الحصّة الأولى والثّانية : نظرية المحاكاة
Résumé de section
-
نظرية المحاكاة
توسع أفلاطون في موضوع المحاكاة، وظل يفسّر حقائق الوجود ومظاهره، وعنده أن الحقيقة، وهي موضوع العلم ، ليست في الظاهرات الخاصة العابرة، ولكن في المثل أو الصور الخالصة لكل لأنواع الوجود ، وهذه المثل لها وجود مستقل عن المحسوسات، وهو الوجود الحقيقي، ولكنا لا ندرك إلا أشكالها الحسية التي في الواقع ليست سوى خيالات لعالم المثل، وعالم الصور الخالصة هو عالم الحق والخير والجمال التي هي مقاييس لما يجرى في منطقة الحس، وجميع ما في عالم الحس محاكاة لتلك الصور.
واللغة بدورها محاكاة لما ندركه من الأشياء التي هي بدورها محاكاة ، فالكلمات محاكاة للأشياء بطريقة تخالف محاكاة الموسيقى والرسم لها ، والحروف التي تتألف منها الكلمات هي أيضاً وسائل محاكاة ، وفي هذا تدل المحاكاة عند أفلاطون على العلاقة الثابتة بين شيء موجود ونموذجه والتشابه بينهما يمكن أن يكون حسناً أو شيئاً أو ظاهراً.
ويجعل أرسطو أهمية كبرى للمحاكاة فهي قوام الشعر، وغريزة في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة ، وهي التي تميزه عن سائر الحيوانات لكونه أكثر استعداداً لها . وبها يستطيع الإنسان أن يكتسب معارفه الأولية ويجد اللذة والشاهد على هذا ما يجري في الواقع . ومن خلال التصنيفات التي حدثت مع أرسطو في تقسيمه الشعر المسرحي إلى نوعين : تراجيديا وكوميديا، فحاول أن يطبق تقسيم الشعر إلى تراجيديا وكوميديا على الشعر العربي ، فيعتمد على ما لاحظه أرسطو من أن الشعراء الأخيار مالوا إلى محاكاة الفضائل، والشعراء الأراذل مالوا إلى محاكاة الرذائل ، وما فهمه من تلخيص ابن سينا من أن التراجيديا محاكاة ، ينحى الى منحى الجد ، والكوميديا محاكاة ، ينحى إلى منحى الهزل والاستخفاف ، فيجعل ذلك أساساً لتقسيم الشعر العربي الغنائي إلى طريق الجد ، وطريق الهزل.
وذهب أفلاطون بعيدا في تاطيره لنظرية المحاكاة، فهو يرى أن لكلِّ شيء محسوس حقيقةً معقولة، والمعقولات هي الأصل في المحسوسات، وإذا كانت المحسوسات تُدرك بالبصر، فالمعقولات ـ أيضاً ـ لها وجود مستقل ويمكن إبصارها بتوجيه النفس نحو إدراكها، وهذا ما يقصده أفلاطون في تعريفه للفلسفة أنها: " رؤية الحق أو البصر بالمثال".
ويمضي أفلاطون في التشبيه إلى نهايته، فالعين ترى المحسوسات التي هي موضوعات للبصر، أما المُثل التي ندركها فهي موضوعات للعقل، وكما يحتاج البصر للضوء كي ينير المحسوسات للمرء، فكذلك الحقائق تحتاج لضوءٍ ينيرها كي يبصرها العقل، وهذا الضوء هو مثال الخير، وكما أن الشمس هي علة النمو في الكائنات وليست هي النمو، كذلك الخير هو علة المعرفة وليس هو المعرفة، ومن أجل ذلك فلن يبلغ الفيلسوف أي معرفة صحيحة عن الحق والجمال بغير أن يكون قد بلغ مثال الخير؛ لأنه علة وجودهما.
وعلى ما سبق فأفلاطون يفسر بالمحاكاة كل حقائق الوجود ومظاهره، وأن الحقيقة في المثل أو الصور الخالصة لكل أنواع الوجود، وهذه المثل لها وجود مستقل عن المحسوسات وهو الوجود الحقيقي، فنحن لا ندرك سوى أشكالها الحسية التي هي في الواقع خيالا ت لعالم المُثل، ويصور لنا ذلك بأسطورة الكهف المشهورة بقصة رمزية، قصة جماعة من الناس عاشت مُكَبَّلَة بالأغلال في كهف تحت الأرض، وتمنعهم أغلالهم من النظر خلفهم لأن وجوههم تقابل جداراً تنعكس عليه صور التماثيل والأشخاص الذين يمرون خارج الكهف، وتنعكس أشباح هذه الأشياء بسبب النار الموجودة خارج الكهف على الجدار الذي تسمرت عيون الجماعة عليه.
فهم لا يعرفون ولا يسمعون إلا أشباح الأشياء المتحركة على الجدار والأصوات التي يعتقدون أنها تبعث منهم، ثم تصور أن هذه الجماعة ولدت وعاشت على هذه الحالة، وهي تعتقد جازمة بأن كل ما تراه أمامها هو الحقيقة التي لا يداخلها شك، والفيلسوف وحده هو الذي يقدر على تخليصهم من الأوهام التي اعتادوها زمناً طويلاً، وهو الذي يجرؤ على كسر أغلالهم وإخراجهم من الكهف المظلم إلى عالم النور والشمس، فالكهف رمز للعالم المحسوس وإدراك الأشباح هو المعرفة الحسية، والخلاص من الأسر يتم بالجدل، والشمس خارج الكهف هي مثال الخير، والفيلسوف هو الذي يرتقي بنفسه وبأقرانه من العالم الزائف إلى العالم الحقيقي.
2- أفلاطون ونظرية المعرفة:
وبناء على نظريته في المثل يبني أفلاطون نظريته في المعرفة إذ وباعتبار أن الوجود الحقيقي هو وجود المثل وأن الوجود المحسوس هو وجود مزيف، تكون المعرفة الحقيقية هي المعرفة التي تدرك المعقولات، وبالتالي فإن الأداة المعرفية الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها للوصول إلى العلم(أي المعرفة اليقينية والموضوعية الثابتة) هي العقل، أما الحواس فلا تصل بنا إلا إلى الوهم والزيف إذ لا تتعلق إلا بالمحسوسات المتغيرة والزائلة والتجربة بدورها لا تمكننا إلا من مجرد الظن، أي المعرفة التي لا ترقى إلى المعرفة الحقيقية، وحده إذن العقل هو الذي يرقى إلى هذه المعرفة ووحده الفيلسوف يستطيع التوصل إلى هذه المعرفة.
وقسم أفلاطون المعرفة إلى مراتب: فأدناها الخيال الحسي الذي تبتدئ فيه خيالات الأشياء وظلالها ومظاهرها، كمظهر الحصان أو السرير، وأرقى من المرتبة السابقة مرتبة الإدراك النوعي للموجودات، كماهية الحصان أو المنضدة، وأسمى منها مرتبة الكلية ومعرفة الصور الثابتة الخالدة. ومما سبق يتبين لنا أن أفلاطون يرى أن هناك عالمين اثنين:
العالم الأول: عالم الحس المشاهد، دائم التغيىر، عسير الإدراك، ليس جديرًا بـأن يسـمَّى موجودًا، ولا يسمَّى إدراكه علمًا، بل هو شبيه بالعلم؛ لأنه ظل وخيال للموجود الحقيقي .
العالم الثاني: عالم المجردات، فيه أصول العالم الحسي وهو مثاله الذي صـيغت عليـه موجوداته كلها؛ ففي عالم المثل يوجد لكل شيء مثال هو في الحقيقة الموجود الكامل لأنه مثال للنوع لا للجزء المتغير الناقص؛ ففي عالم المثل إنسانية الإنسان وحيوانية الحيوان، وخيرية الخير، وشكلية الشكل