نظرية الاستلزام الحواري
Section outline
-
المحاضرة السابعة نظرية الاستلزام الحواري
يعد الاستلزام الحواري واحدا من أهم فروع الدرس التداولي فهو ألصقها بطبيعة البحث فيه و أبعدها عن الالتباس بمجلات الدرس الدلالي ،ترجع نشأة البحث فيه إلى المحاضرات التي ألقاها كرايس- هو من فلاسفة أكسفورد المتخصصين في دراسة اللغة الطبيعية - في جامعة هارفاد عام 1967 فقدم فيها بإيجاز تصوّره لهذا الجانب من الدرس و الأسس المنهجية التي يقوم عليها ، وقد طبعت أجزاء مختصرة من هذه المحاضرات عام 1975 في بحث له يحمل عنوان " المنطق و الحوار" .
كانت نقطة البدء عند كرايس هي أن الناس في حواراتهم قد يقولون ما يقصدون وقد يقصدون أكثر مما يقولون وقد يقصدون عكس ما يقولون فجعل كل همه إيضاح الاختلاف بين ما يقال و ما يقصد ، فما يقال هو ما تعنيه الكلمات و العبارات بقيمتها اللفظية وما يقصد هو ما يريد المتكلم أن يبلغه السامع على نحو غير مباشر اعتمادا على أن السامع قادر أن يصل إلى مراد المتكلم بما يتاح له من أعراف الاستعمال ووسائل الاستدلال ، فأراد أن يقيم معبرا بين ما يحمله القول من معنى صريح فنشأت عنده فكرة الاستلزام[1].وقد أشتق كرايس مصطلحه الجديد من المصدر "implicute" ذاته وتخصيص عملية الاستدلال التي تجري في التداول اللغوي باسم implicature تمييزا لها عن implication المتعارف عليها [2].
لقد ترجم مصطلح implicature ترجمات متباينة ، فمنهم من ترجمه إلى الاستلزام وهو الأغلب الأعم ، ومنهم من ترجمه إلى التّضمين [3] .وثالث ترجمه بمعنى الاقتضاء[4]. ورابع أطلق عليه التلويح الحواري [5]، وقد عرفه اللغويون العرب حق المعرفة واسموه التّعريض و المجاز المركب [6] ، عندما قالوا أن التّعريض هو ما أشير به إلى غير المعنى بدلالة السياق سواء أكان المعنى حقيقة أو مجازا أو كناية و أعطوا أمثلة على كل حالة [7].و يرى محمد يونس عليّ من أنّ بعض أنواع الاستلزام المعروفة عند الغربيين هي ما يصنفه الأصوليون على أنّه التعّريض . أما الشهري فيذهب إلى القول أنّ التّعريض لا يخلو من علاقة بقواعد مبدأ التعاون عند كرايس لاسيما قاعدة العلاقة ، فالتّعريض دليل احترام المرسل لهذا المبدأ و يتضح احترامه من خلال إنتاج الخطاب وفقا لما تتطلبه قاعدة العلاقة
حاولا قرايسإذا إقامة جسرٍ بين ما يقال، و ما يقصد فاقترح مجموعة من القواعد تعد بمثابة الضّوابط التّداولية للحوار، أطلق عليها اسم "مبادئ التّعاون" ذلك أنّ « حسن سير التّواصل، كما يرى جرايس، يتطلب التقيّد (احترام) بمبدأ التّعاون: و هكذا فإن المشاركينَ في عملية التّبادل الكلامي بشكل عامٍ يجمعون على هدف مشترك من الأهداف، أو يتفقون على انجاز مقبول من الجميع»[8].
يتفرّع هذا المبدأ العام إلى أربعة قواعد هي:
*مبدأ الكم quantité:و تخص كمية الإخبار الذي يجب أن تلتزمها المبادرة الكلامية،
و تتفرّع إلى مقولتين
اجعل مشاركتك تفيد القدر المطلوب من الاخبار.
لا تجعل مشاركتك تفيد أكثر ممّا هو مطلوب.
*مبدأ الكيف qualité: و ينص على ما يلي:
لا تقل ما تظن أنه كاذب.
لا تقل ما لا تستطيع البرهنة على صدقه.
*مبدأ الملائمة pertinence: و هي عبارة عن قاعدة واحدة ، لتكن مشاركتك ملائمة.
*مبدأ الطريقة Modalité:و تنص على الوضوح في الكلام و تتفرّع إلى ثلاثة قواعد فرعية:
أ- ابتعد عن اللّبس.
ب- تحرّ الإيجاز.
ت- تحر التّرتيب.[9]
و تحصل ظاهرة الاستلزام الحواري عند خرق إحدى القواعد الأربعة السّابقة.
تهدف هذه القواعد من وجهة نظر غرايس إلى ضبط مسار الحوار فقد أكد أن احترام هذه القواعد الإضافة إل المبدأ العام هو السبيل الكفيل جعلنا نلغ مقاصدنا حيث يفضي كل خروج عنها إلى اختلال العملي التواصليو في هذه الحال على المحاور أن ينقل كلام مخاطبه من معناه الظاهر إلى المعنى الباطن أو الخفي الذي يستلزمه المقام و هو ما تناوله تحت مفهوم الاستلزام الحواري و منه فإن ما طرحه غرايس " يجعلنا بين أمرين إما أن نتتبع القواعد المتفرعة عن مبدأ التعاون و إما أن نخرج عنها فإن اتبعناها حصلت فائدة قريبة أو ما سماه الأصوليون بالمنطوق ، و إلا حصلت فائدة بعيدة أو ما سماه الأصوليون بالمفهوم "[10]
و يقترحغرايس تنميطًا للعبارة اللّغوية يقوم على المقابلات الآتية التي تنقسم على أساسها الحمولة الدّلالية للعبارة إلى معانٍ صريحة و معان ضمنية:
1- المعاني الصريحة: و هي المدلول عليها بصيغة الجملة ذاتها و تشمل ما يلي:
أ- المحتوىالقضوي: و هو مجموع معاني مفردات الجملة مضموم بعضها إلى البعض في علاقة إسناد.
ب- القوةالإنجازيّة الحرفيّة: و هي القوة الدّلالية المُؤَشرُ لها بأدواتٍ تصيغ الجملة بصيغة أسلوب ما، كالاستفهام و الأمر و النهي.
2- المعاني الضمنيّة: هي المعاني التي لا تدل عليها صيغة الجملة بالضرورة و لكن للسّياق دخلٌ في تحديدها و التوجيه إليها و تشمل ما يلي:
أ - معاني عرفيّة: و هي الدلالات أو المعاني التي ترتبط بالجملة ارتباطًا أصيلاً و تلازم الجملة في مقام معين مثل معنى الاقتضاء.
ب- معاني حوارية: و هي التي تتولد طبقًا للمقامات التي تنجز فيها الجملة مثل الدّلالة الاستلزاميّة.[11]
لاحظ جرايس أنّ الاستلزام الحواري لا ينتج عن خرق إحدى قواعد مبدأ التّعاون فحسب ، و لكنّه ينتج أيضا عن الالتزام بها ، ما جعله يميز بين نوعين من الاستلزاماتالتّخاطبية ، وهي الاستلزاماتالتّخاطبية الحوارية المعممة ، و الاستلزاماتالتّخاطبية)الحوارية(المخصصة .
أ- الاستلزام الحواري المعمم:
و هو ما عرف عند ليفنسونبالاستلزام النّموذجي و فيه« يراعي المرسل القواعد بحيث يُستعمل هذا الاستلزام بغض النظر عن سياق التّخاطب الذي تم فيه تبادل الخطاب بين الطرفين...»[12]
فهو لا يتطلب سياقات خاصة و يمكن أن يُدرج تحته ما أطلق عليه الأصوليون مفهوم الموافقة ذلك أنّه «لا يختلف القصد في الاستلزام النّموذجي و لكن هناك زيادة من جنس الخطاب فالمعنى المستلزم لا يقصي معنى الخطاب الدّلالي»[13]
يقول البشير الإبراهيمي في خطابه المعنون ب " دعوة متكررة إلى الاتحاد " المتضمن دعوة الأحزاب السياسية في الجزائر إلى ضرورة التّكتل يدا واحة ضدّ حكومة الاستعمار الفرنسي :" فإذا لم تواجهها أحزابنا باتحاد متين ، و قائمة واحدة ، خسرت القضية مرتين : مرة بتمهيد السبيل لفوز الاستعمار و أذنابه و أنصاره ، و مرة بتوسيع خرق الشقاق و التفرق بين أجزاء الأمة ...و أمامهم الحالة العالمية و ظلماتها ...فإذا لم نعالج أحدثها باتحاد عتيد ، و لم نقف في صفها وجها واحدا و أظلتنا و نحن متفرقون متخاذلون ، أضعنا الفرصة و خسرنا الصفقة ..."[14] .
ينطوي الخطاب على استلزام حواري معمم فحواه ما يلي " فإذا واجهتها أحزابنا باتحاد متين و قائمة واحدة ، ربحت القضية مرتين : مرة بتمهيد السبيل لخسارة الاستعمار ، و أذنابه و أنصاره ، ومرة برأب الصدع بين أجزاء الأمة ...و إنّهم ليعرفون حالة العالم وما يعانيه من ظلم و استبداد ، فإذا عالج أحداثها باتحاد عتيد ، و وقف في وجهها صفا واحدا و أظلتنا و نحن متحدون متناصرون ، كسبنا الفرصة و ربحنا الصفقة " .
إنّ المعنى الحوار المستلزم لا يقصي المعنى الحرفي للخطاب إنّما هو من جنس الدلالة الحرفية ، فهو لا يتطلب سياقات خاصة لتأويله .
ب-الاستلزام الحواري المخصص:
و يقصد به :« الاستلزام الذي ينتج عن خرق القواعد إذ يكون ذلك في سياق خاص يحتاج فيه كل من طرفي الخطاب إلى معلومات إضافية و بهذا يكون أكثر تعقيدا في الاستدلال لمعرفة قصد المرسل»[15] و قد صنّف كلّ من )براون وليفنسون( عشر استراتيجيات لخرق قواعد مبدأ التّعاون ألا و هي:[16]
ينتج عن خرق قاعدة العلاقة ثلاث استراتيجيات هي:
- التلميحات .
- ذكر معلومات تمهيدية .
- إفادة الاقتضاء .
أما الاستراتيجيات التي تنتج عن خرق مبدأ الكم فهي:
- التّهوين .
- المبالغة أو المغالاة.
- تحصيل الحاصل.
و هناك أربع استراتيجيات لخرق قاعدة الكيف و هي:
- التّناقضات .
- التّهكم .
- الاستعارة .
- الأسئلة البلاغية .
و من استراتيجيات خرق المرسل لقاعدة الطريقة هناك:
- الالتباس القصدي أو الغموض .
- عدم الإيجاز أو الإطناب.
أمثلة عن الخرق
و في مايلي تمثيل لبعض طرق خرق مبدأ التّعاون إذ يستطيع المرسل خرق"قاعدة الكم" بما يسمى "تحصيل الحاصل" و ذلك في قول احدهم سائلا متلقيه:
- ما رأيك في فلان؟
فيجيبه قائلا: فلان هو فلان؟
رغم أنّ ظاهر القول لا يبرز شيئا من رأي المرسل إليه في فلان ، إلاّ أنّه و بمقتضى التّداول يحمل مقاصد متعددة ، قد يكون من بينها أنّ المتكلم يعلم عن المسؤول عنه أشياء لا يود الإفصاح عنها ، و كأنّه يجيب عن سؤال المرسل بقوله: أعرف عن فلان ما عرفته عنه إلاّأني أعرفه عنه أشياءً لا أريد الإفصاح عنها.
وقد يخرق المرسل قاعدة الكيف متوسلا الاستعارة ،أو التّهكم ملمحا إلى قصده ،كأن يسأل أحدهم عما قال فلان ، حيث يكون المسؤول عنه في اعتقاد المرسل إليه ممن لا رأي له و لا قيمة لرأيه. فيقول:" قطعت جُهيزة قول كل خطيب"
فهذا تخرق قاعدة الكم:
إذا سئل معلم عن رأيه في أحد طلابه في مادة اللغة الفرنسية التي يدرسها واكتفى بالجواب: "إن التلميذ لا يتهاون في متابعة الدروس وهو يتقن اللغة العربية جيدا".
فهو بذلك يكون قد أخل بقاعدة الكم على اعتبار أنه لا يقدم المعلومات اللازمة، وبما أن الاخلال لا يمكن ارجاعه إلى قصور في معرفة المعلم ،فالمفترض أنه تجنب التصريح بالإفادة المطلوبة خوفا من الاحراج. أما داعي الإحراج في هذا السياق فلا يمكن أن يكون سوى اعتقاده بأن التلميذ فاشل في اللّغة الفرنسية. فلا شكّ انه كان بإمكان المعلم أن يمتنع عن الإجابة، لكن بمجرد أنه فعل ذلك فقد أظهر حسن نيته في التعاون، إذن بالتحديد قصد المعلم أن يبلغ قصدَه المخاطب بشكل غير صريح موظفا طريقة بيانية تُعرف باسم التعريض أو التلويح[17].
ب- خرق قاعدة الكيف:
اي "لا تقل ما تعتقد أنه كاذب". بعد أن علم شخص أن أحد زملائه أفشى بعض أسراره الخاصة إلى أحد أعدائه في فريق العمل، يعلن أمام جمع على علم بذلك: "فلان من الاصدقاء الذين يمكن الوثوق بهم وائتمانهم".
فلا شك أن كذب هذا القول ظاهر لأي مستمع على اعتبار بأن ما صرح به الشخص المذكور، لا يطابق ما يفكر فيه، فإذا افترض المستمع أن المتكلم لم يرفض التعاون في الحديث، بل أراد أن يوصل أمرا ما، فلابد له أن يبحث عن قضية لها علاقة بما قيل. والأكيد أن القضية المقصودة هي في هذا السياق نقيض ما صرح به المتكلم. ومن ثمة التهكم بالشخص المتحدث عنه.[18]
ج- الإخلال بقاعدة الورود والملاءمة:
والتي تفيد أن يناسب المقامَ المقالُ. يسأل(أ): ألا تعتقد أن فلانة عجوز شريرة؟ يجيب(ب): (بنوع من الاضطراب): الطقس جميل اليوم أليس كذلك؟
مبدئيا يمكن تفسير الجواب اعلاه، على أنه انكار لاقتراح (أ) وتلميح له على انه ارتكب زلة لسان. ولكن في سياق آخر، قد يقتضي الجواب ايضا، إثارة انتباه (أ) مثلا إلى وجود أحد أقارب "فلانة" بالقرب منهم[19]ا.
د- الإخلال بقاعدة الجهة أو الكيفية:
التي تنصب بالإساس على التزام الوضوح في الكلام وتجنب الغموض والالتباس القصدي الذي يحصل عادة عندما تحتمل العبارة معنيين أو أكثر، دون أن توجد قرينة تمنع ذلك. أما المعاني المرادة فقد تكون كلها حقيقية على سبيل الاشتراك في اللفظ، أو بعضها حقيقي وبعضها مجازي، أو كلها مجازية.
من الالتباس المبني على الاشتراك، قول أحد العراقيين يهجو رجلا كان على مذهب بن حنبل ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم إلى مذهب الشافعي:
تمذهبت للنعمان بعد بن حنبل وفارقته إذ أعوزتك المآكل
وما اخترت رأي الشافعي تدينا ولكنما تهوى الذي منه حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر إلى مالك فافطن لما لما أنت قائل
فمالك يصلح أن يكون هنا مالك بن أنس صاحب المذهب، ويصلح أن يكون مالكا خازن النّار.
ومن باب الاشتراك في اللفظ هذا السؤال الطريف من مقامات الحريري:
- أيحصل للصائم أن يأكل نهارا؟
عريض بمعنى لم يأت بشيء مفيد و لا قيمة لحديثه و منه لا حاجة لك بمعرفة ما قاله.[20]
[1]ينظر محمود أحمد نحلة آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر ص33-34.
[2] ينظر العياشي أدراويالإستلزام الحواري في التداول اللساني منشورات الاختلاف دار الأمان الرباط ط/2011ص17
[3] جونلاينز اللغة و المعنى و السياق ، ، ترجمة د، عباس صادق الوهاب ، مراجعة د، يوئيل عزيز ، دار الشؤون الثقافية ، ط1،1987 ص229.
[4]ينظر عادل فاخوري الإقتضاء في التداول اللساني ، ، مجلة عالم الفكر ، اكتوبر ، نوفمبر ، ديسمبر ، ع3 ، 1989م ص141.
[5]ينظر هشام عبد الله خليفة ، نظرية الفعل الكلامي بين علم اللغة الحديث و المباحث اللغوية في التراث العربي الإسلامي ، مكتبة لبنان ناشرون ، ط1 ، 2007م : 159.
[6] المرجع نفسه ص 167.
[7]المرجع نفسه ص 184.
[8] - جان سيرفوني ،الملفوظية، ترجمة د.قاسم مقداد منشورات اتحاد الكتاب العرب د ت د ط، ص83.
[9]ينظر جيوفريليتشمبادىءالتداولية . ترجمة عبد القادر قنيني أفريقيا الشرق الدار البيضاء المغرب ط 2013 ص 107.
[10]العياشي أدراويالاسستلزامالحوراي في التداول اللساني ص100
[11]ـمسعود صحراوي، الأفعال المتضمنة في لقول، ص63.
[12]ينظر عبد الهادي بن ظافر الشهري، استراتيجيات الخطاب،مقاربة لغوية تداولية دار الكتاب الجديد المتحدة ط1/2004ص430
[13]المرجع نفسه ، ص431
أحمد طالب الإبراهيمي ، آثار البشير الإبراهيمي جمع و تقديم أحمد طالبالابراهيمي درا الغرب الإسلامي تونس ط1/1997 ، ج 3 ص 307[14]
[15]المرجع نفسه، ص437 .
[16]- المرجع نفسه ، الصفحة نفسها .
[17]العياشي أدراوي ، الاستلزام الحواي في التداول للساني ، ص 114
[18]المرجع نفسه ص 114-115
[19]المرجع نفسه ص 115
[20]المرجع السابق ص 115-116