الحصّة الخامسة والسّادسة : جماعة أبولو
Section outline
-
جماعة أبولو
1. التعريف والنشأة:
نشأت هذه المدرسة في العقد الرابع من القرن العشرين بعد الخلاف بين جماعة الديوان فيما بينهم، وسميت هذه الجماعة بهذا الاسم نسبة إلى مجلتهم "أبولو" التي ينسب اسمها إلى "أبولون" إله النور والفن والجمال عند اليونان، وهذا يدل على تأثرهم بالثقافة والآداب الغربية تأثيرًا كبيرًا.
وقد كان تأسيسها على يد الطبيب أحمد زكي أبو شادي، وكان خليل مطران أبا روحيا لها، وكان قد انضم لها شعراء من مصر ومن خارجها أمثال إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، ويوسف السّباعي، ومحمد حسن إسماعيل وصالح جودت، وأحمد محرم.
وعلى الرغم من اتجاهها التجديدي إلا أنها جعلت أحمد شوقي أول رئيس لها تقديرًا لشاعريته، وعقد أول اجتماع لها في بيته ، وكان ذلك قبل وفاته بأربعة أيام سنة 1932.
تولى رئاستها بعده الشاعر خليل مطران، و انضم لها صادق الرافعي وأحمد الشايب ، ومما ينبغي ذكره ، أن شوقي أثنى في قصيدة على مدرسة أبولو بقوله :
أبو لُّلو مرحبا بك يا أبولوّ فإنّك من عُكاظ الشّعر ظِلُّ
عكاظُ و أنت للبلغاء سوق على جنباتها رحلوا وحَلّوا
عسى تأتينا أبوللو بمعلقات بروح على القديم بها ندلّ
لعل مواهبا خفِيت وضاعت تذاع على يديك و تستغل
أصدرت مجلة "أبولو" الذي كانت ملتقى الشعراء والنقاد، وكانت تُخطُّ فيها أقلام شعرية، أمثال: العقاد ومحرم والرافعي وزكي مبارك، وإبراهيم ناجي، وعبد الحميد الديب وسيد قطب ومحمود غنيم، ومحمد مهدي الجواهري، وإيليا أبو ماضي.
وعلى الرغم من أنها لم يتجاوز صدورها سنتين إلا أنها كان ذات تأثير واسع على الأدب والنقد، حيث كانت القصائد والدراسات فيها تترى حتى بلغت أربع مائة قصيدة وأربع مائة دراسة نقدية، وأصدرت دواوين مثل ديوان الينبوع وأطياف الربيع وفوق العباب لأحمد زكي أبو شادي وديوان الغمام لإبراهيم ناجي والألحان الضائعة لحسن كامل الصّيرفي.
2 - مواقف النقاد من جمعية أبولو:
كانت جماعة أبولو ترحب بكل ناقد أو شاعر يريد الانضمام إليها دون النظر إلى توجهه أهو من المحافظين أم من المجددّين؟ وقد وجد العقاد في هذا سبيلا إلى نقدها حين شارك في إصدار العدد الأول في مجلتها ، معترضا على التسمّية واستقبال كافة الكتاب والشعراء على اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم الأدبية ، يقول: "مساهمتي في تحرير العدد الأول من مجلة "أبولو" ستكون نقدا لهذه التسمية التي لها مندوحة عنها فيما أعتقد، فقد عرف العرب والكلدانيون من قبلهم ربا للفنون والآداب وأسموه عطارد، وجعلوا له يوما من أيام الأسبوع، وهو يوم الأربعاء، فلو أنّ المجلة سميت باسمه ، لكان ذلك أولى من جهات كثيرة، منها أن أبولو عند اليونان غير مقصور على رعاية الشعر والأدب، بل فيه نصيب لرعاية الماشية والزراعة، ومنها أنّ التسمية الشرقية مألوفة في آدابنا ومنسوبة إلينا، وكذلك أرى أنّ المجلة التي ترصد لنشر الأدب الغربي والشعر الغربي لا ينبغي أن يكون اسمها شاهداً على خلوّ المأثورات العربية من اسم صالح لمثل هذه المجلة، وأرجو أن يكون تغيير هذا الاسم في قدرة حضرات المشاركين في تحريرها، لكن أحمد زكي أبو شادي، تصدى للرد عليه محتجا أن الجمعية لم تنظر إلى اسم "أبولو" كاسم أجنبيّ، بل كاسم عالمي محبوب، وأنه ليس انتقاصا للمأثورات العربية ، وأنّ النقل عن الكلدانيين ليس أفضل من النقل عن الإغريق.
لكن بعد أعوام قليلة انفرط عقد هذه المدرسة برحيل رائدها أحمد زكي أبو شادي إلى المهجر الأمريكي عام 1946 ، بعد أن ضاقت عليه سبل العيش في مصر، وبعد أن ضُيق عليه الخناق من قبل بعض من ينتسبون إلى الأدب .
3- معالم التجديد عند جماعة "أبولو" :
1 - مفهوم الشعر:
من بين الشعراء النقاد في مدرسة أبولو الذي أحمد زكي أبو شادي الذي أعطى مفهوما جديدا للشعر، وذلك حين لخّص حقيقة الشعر في قوله : "فالشعر في أية لغة بأحاسيسه وارتعاشاته وومضاته وخيالاته وبحقائقه الأولية ومثالياته، وإذا قدّرنا ألوان هذا الشعر المجرد أو المرسل أو الحّر أو الرمزي أو السريالي ونحوها، فليس معنى ذلك أننا نبخس الضروب الأخرى من الشعر حقها ، أو ندعو إلى إغفالها، كما يدعو إلى ذلك بعض الأدباء الذين لا يقدرون أن ثروة أية لغة هي مجموع آدابها، وأن الخير في تنوع ضروبها، لا في حصرها، ومذهب الحصر مضاد للحرية، في حين أنّ الحرية هي صديقة الآداب والفنون بل والمعارف عامة، فالإملاء على الشعراء والتحكم فيهم ،هو أولا قتل لمواهبهم ثم قتل للشعر، ثم إفقار للغة وآدابها "
2 -التجديد في شكل القصيدة ومضمونها:
أ -التجديد في البناء الفني:
ويتضمن التجديد في الألفاظ، وابتكار ألفاظ تختلف في دلالاتها عن دلالتها القديمة، وقد أعانهم على ذلك استخدامهم للتعبير الرمزي في معظم الحالات، لذا جاءت ألفاظهم عذبة وقصائدهم مشحونة بمعاني التفاؤل مثل كلمات : الشمس-المطر-الشفق السحري - الليل الأبيض - النور الهادي وغيرها من الألفاظ الرقيقة معنى ومبنى، كما أنهم أدخلوا في بعض قصائدهم ألفاظا أعجمية ، وكان الرائد في ذلك أحمد زكي أبو شادي وتلك الكلمات مثل : صموئيل - زيوش...
ب - التجديد في البناء العروضي :
تمثل هذا التجديد في الشعر الحرّ و يظهر جليا في تنّوع القافية والوزن ،حيث مزجوا بين بحور مختلفة في القصيدة الواحدة ، مع التنويع في الوزن القافية، وقد كتب أحمد زكي أبو شادي قصائد من هذا النوع منها : قصيدة "مناظرة وحنان" و "الشراع"، كما حاول ذلك أبو القاسم الشابي في قصيدة "الصباح الجديد"، وإبراهيم ناجي في قصيدة "عاصفة روح".
وقد أبدعوا حين جددوا في المجال العروضي لما كتبوا في الشعر المرسل ، وهو ما يلتزم فيه الشاعر ببحر واحد، لكن يتحّرر من القافية، وقد كتب في هذا النوع أمد زكي أبو شادي في ديوانه "الشفق الباكيّ"، أما الشعر المنثور وما هو ما لا يتقيد بوزن ولا قافية، وإنما يعتمد على جمال الصورة والألفاظ وجرسها الموسيقي، وتصوير العواطف، وينبغي أن ننبّه هنا على أن التجديد العروضيّ لم يكن مقصودا لذاته، وإنما كان وسيلة لهدف كان يرمي إليه شعراء هذه المدرسة وهو تحرير الشعر من الطابع الغنائي، لكن ينطلق في الوقت نفسه في الظهور ضمن أنواع أخرى لم يشهدها الشعر العربي القديم ، ومن الأمثلة على هذا التجديد أنهم كتبوا قصائدهم في نوع جديد هو الشعر القصصي.
أ -الشعر القصصي:
اقتحم أحمد زكي أبو شادي هذا اللون من الشعر، وقد طوع شعره هذا بالروح العالمية وافتقاره إلى الشاعرية والنظرة الناقدة والفكرة العميقة، ومن أمثلة هذا الشعر عند هذا الشاعر قصيدة "مملكة إبليس".
ب -الشعر التمثيلي:
تعتبر جماعة أبولو من الجماعات النقدية والأدبية الرائدة في محاولة إدخال الشعر التمثيلي في الشعر العربي الحديث، من ذلك "حديث الآلهة" لمحمد سعيد السّحراوي، و"غادة المحيط" لعبد الغني الكتبي، وبعض هذه الأعمال كانت مترجمة مثل ترجمة عامر بحيري لمسرحية "شكسبير "الموسومة بعنوان " ماك باث.
نستطيع القول إن شعراء أبولو جددوا في الألفاظ من خلال مجال الشعر الحرّ، والشعر المرسل وكذلك الشعر المنثور، كما اجتهدوا في إظهار الشعر القصصي والتمثيلي، لكن كل هذه الأعمال لم يُكتب لها النجاح والانتشار، واللون الشعري الوحيد الذي كتب له النجاح هو الشعر الغنائي عند شعراء هذه المدرسة.
3- التجديد في البناء الفني :
التجديد الفني هو التجديد في تنسيق الأفكار والصور الشعرية والأخيلة والعواطف، ومراعاة التناسب بينها وبين الشكل الخارجي، بحيث يخرج العمل الفني متكاملا في الأجزاء، مناسبا للشكل ومن بين الأفكار التي نادوا بها في مجال البناء الفني الوحدة العضوية ، وإن كانت هذه الفكرة ليست من ابتكار جماعة أبولو، لأنه قد سبقت بها جماعة الديوان التي تحدثنا عنها في المحاضرة السابقة، لكن جماعة الديوان لم ينجحوا في تطبيقها بينما جماعة أبولو تمكن شعراؤها من تحقيقها في أشعارهم ، وبهذا استطاعوا أن يبنوا قصائدهم عليها دون فكرة البيت الواحد، و بذلك أعطوا للقصيدة صورة حّية متكاملة .
وإذا تأملت أيها الطالب في قصائد إبراهيم ناجي وأبي القاسم الشابي وعلى محمود طه، ترى فكرة الوحدة العضوية ماثلة بين يديك، ممزوجة في الوقت نفسه بالصورة الفنية والمعاني المفعمة بالخواطر والتأملات في الحياة.
أما مضمون القصائد عندهم فإنه يتجه نحو الذاتية والتعبير عن الوجدان الفردي، وذلك لاعتمادهم على التجربة الذاتية، حيث تعمقوا في تصوير أعماق النفس الإنسانية يرسمون هواجسها، وأحيانا يغلب على قصائدهم الحزن المؤلم، وأحيانا أخرى يصورون الطبيعة ومروجها وأنهارها... وبهذا تفوّقت هذه المدرسة على جماعة الديوان بفضل هذا التنويع في المضامين
4 - الرسالة الشعرية :
والمقصود بها الهدف الذي من أجله ينظمون شعرهم، ويتمثل في أفكارهم الاجتماعية والقومية والإنسانية، لذلك عبروا عن تجاربهم بحرية تامة واهتموا بتأملاتهم في الحياة من منظور أدبي تارة ومن رؤية فلسفية تارة أخرى.
5 - القصيدة الشعرية عند جماعة أبولو :
أعطى هؤلاء الشعراء نظرة تصّورية للقصيدة الشعرية، إذ جعلوا من نظم الشعر وسيلة لتطبيق أفكارهم الأدبية والنقدية، وبذلك تميّزت القصيدة عندهم بخصائص أدبية، يمكن أن نقول إنها من المنظور النقدي معالم نقدية خاصة بمدرستهم، وتلك المعالم ساهمت في إعطاء القصيدة العربية في العصر الحديث صورة من صور التجديد، في ميدان النقد الأدبي الحديث .
ونحن نذكر لك - أيها الطالب - جملة من تلك الخصائص على سبيل الإجمال والتمثيل لا على سبيل التخصيص والحصر :
أ - بناء القصيدة من حيث مضمونها على الوجدان والخيال، بحيث يصير كل من الوجدان والخيال منسجما مع الأفكار، وبهذا صار هذا المنظور للقصيدة فكرة نقدية لا تغادر قصائدهم ، بل صارت عرفاً أدبيا ونقديا كأنما قُدّت أفكاره من حديد.
ب - اعتمدوا على مخاطبة الطبيعة ومسائلة مظاهرها وربطوها بالوجدان، فصار شعرهم أشبه بالشعر الصوفي من حيث رقة الشعور والأحاسيس النفسية، وأدنى من الشعر الفلسفي المتميز بالرؤية الذاتية في تأمل البيئة والحياة.
ج-اتخاذهم من الرّموز المستوحاة من الطبيعة غاية للتعبير عن أهدافهم الإنسانية أو الاجتماعية أو الوطنية، وقد أحسنوا استعمال الرّمز الممزوج بالخيال العميق، في حديثهم عن كثير من القضايا المتنوعة.
د -رفضهم لتقليد الشعراء القدامى لأنهم رأوا في ذلك جمودا وابتعادا عن الحرية الأدبية، فكان كثير منهم قد أعرض عن التقيّد بالقوافي والأوزان الموروثة من لدن القصيدة العربية القديمة، كما أعرضوا عن طريقة القدماء في وصف الطبيعة ، إذ لم يقتصروا على ذكر الملامح الجمالية للطبيعة، بل أحاطوها بإيحاءات مظاهرها وتفسير جوهر وروح الأشياء فيها.
ه - إطلاق العنان لحرية الشاعر في أن يسلك الشاعر كل ضرب يروق له من ضروب الأساليب ، وطرائق التفكير وأنواع الخيال وأصناف العاطفة والشعور، وأن يستمد من الموروث الشعري أو الفلسفي أو الديني ما شاء، سواء أكان ذلك من التراث العربي أم من التراث الأجنبي.
6 - جماعة أبولو ومكانتها في النقد الأدبي الحديث :
سبق وأن قلنا بأن هذه الجماعة اتخذت اسمها من إله الشعر المزعوم "أبولو" عند الإغريق، إذ هو ربّ كل شعر يقال، لا يفرّق في ربوبيته بين شعر وشعر ولا بين مذهب وآخر، لكن هذا التحرّر لم يمنع بعض الشعراء الكلاسيكيين من أمثال أحمد شوقي أو أحمد محرم أو مطران ، أو ممّن بالغ في التأثر بالآداب الغربية كأحمد زكي أبي شادي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه أن يكون منتميا إليها ، فقد جمعت مذاهب وتوجهات شعرية شتى لشعراء ذوي نزعات أدبية مختلفة ، حتى كان فيها من هو ذو توجه كلاسيكي قديم زمن هو ذو تصور رومانسي مجدد، وفي هذا من الاختلاف الأدبي ما لايخفى، وقد تركنا لك أيها الطالب أن تتصور ذلك التباين بين الاتجاهين
لذلك يقف شوقي ضيف موقفا نقديا في حكمه على هذه المدرسة، قائلا : "فهي جماعة تفقد التخطيط الفني منذ أول الأمر، ليست كجماعة الجيل الجديد السابقة - جماعة الديوان - التي حملت مذهبا أدبيا بعينه ضد شعراء مدرسة البعث ، وظلت تدافع عنه آمادا طويلة، وتنتج تحت شعاره دواوين من ذوق معيّن ووجهة معيّنة
لكن إنصافا للأمانة النقدية ، نقول إن هذا الحكم فيه شيء من الإجحاف في حقّ هذه المدرسة ، حيث حملت هذا الحكم النقدي كثيرا من الشّطط، وذلك أنه أراد من هذه المدرسة أن يلتزم شعراؤها بمذهب معيّن من مذاهب الفنّ المعاصر، وقد فات صاحب هذا الحكم أن طبيعة الفنّ والأدب تقتضي الانطلاق التام وخضوع الشاعر لجميع ما يحيط به من تيارات وأفكار معاصرة ، فالأدب لا يعرف الحواجز بين مذاهبه المختلفة، فالشاعر الرومانسي لا يمنع كونه رومانسيا من أن تظهر في شعره بعض سمات الرمزية أو الواقعية، وكذلك الشأن في الشاعر الرمزي أو الواقعي، فالتداخل بين المذاهب عند الشاعر لا يتعارض مع طبيعة الفنّ، بل على العكس من ذلك يعتبر دليلا صادقا على فنيّة الشاعر.
وقد تولى أحمد زكي أبو شادي الدفاع عن هذه المدرسة في مهارة نقدية قائلا : " ألوان الشعر هي أصلا ألوان الشعور ، سواء أكان بسيطا أم مركبا، وكما أن ألوان الشعور لا عداد لها ولا حدود ، فكذلك ألوان الشعر، والشعر المطبوع في لفظه ومعناه وموسيقاه وفيما يخلقه حوله من أخيلة وخواطر ووحدة منسجمة.... إنه كائن فنّي حيّ، والكائن الفني الحيّ لا يشرح بل يقرأ أو يسمع أو يستوعب، فتحسّ النفس أثره، وبقدر هذا الإحساس تكون استجابتها لذلك الشعر ولصاحبه، ومن ثمّ كان تنوّع الأذواق وتنوّع الأحكام، فالشعر كفنّ جميل ليس مسألة علمية مقرّرة ثابتة، لا تتحمل إلا رأيا واحداً في حدود المعرفة الميسورة ، وإنما هو أمواج أثيرية كأمواج التلفزيون، قد يلتقطها الجهاز المستقبل القوي المتلقي كما لا يلتقطها سواه ، ودرجات الالتقاط لا تختلف باختلاف الأجهزة فحسب، بل باختلاف المحيط أيضا، وهكذا نشأت آراء ومذاهب شتى في الشعر تبعا للإحساس به، وعلينا أن نفترض الإخلاص في كل من هذه الآراء والمذاهب ،وأن نقدر أصحابها على تباين آرائهم وأحكامهم ، أما الذي لا عذر له فهو الانتقاص الذي يزجيه حبّ الهدم، وأما الذي لا يقدر فهو التشريح الذي يعبث بالأثر الفني، كأنما هو جيفة تحت المبضع .