Section outline

  •  

    الاستلزام الحواري في التراث العربي :

    لم يعدم التّراث الفكري العربي الاهتمام بما يُسمي اليوم بظاهرة الاستلزام الحواري،و هو ما عرف عندهم "بالأغراض التي تخرج إليهاالأساليب أو دلالة المفهوم أو المعنى المقام[1]

    و من ضمن أهم الدراسات ما حواه"مفتاح" السّكاكي من تحاليل و محاولة ضبط العلاقة بين المعنى الصّريح والمعنى المقامي المستلزم ، ووصف الآلية )طريقة(الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني بوضع قواعد استلزامية واضحة بالإضافةإلى أن تقعيدالسّكاكي للظّاهرة قد تتسم بشّمولية الوصف و التّحليل ، و ذلك من خلال تناوله لجميع المستويات اللّغوية"نحوا، صرفا، معاني و أصوات"

    انطلق السّكاكي من الثنائية التي ينقسم الكلام بمقتضاهاإلى :خبر و إنشاء , فقسم الشقين   إلى أنواع ، لكل منها شروط مقاميّة تتحكم في إجراءه طبقا لمقتضى الحال لتتفرع تلك الأنواع إلى أغراض يولّدها إجراء الكلام على خلاف ما يقتضيه المقام:[2]

    1-   فإذا ما أجرى الخبر على خلاف ما وضع له) أو ما تقتضيهالحال( خرج عن القصد الأصلي إلى أغراض مختلفة "كالتلويح" و التجهيل ،و غيرها .

    أما بالنسبة للإنشاءالذي اقتصر فيه على دراسة "الطلب" الذيتخرج أنواعه الأصلية إذا ما أجريت .على خلاف الأصل إلى أغراض فرعية يقتضيها مقام التلفظ "كالإنكار"و "الزجر"، "التهديد"، "التوبيخ"

        ولقد حصر السّكاكي معاني الطلب الأصلية في خمسة معانٍ هي: « الاستفهام و النّداء

    و التمني و الأمر والنهي»[3]، ليضع لكل منها شروط )قواعد( تشكل نسقا متكاملا يضبط إجراءها على الأصل .

    و يختصر الرسم الأتي معاني الطلب الأصلية[4]

     الطلب

     

             تصور

     

                                  يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب

     

    ممكن الحصول                                               غير ممكن الحصول

     

    في الذهن                في الخارج                          في الذهن               في الخارج

     

    معاني الطلب الفرعية:

    1- تخرج معاني الطلب الأصلية الخمسة  حين ، يمتنع ـ مقاميا ـ إجراؤها على الأصل إلى معاني أخرى كالإنكار، و التوبيخ و الزجر ، و التهديد...

    2- و يحصل في حالة المطابقة المقامين ،أن يتم الانتقال من معنى إلى معنى داخل معاني الطلب الأصلية نفسها إذ يمكن أن يتولد –مقاميا- عن الاستفهام التمني

    و تتم عملية الانتقال تلك على حسب ما ذهب إليهالسّكاكي على النحو الأتي:[5]

    1- في حالة إجراء معاني الطلب على أصلها يتعذر الانتقال و تحمل الجملة المعنى الذي تدل عليه صيغتها بدون زيادة .

    2- في حالة إجراء معاني الطلب الخمسة غير المطابقة لشروط إجرائها على الأصل يتم الانتقال عبر مرحلتين :[6]

    *المرحلة الأولى:

    تُخرق أحد شروطالمعنى الأصلي في حالة عدم المطابقة المقامية فيمنع إجراؤه على ما وضع له في أصل اللغة .

    *المرحلة الثانية:

    -ينتج عن خرق )مخالفة( شروط المعنى الأصلي و بالتالي امتناعإجرائه معنى أخر "يناسب المقام"

    و يضرب لذلك مثلا الاستفهام و مولّداته ، بحيث يستخلص من نسق شروطإجراء معاني الطلب الأصلية ، أنّ شروط إجراء الاستفهام على ما وضع له في أصل اللغة كامنة فيما هو أتي :[7]

    - "طلب حصول"،"في الذهن"،" لغير حاصل "ممكن الحصول"،"يهم المستفهم" و "يعنيه شأنه" .

    - إذا استوفيت هذه الشّروط كلها في انجاز جملة استفهامية ما ، أُجري الاستفهام على أصله ، وكان " استفهاما حقيقيا "

           أمّا إذا أنجزت الجملة الاستفهامية في مقام غير مطابق فإنّ معناها الأصلي يخرج إلى معنى آخر حسب الآلية السالفة الذكر:[8]

     - خرق شروط الإجراء على الأصل فيمتنع إجراء المعنى الأصلي .

     - تولد معنى أخر يتناسب وسياق التلفظ.

     يورد السّكاكي لوصف ظاهر انتقال الاستفهام إلى معاني أخرى أمثلة كثيرة نذكر منها ماهو آت.

    - المثال الأول:

    - إذا قلت :«هل لي من شفيع؟ في مقام لا يتسع مكان التّصديق بوجود الشفيع امتنع إجراء الاستفهام على أصله وولد بمعونة قرائن الأحوال معنى التّمني»[9]

    - المثال الثاني:

    -  «إذا قلت لمن تراه يؤذي الأب "أتفعل هذا"

    - امتنع توجه الاستفهام إلى فعل الأذى لعلمك بحاله .

    - و توجهإلى ما لا تعلم مما يلابسه من نحو: أستحسن

    - وولد الإنكارو الزجر»[10].

    3- مفهوم المخالفة:

       إذا كانت دلالة مفهوم الموافقة في المسكوت عنه موافقة للمنطوق به ، فان دلالة مفهوم المخالفة في المسكوت عنه مخالفة للمنطوق به في النّفي و الإثبات، فمفهوم المخالفة لدى الأمدي«ما كان مدلول اللفظ في محلّ المسكوت فيه مخالفًا لمدلوله في محلّ النطق»[11].

    و قد سمي عند الأصوليون« بدليل الخطاب ذلك أن دليله من جنس الخطاب دال عليه، فيما سماه آخرون المخصوص بالذكر و هذا المفهوم يتنوع بتنوع  القيود من صفة و تقسيم و غاية و حالو زمان و لقب و حصرًا»[12].

    و ذلك في مثل قوله تعالى:  ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا[13]

    وجوب الصلاة على أموات المسلمين بطريق مفهوم المخالفة,و في ذلك يقول القرافي :

    « و ليس كما زعموا , فإن الوجوب هو من التحريم  الحاصل في المفهوم إنما هو سلب ذلك الحكم المرتب في المنطوق , و عدم التّحريم  أعمّ من ثبوت الوجوب فإذا قال تعالى: "حرمت عليكم الصلاة على المنافقين" , فمفهومه أن غير المنافقين لا تحرم الصلاة عليهم , و إذ لم تحرم جاز أن تباح , فإن النقيض أعمّ من الضد و إنما لعلم الوجوب أو غيره بدليل منفصل فلذلك يتعين أن لا يزاد بالمفهوم على إثبات النقيض »[14] .

    -دلالة الإشارة:

       اعلم أن« دلالة الإشارة هي عبارة عن التزام القول لمعنى تابع للمعنى العباري من غير توسط دليل و لا توقف فائدة القول عليه»[15] فدلالة الإشارة لا تحصل مباشرة من اقتران الدال بالمدلول الذي وضع له ، بل تحصل بانتقال الذّهن " العقل" من مدلول أول إلى مدلول ثاني أو ثالث ، لذلك تختلف العقول في إدراكها و معرفتها ، وهي إذ ذاك دلالة تأويلية «أو أنّها دلالة إضافية تدرك من خلال سياق الخطاب اللّغوي الذي يقصد إليه المتكلم قصدًا، و إنّما مدلول اللفظ في السيّاق استدعى مدلولاً آخر أو عدة مدلولات»[16]

            فتكون دلالة الإشارة إذ ذاك جملة المعاني التي يمكن لنا أن نستقيها من خطاب ما

    و مثال هذه الدّلالة في قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ  [17].

       للآية الكريمة معنى عباري ذو مقصود مزدوج مقصود أصلي و آخر تبعي.

    1-   تجب على الوالد نفقة الوالدة المرضعة في حالة الطلاق.

    2-   ينتسب الولد إلى الوالد.

        لذا يصنّف الاستلزام في دلالة الإشارة على أنّه «استلزام طبيعي باحترام ما تقتضيه كلّ من قواعد الكم و الكيف و قاعدة الطريقة من خلال التّلفظ بخطاب موجز»[18].

     

     

     

     

     

     



    [1]- أحمد المتوكل،  دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي،دار الثقافة ، الدار البيضاء ، ط1/1986ص96 .

    [2]المرجع نفسه ، ص97 .

    [3]السكاكي ، مفتاح العلوم ، ضبط و تعليق نعيم زرزور دار الكتب العالمية بيروت لبنان ط2/1987ص 302

    [4]أحمد المتوكل ،دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي ، ص98

    [5]أحمد المتوكل ،دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، ص98.

    [6]المرجع نفسه ، الصفحة نفسها

    [7]. المرجع نفسه ،ص99 .

    [8]- أحمد المتوكل ، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي ،ص 99

    [9]- السكاكي،  مفتاح العلوم ص147.

    [10]- المرجع نفسه الصفحة نفسها .

    [11]الآمدي ، الأحكام في أصول الأحكام ، تعليق عبد الرزاق عفيف، المكتب الإسلامي، ط2، 1985، ص78

    [12] قطب مصطفى سانو، معجم مصطلحات أصول الفقه، دار الفكر المعاصر بيروت، ط1، 1424، ص428.

     

    [13]سورة التّوبة 84

     

    [14]القرافي ، شرح تنقيح الفصول ، باعتناء مكتب البحوث و الدراسات، دار الفكر ، 1424- 2004 ،  ص51

    [15]-  طه عبد الرحمن  ،اللسان و الميزان، ص 120.

     

    [16]أحمد حساني ، العلامة في التراث اللساني العربي، أطروحة دكتوراه دولة جامعة وهران السينيا 1998-1999ص132.

    [17]سورة  البقرة، الآية  233.

    [18]عبد الهادي بن ظافر الشهري ، استراتيجيات الخطاب، ص443.