومة الروابط والعلاقات التي تجمع بين أبناء الوطن الواحد وبينهم مؤسسات الدولة، لا يمكن أن يقوم على إلغاء الصفات والانتماءات والمعتقدات وغيرها من خصوصيات بعض الفئات ، وإنّما يقوم على احترامها، وإتاحة فرص المشاركة في إغناء الوطن وتنمية رصيده الثقافي والحضاري. للمواطنة ثلاثة أبعاد جغرافية، واجتماعية وسياسية، تتحدد بعلاقة المواطن بوطنه، وعلاقة المواطن بالمواطنين، وعلاقة المواطن بالدولة. وسنستعرض كل علاقة من هذه العلاقات بشيء من التفصيل.
الوطن ليس قطعة من الأرض، أو مساحة جغرافية فحسب، بل هو مجموعة العواطف والأحاسيس والانفعالات والمشاعر تجاه هذه الأرض ، التي يعيشها المواطن وتمتد فيه في الماضي إلى بداية الكون، وفي المستقبل إلى آخر الزمن، وفي اللحظة الراهنة إلى قرارة النفس وذروة المطلق.
والوطن بهذا المفهوم هو امتزاج التاريخ بالجغرافية، واقتران كل منهما بالآخر، حيث تغدو كل حبة تراب من أرض الوطن حكاية تاريخ تحفظ وتروي أمجاد الأسلاف من الآباء والأجداد وما صنعوا من حضارة، وما تركوا من تراث. ومن هنا ينبغي أن تكون علاقة المواطن بالوطن علاقة ولاء وانتماء واعتزاز، تصل إلى حد التقديس، وهذا ما يسمى بالوطنية.
وتتطلب الوطنية الحفاظ على وحدة التراب الوطني والدفاع عن الوطن والاستشهاد في سبيله، وتقديم مصلحة الوطن على المصلحة الفردية أو الذاتية أو النفعية.
ولا تقتصر الوطنية على ما سبق بل تتطلب كذلك القيام بالفعل الإيجابي، وهو العمل على تحقيق قوة الوطن ومنعته وازدهاره وتقدّمه، بحيث لا يعيش المواطن على الموروث الحضاري لوطنه، بل عليه أن يضيف جديداً إلى هذا الموروث ، ويعلي البناء الذي أرسى أسسه الآباء والأجداد ، لتبقى مسيرة الوطن مستمرة، وشعلته متقدة.
3- البعد الاجتماعي للمواطنة:
إن الوطن بالمفهوم الاجتماعي هو مجموع المواطنين الذين يعيشون على أرضه، أو الذين ينتمون إليه، وهنا ينبغي أن تقوم علاقة المواطن بالمواطن على أساس الانتماء للوطن دون النظر إلى عرقه أو دينه أو تنظيمه السياسي أو طبقته الاجتماعية .. ويرتب ذلك على المواطن مسألتين:
الأولى: أن يشعر ويؤمن أنه عضو في المجتمع الوطني، وأن انتماءه الأساسي والأول هو إلى هذا المجتمع، مقدّماً هذا الانتماء على أي انتماء آخر، عرقيّاً كان أم دينياً أم قبلياً أم سياسياً.. إلخ.
أولابد من الإشارة هنا إلى أننا لا نقصد أن يتخلّى المواطن عن الانتماءات المشار إليها آنفاً، ولكن المقصود هو تكون علاقة المواطن بالمواطنين الآخرين قائمة على هذه الانتماءات، لأن ذلك سيؤدي إلى تفتيت المجتمع، وزعزعة استقراره، وتسود حالة التعصب والعصبيّات المرفوضة بكل المعايير.
الثانية: احترام عقائد وأفكار المواطنين الآخرين، مادامت لا تتعارض مع مصلحة الوطن، ووحدة المجتمع، حتى وإن عقائده وأفكاره، فيغدو الاختلاف ائتلافاً، ويشكّل التنوع والتعدد لوحة متعددة الألوان، لكنّها منسجمة ومتناسقة.