Section outline

  • لم تقصرالتداولية اهتمامها على مجال الدراسة اللغوية وتحليل الخطاب في مستوى الاستعمال العادي أو التواصلي، بل وسّعت مجال اهتمامها ليشمل تحليل الخطاب الأدبي، وعملت على تطوير مفاهيمها النظرية وأدواتها التحليلية ليتلاءم و هذا "الاستخدام" المخصوص للغة. ّ"فظهرت دراسات تداولية تنظّر للخطاب الأدبي عامة وتعيد طرح قضاياه المعروفة من وجهة نظر مغايرة"[1]، أو تتناول نصوصا أدبية مختلفة بالتحليل والتأويل. ولا يخفى أنّ التداولية باعتبارها منهجا في التحليل الأدبي وجدت معارضة من البنيويين والأسلوبيين والإنشائيين بسبب مخالفتها لهذه المناهج في التعامل مع النص الأدبي. والاعتراض على المنوال التداولي في تحليل الخطاب الأدبي هو اعتراض على ما بين الموضوع والمنهج من تعارض، فمن ناحية يغلب على المنهج التداولي الانصراف إلى تحليل الكلام في بعده التواصلي والإنجازي، ومن ناحية أخرى يغلب على الخطاب الأدبي أنّ قيمته في ذاته لا في وجوه استخدامه. وقد انتهى النظر في هذه المسألة بأحد الباحثين إلى القول "إنّ الرغبة في الوصل بين التحليل التداولي واللغة الأدبية تمثل تحديا وتفضي إلى ما يشبه المفارقة (...) وذلك لأن التداولية تتعلق بتحليل اللغة "العادية" ودراسة الحياة اليومية، أما الأدب فيستعمل خلافا لذلك خطابا تخييليا يحيل على الحياة المتخيلة".[2]

    وقد اتجهت جهود التداوليين لتجاوز هذا التعارض (أو التخفيف من حدّته) اتجاهين في آن واحد:

    1-اتّجاه يسعى إلى تقريب المنهج التداولي من النص الأدبي، وذلك بالتعديل في مفاهيمه وأدواته وتطويعها لتلائم خصوصية الخطاب الأدبي، وبالوقوف على المعطيات اللسانية والبلاغية أو الانطلاق منها في التحليل.

    2- واتجاه يسعى إلى تقريب النص الأدبي من المنهج التداولي، وذلك بتغيير النظرة السائدة إلى الأدب (باعتباره خطابا بلا مرجع ولا سياق مثلا) ونقد المقاربات الأخرى (كالبنيوية والأسلوبية والإنشائية)، وإكساب بعض المصطلحات النقدية والمفاهيم الأدبية المتداولة مدلولا جديدا (الأسلوب، البلاغة، الانزياح، الانسجام) أو إقحام مفاهيم وأبعاد جديدة في فهم النص الأدبي وتأويله كانت مستبعدة (المؤلف والمتلقي والسياق والمرجع والذاتية والمقاصد والتواصل) على نحو يجعل المقاربة التداولية للأدب ممكنة بل ضرورية. وقد توصّلت البحوث التداولية إلى إرساء مفاهيم ومقولات أساسية في مجال تحليل الخطاب الأدبي أبرزها:

    1. الخطاب الأدبي خطاب في سياق:

    كان من أوّل مهام المناهج اللسانية غير البنيوية ولاسيّما التداولية وهي تقتحم مجال التنظير للنصوص الأدبية وتحليلها أن تعمل على تجاوز التحليل البنيوي وذلك بالتأكيد على أنّ كلّ نص هو نص في السياق. وقد وجد التداوليون في السيميائية خلفية نظرية غير النظرية البنيوية، لأنّ السيميائيين أرسوا منهجهم على أساس التمييز بين ثلاثة مستويات أو علاقات للعلامات وهي المستوى النحوي الذي يخصّ علاقات العلامات فيما بينها، والمستوى الدلالي الذي يخصّ علاقة العلامات بالمرجع والمستوى التداولي الذي يخصّ علاقة العلامات بالمستعمل أو المؤوِّل. وانطلاقا من ذلك تجاوزت التداولية التعامل البنيوي مع النص باعتباره نظاما (مستقلا عن السياق أو المرجع) إلى التعامل معه باعتباره خطابا أو عملا لغويا مرتبطا بمقام ومنتَجا في سياق.

     ولئن اختلف التداوليون في تحديد عناصر  المقام المتدخّلة في إنتاج النص الأدبي ودلالاته فإنهم لم يخرجوا عن العناصر التسعة التي حدّدها ديترفوندرلخ (Dieter Wunderlich) باعتبارها العناصر الأساسية المكوّنة لما يسمّيه بـ"المقام التلفّظي النموذجي"، وهي المخاطِب والمخاطَب وزمن التلفّظ ومكانه وخصائص الملفوظ الصوتية والنحوية ودلالية التلفّظ والمسلّمات المسبقة (معارف المتخاطبين وقدراتهما وعلاقتهما الاجتماعية) ومقصد المخاطِب التواصلي والتعامل الذي يساهم التلفّظ في بنائه[3].

    2.  الخطاب الأدبي خطاب ذو مقاصد:

    مثلما ذهب التداوليون إلى أنّ النص الأدبي هو نصّ في سياق انطلاقا من قاعدة "لا نصّ بدون سياق" ذهبوا كذلك إلى أنّ النص الأدبي هو نصّ ذو مقاصد انطلاقا من قاعدة "لا نصّ بدون مقاصد". لاسيما بعد أن انتقلت "المقصدية" من نظرية في الفلسفة الظاهراتية (هوسرل) إلى مقولة أساسية من المقولات التداولية، و"تحوّلت مقاصد التكلّم في الدراسات التداولية الحديثة إلى منطلق أساسي من منطلقات تحديد الخصائص الإنشائية في الخطاب"[4].

    3..  الخطاب الأدبي خطاب تواصلي:

    يتداخل في خطاب المتكلم أكثر من مقصد، لكنّ المقاصد التي اهتمّ بها التداوليون هي المقاصد المتعلقة بالخطاب أو التخاطب في بعده التواصلي، نذكر منها:

    - المقصد اللساني الذي يظهر في التحوّلات الخطابية التي لا تحيل على الحدث في حدّ ذاته بل تحيل على عزم المتكلّم ونيّته السابقة (عزم، نوى، قرّر، أراد، حاول، قصد).

    - المقصد التواصلي الذي يهدف من خلاله المتكلّم إلى ربط ميثاق تواصلي مع القارئ من داخل الخطاب نفسه. وأغلب التداوليين يشترطون في عملية التواصل مع القارئ مقصدية تواصلية مسبقة، فلكي يسهل على القارئ فهم دلالة الخطاب ينبغي عليه أوّلا أن يدرك المقصدية التي تنظمه وتوجّه مغزاه.

    - المقصد التداولي الذي يتمثل في مختلف الشروط الاستراتيجية التي يقصد إليها المتكلم في عملية تخاطبه مع القارئ، والهدف منها مساعدته وتوجيهه التوجيه الصحيح لفهم دلالة النص أو تأويله تأويلا يلائم سياقه الخطابي، ومعرفة هذه المقصدية ضرورية في العملية التداولية.

    - المقصد الحواري الذي يتعلق بالوعي الحواري الذي يجسّده الكاتب في خطابه الروائي لإنشاء حوار ثقافي وللخروج من دائرة الذاتية أو الصوت الواحد للانفتاح على الآخر.

    غير أنّ المفاهيم المقصدية من خلال ما سبق بقيت مقيّدة ومحصورة في المتكلم وعلاقته بالخطاب، ولذلك ظهرت اتجاهات أخرى تنادي بتوسيع مفهوم المقصدية لتشمل المتكلم والمخاطب معا، من ذلك أنّ جيرار جينات (Gérard Jenette) يميّز بين المقصدية المتعلقة بالذات المنتجة للخطاب ويسميها "مقصدا" (intention) والمقصدية المتعلقة بالذات المتلقية له ويسمّيها "اهتماما" (attention)، وهذا يعني أنّ المتلقي "يمارس" أيضا نشاطا مقصديا سواء تجاوب مع مقصدية الباث أو لم يتجاوب معها[5] ،وينشأ عن المقصدية الأولى في العمل الأدبي علاقة فنية (artistique) وعن المقصدية الثانية علاقة جمالية (esthétique). ومن الواضح أنّ البعد التواصلي الذي يتحقّق من خلال مفهوم المقصدية لا يقتصر على الخطاب العادي بل يشمل الخطاب الأدبي، وإذا كان الخطابان يشتركان في المقصد اللساني والمقصد التواصلي والمقصد التداولي، فإنّ الخطاب الأدبي ينفرد بالمقصد الحواري والمقصدية المزدوجة التي ينظّر لها جينات. ولكنّ التسليم بحضور البعد التواصلي في الخطاب الأدبي يقتضي تبيّن طريقته المخصوصة في التواصل مع القارئ (مقارنة بالخطاب العادي). وإذا كان الجميع يسلّم بأنّ التواصل في الأدب غير مباشر فكيف يتواصل الكاتب مع القارئ في النص الأدبي؟

    يتحقّق التواصل الأدبي وفق المنظور التداولي من خلال مفاهيم وآليات استخدمتها التداولية في تحليل النصوص الأدبية، من أبرزها مفهوم التعاون بين الكاتب والقارئ أو "الميثاق الأدبي". ومفهوم التعاون الذي أرساهغرايس باعتباره مبدأً من مبادئ التخاطب يتحقّق من خلال حسن ظنّ المخاطب بالمتكلّم وافتراضه أنّ الخطاب منسجم كيفما كانت طريقة تقديمه. وقد تحوّل هذا المفهوم بعد ذلك من مبدأ ينظّم عملية التخاطب إلى آلية من آليات النص الأدبي يستمدّ منها انسجامه ويحقّق التواصل مع القارئ. وقد اعتبر دومينيك مانغينو[6]هذا التعاون ضربا من "الميثاق الأدبي" الضمني الذي على أساسه يوجّه الكاتب خطابه إلى قارئ ضمني أو مفترض يتقاسم معه معرفة خلفية ومجموعة من المراجع والمعايير والافتراضات المسبقة بالإضافة إلى التقاليد الأدبية والمعلومات التي يوفّرها الكاتب للقارئ في نصه لإنجاح العملية التواصلية. إنّ مفهوم "القارئ المتعاون" يعني أنّ تفكيك النص هو نشاط تعاوني لا يقف على مقاصد الكاتب بل على القرائن التي يوفّرها في النص ليساعد القارئ على فهم النص ويوجّهه إلى مفاتيحه. ومن هذا المنطلق يمكّن النشاط التعاوني القارئَ من استخلاص ما لا يقوله النص صراحة وملء فراغاته على نحو يحدث فيه أثرا محدّدا من خلال ما يسمّيه مانغينوبـ"التعاون التأويلي"، وهو تعاون الكاتب والقارئ على تحقيق التواصل الأدبي: تعاون الكاتب بما يضعه في النص من قرائن ومعلومات وما يبنيه من استراتيجيا خطابية لتوجيه الفهم والتأويل وإحداث أثر تداولي ما، وتعاون القارئ بالمجهد الذي يبذله في الفهم والتأويل. ولكنّ السؤال الذي طرح على التداوليين هو: إذا كان الخطاب الأدبي يؤدّي وظيفة تواصلية، فلمَ يستخدم الضمني (l’implicite) الذي يقتضي من القارئ جهدا تأويليا قد يكون عائقا دون التواصل؟

    4.. الخطاب الأدبي عمل لغوي مخصوص:

    ومن المفاهيم التي أقحمتها التداولية في تحليل الخطاب الأدبي الملفوظ الأدبي باعتباره "عملا لغويا". ولا شكّ في أنّ هذه النظرة إلى النص الأدبي قائمة على مفهومين أساسيين من مفاهيم التداولية وهما "الملفوظ" و"العمل اللغوي". أمّا الملفوظ فيختلف عن الجملة بكونه نتيجة للتلفّظ بجملة يتغيّر معناها التداولي بحسب السياق الذي تستعمل فيه، وتنقل ما يريد المتكلم إبلاغه. وهذا ما يجعل دراسة الملفوظ من مشمولات التداولية، في حين أنّ الجملة هي متتالية من الكلمات لا تتغيّر بتغيّر السياق الذي يستعمل فيه، لأنها محدّدة ببنيتها النحوية وبقيمتها الدلالية باعتبارها نتاجا لمدلولات الكلمات التي تكوّنها، وهذا ما يجعل دراستها من مشمولات اللسانيات. وأمّا مفهوم "العمل اللغوي" (acte de langage) فهو نوع من الملفوظات التي سمّاها أوستين بالملفوظات  الإنجازية (énoncés performatifs) وهي ملفوظات لا تصف أو تمثل حالات الأشياء والأحداث والأشخاص وليس لها مرجع خارج العالم اللغوي في الواقع المعيش فهي تحيل على المعنى التداولي للجملة وتعبّر عن استعمالها من طرف المتكلمين. ومثلما ساهم مفهوم الملفوظ أو التلفّظ في ربط الخطاب بالسياق ساهم مفهوم العمل القولي أو اللغوي في ربط الخطاب بالبعد التواصلي. فهابرماس (Habermas) صنّف الجمل الإنجازية حسب المعنى التداولي الذي تعبّر عنه، ومنها "الأعمال التواصلية" وهي الأعمال اللغوية التي ينجز بها المعنى التداولي للتلفّظ أي تفسّر الملفوظات باعتبارها ملفوظات (قال، تكلم، طلب، عارض). وأوستين (Austin) صنّف الأعمال اللغوية ثلاثة أصناف وهي أفعال الإنجاز وهي متصلة بقيمة الملفوظ نفسه (وعد، توكيد، طلب) وأفعال التأثير بالقول وهي مقاصد محدّدة صريحة أو ضمنية تالية للملفوظ ومتسبَّبة عنه (طمأنة، تخويف، تشجيع) وفعل القول وهو الجانب الصوتي والتركيبي للملفوظ ومعناه في السياق[7].

    ومثلما تحوّلت التداولية في مراحل معيّنة إلى نظرية في السياقات تبحث في سياق الإنتاج والاستقبال، ثم إلى نظرية في الأعمال اللغوية، تطوّرت كذلك من المجال اللغوي إلى المجال الأدبي، وأصبح فهم الخطاب الأدبي انطلاقاً من ارتباطه بالسياق وبعده التواصلي. وقد كان لفان ديجك (Van Dijk) دور في توسّع التداولية لتبنّي نظرية أدبية عامة تشتمل على نظرية للنصوص الأدبية ونظرية للتواصل الأدبي. والهدف من هذا التحوّل هو أن لا تبقى نظرية الأدب منحصرة في وصف مجموعة محتملة من الأشكال بل أن تشتمل على نظرية في "الأعمال اللغوية" الأدبية أيضا، وذلك لأنّ دراسة مقصورة على الأشكال تؤدّي غالبا إلى نظرية قابلة للتطبيق على وقائع غير أدبية (أيضا) أو نظرية لا تنطبق على كل الوقائع الأدبية[8][19]. ووفق هذا الهدف، أصبحت التداولية مدعوّة إلى المساهمة في تعديل النظرة إلى العمل الأدبي ليكون عملا لغويا لا يخرج عن نظرية الأعمال اللغوية التي لا تحصر قيمة القول داخل العالم اللساني بل تنظر إلى بعده العملي وعلاقته بالسياق والاستعمال. وهذا يعني أنّ العمل اللغوي حتى المتّسم بكونه أدبيا هو تأثيري أو لا يكون، فالأدبية أيضا إنجازية وإن كانت إنجازية مطلقة للغة[9]

    5. الخطاب الأدبي خطاب حواري:

    اتّخذت دراسة الخطاب الأدبي باعتباره حوارا بعدين رئيسيين: بعدا تداوليا حجاجيا من خلال مفهوم "التوجيه الحجاجي" وبعدا أدبيا من خلال مفهوم "الحوارية". أما الاتجاه الحجاجي في تحليل الخطاب الأدبي فينطلق أصحابه من القاعدة التي ترى أنّ كلّ خطابٍ حواريٌّ بالضّرورة ليؤكّدوا على أنّ وظيفة التكلم الأساسية هي الحجاج[10]،

    وأما الاتجاه الحواري في تحليل الخطاب الأدبي فينطلق أصحابه من نفس المبدأ الذي انطلق منه أصحاب الاتجاه الأول، وهو أنّ "كل ملفوظ هو بالضرورة حواري"[11][28]، ا لم تتبلور لحواريةمفهوما نظريا وآلية موظفة في تحليل الخطاب عامة إلا مع ديكرووأنسكومبر اللذين أعطيا المفهومَ بعدا حجاجيا وميخائيل باختين الذي أعطاه بعدا أدبيا بالانصراف عن تحليل الخطاب عامة إلى تحليل الخطاب الروائي. وعندما أكد تودوروف في مقدمة كتابه "ميخائيل باختين ومبدأ الحوارية" على أنّ أهم مظهر من مظاهر التلفّظ والأكثر إهمالا هو حواريته، كان يحيل على المنطلق الذي بنى عليه باختين هذا المفهوم وهو أنّ "كلّ خطاب هو خطاب حواري موجّه إلى شخص قادر على فهمه والإجابة عليه إجابة حقيقية أو افتراضية"[29]، وينبّه بالتالي إلى أنّ باختين يقدّم تصوّرا جديدا للأسلوب لا يقول بأنّ الأسلوب هو الرجل نفسه، بل يقول بأنّ الأسلوب هو رجلان على الأقلّ. وبالفعل، فإنّ مفهوم الحوارية الذي تشكل متداخلا مع مفهوم "الأصوات المتعددة" "[30] (polyphonie)، قد تمحّض في البداية لوصف الحوارية في روايات دستويفسكي(Dostoievski) باعتبارها خاصية مميزة للرواية الحديثة عن الرواية الكلاسيكية "المونولوجية". ثم أصبحت فيما بعد خاصية للرواية عامة ثم للكلام بصفة أعم، وعَرف المصطلح بعد ذلك استعمالات متعدّدة، فأصبح في لسانيات التلفّظ يعني خطابا يعبّر عن أصوات متعدّدة. وإذا كان الحوار باعتباره حجاجا كما ينادي به ديكرو متحققا في مستوى علاقة المتكلم بالمخاطب توجيها حجاجيا ماثلا في أبينة اللغة واستراتيجيات الخطاب، فإنّ الحوار باعتباره "أصواتا متعدّدة" كما ينادي به باختين متحقّق في مستوى العلاقة بين النص الحاضر والنصوص الغائبة، أو بين ملفوظ الكاتب وملفوظات غيره. وهذا الحوار لا يعني لديه مجرّد تداخل بين النصوص أو الأصوات بل هو أشكال حضور الآخر في خطاب المتكلم، لا صوتا فحسب بل وعيا وإيديولوجيا أيضا. ومن هذا المنظور يجسم كلّ تلفظ مهما كانت درجة ذاتيته تفاعلا وتحاورا مع تلفّظ الآخر على أساس أنّ اللفظ بطبيعته يحمل بداخله نواة تواصلية بين الأنا والآخر لا لأنّ كلّ نص هو امتصاص لنص آخر أو تحويل له فحسب بل لأنّه من المستحيل على أي فرد من أفراد المجموعة اللغوية أن يجد كلمات محايدة تماما ومجرّدة من أي أثر من آثار الاستعمال، وغير مسكونة بصوت الآخر. إنّ الكلمة تظل ممتلئة، تتدخّل في سياق المتكلم الخاص انطلاقا من سياق آخر، وتقحم مقاصده. إنّ مقاصد المتكلم تجد أنّ الكلمة كانت قد سُكِنت.

     



    [1]- ينظر  Dominique Maingueneau : Pragmatique pour le discours littéraire. Bordas, Paris.1990

    [2]المرجع نفسه

    [3]محمد خطابي: لسانيات النص: مدخل إلى انسجام الخطاب. ص 303

    [4]صالح بن رمضان: الرسائل الأدبية. ص 127

    [5]بوشعيب شداق: مقصدية العمل الأدبي بين التقييد والانفتاح. مجلة علامات، مج 14، ج 54. ديسمبر 2004. ص ص 446-456.

     

    [6] Dominique Maingueneau: Pragmatique pour le discours littéraire. p121

    [7]فرناند هالين: التداولية. ترجمة عز الدين العوف. مجلة الآداب العالمية  عدد 125، سنة 2006.  ص 68

    [8]المرجع نفسه ص 68

    [9]صابر حباشة: الأسلوبية والتداولية. مجلة أفق الالكترونية. www.ofouq.com.  تاريخ الدخول  01 سبتمبر 2004

    [10]أعاد هلاء قراءة مصنّفات الحجاج لتأكيد هذا المبدأ وتطبيقه على الخطاب الأدبي. ومن ذلك أنهم وظّفوا قراءاتهم لـ"مصنّف في الحجاج: البلاغة الجديدة" لبيرلمانوتيتكا في المجال الأدبي، وتوصّلوا إلى أنه "لا يمكن دراسة البُنى الأسلوبية منفصلة عن أهدافها الحجاجية"، وهذا يعني ضرورة النظر إلى الأسلوب في معناه البلاغي الجديد أي الحجاج من خلال طريقة عرض الخطاب عرْضا حجاجيا منظما على نحو معيّن للتأثير في المخاطب وتوجيهه وجهة يريدها المتكلم، ومن هنا يكون مجال اهتمام البلاغة الجديدة استراتيجيات الخطاب التي تهدف إلى إقناع المتقبّل والتأثير في موقفه بواسطة الوسائل اللسانية التي تسخرها اللغة للمتكلم. ولكن على الرغم من الدّور الذي لعبه هذا المصنّف في ردّ الاعتبار إلى الحجاج لا باعتباره بلاغة جديدة فحسب بل باعتباره حوارا، فإنّ مفهوم الحوارية في الحجاج لم يتضح بشكل كاف إلا مع التداولية المدمجة التي أرسى دعائمها كل من أ. ديكرو (O. Ducrot) وج. ك. أنسكومبر (J. C. Anscombre) وهي اتجاه حديث في الحجاج يقوم على دمج الدلالة (المكوّن اللغوي) والتداولية (المكوّن البلاغي) واعتبار الحجاج ماثلا في اللغة نفسها ومحكوما بشروطها وقيودها. ومن هذا المنظور فإنّ "ترابط الأقوال لا يستند إلى قواعد الاستدلال المنطقي وإنما هو ترابط حجاجي لأنه مسجّل في أبنية اللغة بصفته علاقات توجّه القول وجهة دون أخرى وتفرض ربطه بقول دون آخر"[. ومن العوامل التي جعلت كذلك التداولية المدمجة أساسا مساعدا على التحليل التداولي للخطاب الأدبي باعتباره حوارا الوقوفُ على الترابط الحجاجي في مستوى الخطاب الفعلي باعتباره توجيها للمتقبل نحو نتائج معيّنة، والاهتمامُ بالعوامل اللغوية التي تؤثّر في هذا التوجيه. ومن أبرز الأبنية اللغوية التي تضطلع بدور حواري-حجاجي عملُ الاقتضاء (présupposé) باعتباره مبدأ منظما للإطار الحواري-الحجاجي يوفّر للمتخاطبين مراجع مشتركة تيسّر توجيه المخاطب إلى النتائج التي يرمي إليها المتكلم وإدخاله في عالم اعتقاداته، والروابط الحجاجية (connecteurs argumentatifs) التي تلعب دورا مهمّا في تحقيق الترابط الذي يقوم عليه التوجيه الحجاجي باعتباره عملا منظما يتمّ وفق قواعد ومبادئ

    [11]D. Maingueneau : Pragmatique pour le discours littéraire. P 18