الحصّة الخامسة والسّادسة : نظرية الخلق
Résumé de section
-
نظرية الخلق
ظهرت نظرية الخلق أواخر القرن 19 بفرنسا وأإنجلترا، وكانت نتاجا لفلسفة (الفن للفن) التي نادى بها "أندرو سيسيل برادلي، فكانت تمثل ثورة وتجاوزا وبديلا لنظريات الإبداع السائدة التي تبجل الطرح البرجوازي؛ إذ طغت نظريات المحاكاة والإنعكاس والتعبير، وظلت تمارس صورها الطبقية في التفكير الإبداعي، وتوجهه إلى مجاهل الكلاسيكية المقيتة، فسقت في فخ الأزمة الفكرية والروحية، وخاصة في عهد الانحطاط السياسي والاقتصادي والأدبي والفكري، فأصبحت نظرية الخلق فراراً من النفعية بقدر فرارها من العالم الخارجي ومحاكاته، وبقدر تحاشيها المعاني المحددة والمقاصد المتبلورة سلفاً. وقد نقول إن في ذلك نوعاً من تَتْفيه القيمة الجمالية لأنها لا تخدم قضايا إنسانية واجتماعية. فكانت نظرية الخلق كرد فعل على تحول الفن إلى سلعة، فهي في أصولها حركة احتجاج ونقد عنيف لوضع الفن والأدب المتردي.
لذلك نادت بالفن الخالص أو الفن الحقيقي الذي يرفض الارتباط بحليف ملوث فاسد أو أي قيمة مقصودة،أو يوظف في خدمة أهداف نفعية، و أن تكون غايته في حد ذاته،و مقياسه هو مدى قدرته على إثارة الحاسة الجمالية للمتلقي.
1- أعلام نظرية الخلق ومقولاتها الكبرى:
تستند إلى الفلسفة المثالية الذاتية بل المفرطة في الذاتية، و من أعلام هذه النظرية:
إيمانويل كانت E.Kant ( 1724-1800) الذي يرفض الفن إذا ارتبط بأي منفعة أو فائدة أو غاية. فهو يقول: " أن لكل شيء غاية إلا الجمال فأمامه تحس بمتعة تكفينا السؤال عن الغاية و لو وجد عالم ليس فيه سوى الجمال لكان غاية في حد ذاته "، فالعمل الإبداعي مرهون بالصورة الجمالية التي تحقق غايته الكبرى.
وقد اهتم "كانت" بخصائص العمل الفني في ذاته وفي داخله فهو يرى أن كل عمل ذو وحدة جوهرية فنية فيها نفسها تنحصر الغاية منه ،فالعمل الأدبي والفني له بنية ذاتية وهي ما تجعل منه عملا أدبيا وفنيا. ويفصل كانت بين الغاية والوسيلة فالجمال هو الشكل بعد تجريده من أي مضمون أو غاية ،فمثلا نظرة الرسام تختلف عن نظرة التاجر إلى التفاحة ،فالأول يرى جمالها غاية في حد ذاته،و يكفيه الاستمتاع بمنظرها و ما تثيره من أحساس بالجمال،بينما التاجر يراها وسيلة للمنفعة و الكسب،و كذلك الأدب.
*هيغل Hegel (1770-1831) يرى أن مضمون الفن يتمثل في فكرة الجمال المستقلة مهما يكن مظهره الاجتماعي أو العملي.
*تيوفيل جوتييه" يرى بان الفن ليس وسيلة بل غاية في حد ذاته لذا فهو مستقل تماما كما يقول: " لا وجود لشيء جميل إلا إذا كان لا فائدة منه وكل ما هو نافع قبيح."
* بودلير(1821-1867) أول من قال بفكرة الفن للفن و الذي يرى بأن موضوع الشعر هو الشعر نفسه ،و أن الشاعر العظيم هو الذي يكتب لمجرد المتعة فقط .
3- مرتكزات نظرية الخلق: تقوم نظرية الخلق على أسس ومحاور تربط بين الصفة الإبداعية ومدى تحققها، وتظهر فيمايلي:
أ- علاقة الشعر بالحياة: يرى برادلي أن الحياة تملك الحقيقة ولا ترضي الخيال أما الشعر فانه يرضي الخيال ولا يمتلك الحقيقة الكاملة لذاك فالشعر ليس هو الحياة بل هما ظاهرتان متوازيتان لا تلتقيان، وإذا حدث تقاطع بينها فسد الأدب،لأنه سيصبح موجهاً لغاية أخرى من غايات الحياة، ويختل الجانب الجمالي فيه، غير انه يعود فيؤكد أن بين الشعر والحياة اتصال خفي ويضيف بأن التجربة الشعرية غاية في ذاتها وقيمتها هي قيمتها الذاتية. والحكم على الشعر يفرض دخول التجربة وتتبع قوانينها وأن ننسى ما يربطنا بعالم الواقع، والفن لا يجب أن يوضع مقابلا للمنفعة الإنسانية لأن العمل الفني الناضج بحد ذاته منفعة.
ب- علاقة الشعر بالموضوع: فلا قيمة للموضوع، أو المحتوى، المهم هو كيف استطاع هذا الشاعر أن يحول هذا الموضوع الذي اختاره من موضوع خارجي إلى عمل فني، فالموضوع لا يمنح العمل الأدبي أية قيمة ،فالفرق بين الشعراء حين يكتبون في موضوع واحد دليل على أن الخلق الفني يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة الأديب وقدراته الفنية ومدى سيطرته على تجربته وتمكنه من عناصر فنه.
وليس بالضرورة أن يكون اختيار التغني بالوطن والبطولات القومية موضوعا لقصيدة ما ابلغ من اختيار موضوع أخر كالتغني بالأزهار مثلا.
ج- علاقة الشعر بالعواطف و الانفعالات : العمل الفني ليس نتيجة للشعور والمشاعر والعواطف وإنما قيمة العمل الأدبي تكمن في قوة الابتكار والخلق الأدبي التي تتمثل في جعل اللغة قادرة على الإيحاء وامتلاك قوة التأثير.
فهناك قصائد تكتب في موضوع واحد وتجربة واحدة ومناسبة واحدة وتصدر عن عاطفة واحدة لكنها تتفاوت في جودتها فواحدة جيدة وأخرى رديئة... والسبب يرجع إلى قدرة الشاعر على الخلق الفني فالعواطف والتجربة والموضوع والمناسبة لا تؤثر في القيمة الفنية للعمل وهذا يعني أن الأدب ليس تعبيرا عن الانفعال كما تزعم نظرية التعبير فلو كان كذلك لكانت التجربة الانفعالية باطن الفن وجوهره.
د- علاقة اللغة بالخلق الفني: العمل الأدبي كائن خلقه الشاعر من ذاته واللغة مادة الأدب أما معنى الخلق الفني فهو سيطرة الأديب على اللغة مما يضيفه عليها من ذاته وروحه، واللغة وسيلة الأديب للخلق الأدبي فاللغة هي موسيقاه وألوانه وفكره والمادة الخام والذي يحدد قيمة العمل الأدبي هو العلاقة التي تنشأ بين اللغة والتجربة الشعورية والفروق الدقيقة التي نشأت من هذه العلاقة.
1- العمل الأدبي خلق حر : يرى كروتشيه بان الفن حدس خالص أو صور خالصة متجردة من الفلسفة أو التاريخ أو العلم بل ومن الأخلاق واللذة وهي مستقلة عن أي غاية عملية أو نفعية فالفن خلق حر ،حيث يقول: ‹ أن الفكر وسيلة للحياة لكن الحياة تصبح في لحظة ما وسيلة وأداة للفكر نفسه.فما من شاعر يخلق أثره حرا من شروط الزمان والمكان ولكن متى تم خلق القصيدة فقد أضيف إلى الوجود عنصر لم يكن موجودا من قبل ›.يقول كروتشيه: ‹‹ أن الفن هو التكافؤ الكامل بين العاطفة التي يحسها الفنان وبين الصورة التي يعبر بها عن هاته العاطفة ونحن لا نستطيع أن نطلب من الفنان الخلاق إلا شيئا واحدا هو التكافؤ التام بين ما ينتج وما يشعر به
2- المعادل الموضوعي/ الفن الموضوعي: ليس الشعر تعبيرا عن المشاعر والعواطف والانفعالات بل هروب منها وليس تعبيرا عن الذات أو الشخصية بل فرار منها.إن الشعر خلق. بهذه المقولات يقدم اليوت مفاهيم جديدة لما يسميه "الفن الموضوعي" ومن ثم "النقد الموضوعي" و يوضح عملية الإبداع الفني فيقول "ليس على الشاعر أن يبحث عن انفعالات جديدة وإنما عليه أن يستعمل الانفعالات الموجودة بالفعل ليخرج منها إحساسات ليست في الانفعال العادي بالمرة.
ويحاول توماس اليوت (1888-1965) أن يبرهن صحة مقولاته حين يرى أن الشاعر ينفعل بتجربة ما ويتعاطف معها غير انه عليه ألا يعبر عن انفعاله بل عليه أن يتخلص من هذا الانفعال بإيجاد معادل موضوعي له يساويه ويوازيه، ويعين الشاعر في ذلك عقله وتعين الشاعر في تجسيد انفعاله فيما يعادل لغته. أي أن على الأديب ان يحول عواطفه وأفكاره وتجاربه إلى شيء جديد أو مركب جديد أي إلى خلق جديد ويتم خلق المعادل الموضوعي للانفعال بانفصال الأديب عن ذاته فكأن للأديب شخصيتين واحدة تنفعل وأخرى تخلق والأديب لا يبلغ درجة النضج في الخلق الفني إلا إذا ازداد انفصاله عن ذاته المنفعلة .
كيف يستطيع الاديب ان يبعد انفعالاته وينفصل عن ذاته ليخلق المعادل الموضوعي لتلك الانفعالات؟يجيب اليوت بان كل ذلك يتم عن طريق عقل الفنان الذي يقوم بدور الوسيط في المعادلات الكيميائية أي أن العواطف والأفكار والتجارب تتحول بواسطة العقل إلى مركب جديد يختلف تماما عن الأصل بينما يظل العقل هو هو. وحتى يتحقق ذلك أيضا يجب على الشاعر أن ينأى بشخصيته عن عقله أي أن يفصلها ويبعدها عنه حتى يستطيع هذا العقل الخالص أن يتفهم مواد هذا الموقف الفني من عاطفة وإحساس وتجربة وأفكار وان يتمكن من تحويلها إلى خلق جديد يختلف عنها في القصيدة. وبهذا ينجو العمل الأدبي من الذاتية وتتحقق له الموضوعية ولكن ما مهمة الناقد إزاء هذا الأدب الجديد أو الفن الموضوعي ؟
يحاول اليوت أن يضع أسسا جديدا لما يسميه أيضا بالنقد الموضوعي فيرى أن الشعر خلق جديد له قوانينه الخاصة وحقائقه ومقياس نقده ينبغي أن لا يكون من خارجه بل لابد ان يلتزم هذا المقياس تلك القوانين والحقائق وهي لديه قوانين وحقائق لغوية وجمالية خالصة. هذا هو أساس النقد الموضوعي الذي قال به اليوت.
والناقد الموضوعي تبعا لذلك يمتلك أداتين: التحليل والمقارنة
أي تحليل القصيدة من جهة التشكيل اللغوي ببيان الاتساق والهيئات والتراكيب والعلاقات ومن جهة التشكيل الفني بتحليل الدلالات والرموز
والمقارنة تتم ببيان اثر التقاليد الشعرية الموروثة في هذا العمل المنقود وتأثير هذه العملية في تلك التقاليد فاثر الموروث أمر بديهي كذلك فان العمل الشعري المعاصر-إذا كان ناجحا- يضاف إلى تقاليد ذلك الموروث.
تستند إلى الفلسفة المثالية المفرطة في الذاتية فالأديب خالق لكن لا دور له بعد اكتمال النص. وكذا الأدب حدس أي معرفة مباشرة،و هو تكنيك لا علاقة له بالخارج.
المتلقي هو الذي يتوجه نحو الأدب،لأن الأدب تجسيد للجمال و التناغم الذي يفتقده المتلقي في عالمه المعيش.