Résumé de section

  • النّقد الإحيائي:

    1-    دوافع الأدب الإحيائي:

    كل أدب يشهد تجددا أو ظهورا بعد أن مسته سنن الركود والجمود إلا وتتحكم في ذلك التجدد عوامل ، ساعدت على انبعاثه بعد موات إبداع الأدباء في ظل التقليد ، وساهمت في إحيائه بعد تشبث الشعراء بسنن الشعر المتوارثة عن أواخر العصر العباسي، تلك السنن المرتبطة بأغراض محدودة وأساليب مسجوعة، وإذا أتينا إلى تلك الدوافع نجدها كما يلي: 

    أ‌-      الوعي القومي العربي:

    في أواخر القرن التاسع عشر أخذت مصر تتيقظ إلى شخصيتها ، وظهرت هذه الشخصية في حياتها السياسية، وتسلك طريقها إلى انتزاع قوميتها من بقايا حكم الأتراك والعناصر الأجنبية الأوروبية، وحدث ذلك عندما اندلعت الثورة العرابية سنة 1881، بزعامة أحمد عرابي ،ضد الخديوي توفيق ، ومن ثم كانت هذه الثورة الشرارة الأولى التي غيّرت المفاهيم الاجتماعية،إذ ولّدت الشعور القومي العربي عند المصريين، وهذا التغيير لحقه تغيير في الفكر والأدب، بعد أن ركد الأدب العربي خمسة قرون مظلمة ، تراجع عن مستواه الذي يستحقه بمراحل بعيدة حتى كاد يلفظ أنفاسه ، لولا بعض الأعلام   صبروا على الضغط العثماني ، فظن المفكرون أن إعادة الحياة إلى جسم الأدب غدت من المستحيلات ، ولكن رياح الثقافة الغربية هبت على المشرق ، فأحيت مواته، وأعادت إلى جذوره الحياة ، وثبتت فروعه بدعائم راسخة.

     فكان لزاما على الأدب خاصة أن يساير الحياة الجديدة، فظهر لذلك أثر الثورة العرابية في شعر الشعراء ونثر الكتاب والخطباء، فظهر لفيف من الأدباء في مقدمتهم محمود سامي البارودي ، وحسين المرصفي، وإبراهيم المويلحي وإبراهيم البازجي وجرجر زيدان،وأحمد فارس الشدباق، وعبد الله النديم، وقاسم أمين ، وغيرهم كثير.

    ب – الثقافة الأوروبية العلمية:

    قامت حركة ترجمة واسعة لكل شيء يتعلق بالثقافة الغربية، حيث ترجمت الكتب العلمية، واشتغل المجتمع بتحصيل العلوم والمعارف على اختلاف أنواعها ، وذلك بعد "أن لمس حاكم مصر محمد علي ثقافة الفرنسيين الذين دخلوا مصر ، رغب في الاستفادة من علوم الغرب ، فأرسل ثلاثة بعثات علمية في أزمنة متفاوتة ، كانوا فيما بعد نواة  للنهضة العلمية والأدبية ، فقد نقلوا الى اللغة العربية عشرات الكتب الجليلة في شتى العلوم ، فأحدث في ذلك في اللغة العربية انقلابا عظيما ، واكتسبت من سعة الأغراض والنعاني والألفاظ العلمية والأساليب الأجنبية وطرق البرهنة والاستنباط وترتيب الفكر ثروة طائلة "

    ج - ترجمة الأعمال الأدبية:

                   اتسع نطاق ترجمة الكتب الأدبية لا سيما ذلك الجنس الأدبي المسمّى بالمسرحية، فترجمت مسرحيات الأدب الفرنسي والأدب الانجليزي، فقد ترجم محمد عثمان جلال مسرحيات الأدب موليير (Molière) وخرافات لافونتين (La Fontaine) كما قام الشيخ نجيب الحداد بترجمة مسرحيات المسرح الإنجليزي شكسبير (She  Ksper).

    د – التراث الثقافي الديني:

    ومن هذه العوامل أيضا، ذلك الشعاع الثقافي والمعرفي للجامع الأزهر الذي كان مصدر إشعاع للعلوم اللغوية والعلوم الشرعية، حيث ظل يقف ندًّا للتراث والفكر الأوروبي المقبل على البلاد العربية، بل كان يمثل موقف المتحدّي أو المنافس.

    ه – الصحافة:

    ويظهر  هذا العامل في الصحافة الوطنية المصرية آنذاك، وقد كان هدفها الأساس هو مقاومة الاستعمار الانجليزي وغيره من الاستعمار الأوروبي  - المنتشر في معظم البلاد العربية -  بالقلم وفضح أعماله ،لاسيما بعد أن صارت مصر  تحت قبضة الإنجليز وغيرها من بلدان الوطن العربي تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي كما هو الحال في  بلاد المغرب والشام، وكان  من أهم تلك الصحف التي كانت  لسان حال الشعب العربي في مصر وغيرها، جريدة " المؤيّد" التي صدع بها الشيخ عليّ يوسف على مسرح الأحداث الوطنية ،وذلك  بعد أن فشلت الثورة العرابية ووقعت مصر تحت السيطرة الكاملة للإنجليز سنة 1882م، وقد اقتفى آثاره الزعيم الوطني مصطفى كامل حين أعلن إصدار جريدة أخرى ،حملت اسم "اللواء" وكان ذلك سنة 1900م.

    و -هجرة أدباء سوريا ورجالات الصحافة إلى مصر: 

    وقد كان لهؤلاء الرواد حّظ وافر من الاطلاع على الآداب الأوروبية أكثر من غيرهم من المصريين، لا سيما تفوقهم في اللسانيين الفرنسي والإنجليزي، فنقلوا الأفكار والأغراض الشعرية وترجموا بعض الأنواع الأدبية ، وبهذا أكملوا ذلك النقص وأمدّوا أدباء بلاد وادي النّيل بالكتب الأدبية المترجمة عن اللغات الأجنبية، وأدى ذلك إلى افتتاح الجامعات والكليات العلمية والأدبية ، محاولة الاستفادة من أدبائها وعلمائها بادئ الأمر ، ثم اعتمدت على متخرجيها العائدين من شتى أطراف المعمورة ، فاستقبل الطلاب المدارس الغربية استقبالا عاديا ، بعد أن كان مجرد التفكير بالاتصال بالغرب أمرا مرفوضا أو صعبا "

    2 - نتائج العوامل السابقة:

    قد كان لهذه العوامل السالفة أثر بالغ في تنشيط الحركة الأدبية، فظهر في خضم هذه اليقظة الفكرية شعراء كانت لهم الريادة الشعرية، وكان لهم ميل إلى أن يعيدوا للشعر جماله الأسلوبي القديم ولغته ذات البيان العالي التي تجعله يضاهي أساليب فحول شعراء عصور العربية المزدهرة التي كانت على أيام  دولة بني أمية، ودولة بني العباس ، لذلك كان حقا على الشعر أن يتطور وكان لزامًا على الشعراء أن يقوموا ببعث الشعر من جديد وإحيائه كما تحيا الأرض الأموات.

    ولكن من هو الشاعر الذي اتفق مؤرخو الأدب والنقد الحديث على أنه باعث الشعر في العصر الحديث بلا منازع؟ إنه البارودي.

    البارودي شاعر ينحدر من أصل شركسي، لكن البيئة العربية صبغته صبغة عربية خالصة، وقد ساهم في نبوغه عوامل منها، أنه قرأ دواوين الشعراء قراءة درس وحفظ ، تلك الدواوين التي كانت تطبع في مطبعة بولاق آنذاك، إضافة إلى العوامل الوراثية التي يتميز بها العنصر الشركسي كقوة العزيمة ومهارة الفروسية، ولذلك انخرط في الجيش وكان أحد القادة الذين قادوا الثورة العرابية. وقد ذاق نتائج فشلها حيث نفي إلى جزيرة" سرنديب"في جنوب شبه القارة الهندية.

    3 - شعر البارودي في ميزان النّقد:

    لقد صقلت شاعرية البارودي الأحداث النضالية التي شارك فيها، فكان الطابع الغالب على شعره هو الحماسة الممزوجة بالحكمة، فاستحق أن يكون الشاعر الحماسي الأول في عصره، ومن ثم أحيا أساليب فحول الشعراء العربي أمثال أبي فراس الحمداني، والمتنبي، فقد عارض هذين الشاعرين خاصة كما عارض العديد من الشعراء الآخرين عامّة.

    وعلى الرغم من أنه كان محاكيا لهم  و متبعا لهم في الأغراض والأساليب، إلّا  أنّ ذلك التقليد لم ينقص من مكانته الشعرية، وذلك أنه كان يصب معاني أولئك الشعراء في نفسه الشاعرية، وبعد أن يستوعب ذلك تصدر عنه تلك المعاني في صورة شعرية جمالية مشحونة بمعاني البطولة والشجاعة، بحيث يجعلها تناسب أحداث عصره و تنسجم مع السياقات الاجتماعية و السياسية التي ينظم في جوها قصائده، وبهذا فإن معارضته لسلفه من الشعراء القدامى لم تكن تقليدًا صرفا بل كانت حافزًا على أن يضفي على شعره شيئا من شخصيته الشاعرة.

    بل ربّما تفوق على سائر الشعراء في تنزيل اللغة وفق السياقات المناسبة لعصره، وكأن اللغة طوعّت له من حيث لا يدري، بدليل أنك أيها الطالب – لو تذوقت قصيدة من قصائده تذوقا  لغويا أدبيا ، لوجدت غرض الحماسة يمتزج مع موضوع القصيدة الرئيس، ذلك أن السمة الحماسية لا تتعلق بوصف الحرب وما في معناها فقط ،بل يجدها الناقد تلوح في كل غرض  شعري قال فيه البارودي  وبز فيه على أقرانه.

    فربّ قصيدة قالها في الرثاء أو الغزل، تجد الحماسة تتخلل أبياتها بين الفينة والأخرى، ومن شعره الذي يمثل هذا التمازج بين الحماسة والرثاء قوله في رثاء أبيه:

    لا فارس اليوم يحمي سرحة الوادي        

    طاح الردى بشهاب الحرب والنّادي

    مات  الذي  ترهب   الأقران صولته         

    ويشقى   ببأسه الضرغامة  العادي

    مضى و خلفني   في سنّ سابعة            

    لا يرهب الخصم إبراقي وإٍرعادي

    فإن أكن عشت فردًا بين آصرتي         

    فها   أنا اليوم  فرد  بين أندادي

    وبمجرد انتهائك أيها الطالب من قراءة هذه الأبيات، تلمس الحماسة وروح الشجاعة على الرغم من أنّ الشاعر في مقام الرثاء الذي يفرض عليه عبارات وألفاظ الشجن واللّوعة، ونحن نسوق لك مقطوعة شعرية للتدليل على أنّ البارودي يجاري القدماء في جودة الصياغة اللغوية وجمالية الأسلوب، نذكر منها ما يلي :

    سواي     يتحنّان الأغاريد يطرب            

    و غيري باللّذات يلهو و يعجب

    وما   أنا ممن تأسر    الخمر   لبّه                

    ويملك   سمعيه اليراع المثقب

    ولكن   أخوهم  إذا   ما  ترجحت              

    به سورة نحو العلا راح يدأب

    نفى النوم عن عينيه   نفس أبيّة             

    لها بين  أطراف الأسنة مطلب

    و  من تكن العلياء  همّة     نفسه                

    فكل  الذي يلقاه   فيها  محبّب

    في هذه الأبيات نجد البارودي يمارس غرض الفخر بروح المتنبي، من حيث عمق الفكرة وجودة التركيب وحسن اختيار اللفظ المعبّر عن المعنى المقصود، كما أنه يشوبها في الوقت نفسه بشيء من غرض الحكمة المبثوث في القصيدة كلها ، وتلك خاصيّة امتاز بها البارودي لم يشاركه فيها أيّ شاعر آخر.

    ولم يكن البارودي هو الشاعر الوحيد الذي رفع لواء الشعر خلال فترة الإحياء، على الرغم من أنه كان صاحب الريادة في ذلك، للأسباب التي ذكرناها، فقد شاركه في هذا الفضل،مجموعة من الشعراء في جزالة تراكيبهم وجودة تصويرهم للمعاني إلا أنهم لم يبلغوا مبلغه ولم يدركوا مرتبته، ومنهم عبد الله فكري والشيخ علي البشر، ونجيب الحدّاد، ومن نافلة القول التي ينبغي ذكره ، أن هؤلاء على مقدرتهم الأدبية إلّا أنهم لم يكونوا مع البارودي في الثورة العرابية وفي مواجهة الإنجليز ،فقد خذلوه ولم يستطيعوا ما استطاعه من مناهضة الخديوي والإنجليز.

    بعد هذا التفصيل في حركة البعث الأدبي، فهل من نهضة نقدية أحيت النقد كما أحيت الشعر؟

    فكما ظهر البارودي باعثا  للشعر بلا منازع ، ظهر الشيخ حسين المرصفي ممثلا لحركة الإحياء والبعث النقدي، فمن هو المرصفي؟

    4 - النقد عند حسين المرصفي :   

    -         أولا : التعريف بالشيخ الناقد حسين المرصفي:

    هو حسين أحمد المرصفي، المتوفى 1889م، عالم أزهري نشأ في بلدة مُرصُفَا ، تولى التدريس فيه وفي دار العلوم غداة إنشائها، له كتاب "الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية"، وهو عبارة عن محاضرات ألقاها على طلبته في دار العلوم، تناول أكثر من اثني عشر علما، منها اللغة والنحو والصرف والبلاغة والعروض والقوافي وصناعة الترسل وقرض الشعر والنقد وكتاب دليل المسترشد في فن الإنشاء.كان من طلبته شعراء وكتاب بارزون منهم البارودي، وأحمد شوقي، وأحمد حسن الزيات، وطه حسين وغيرهم

    ثانيا -أفكار الشيخ حسن المرصفي:

    أ – رأيه في حقيقة الشعر:

    وقف  موقفا معارضا من التعريف المشهور لابن قدامة الذي يرى أن الشعر كلام موزون مقفى، بل يراه يتجاوز القوافي والأوزان ، لأنّ تقييده بهذه القيود يجعله مرتبطا بالدلالة العروضية فقط، ومن ثم يقول عن الشعر بأنه هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستغلا كل جزء منها في غرضه ومقصده، وهو الجاري على أساليب العرب المخصوصة.

    ب –الشعر ملكة:

    وهو طبع وجبلة، وهذه الصفات تنشأ من كثرة الحفظ والممارسة، والحفظ يقوي الملكة، فيصير الشاعر ينسج على منوالها ، لذلك كان يرى أن من لم يحفظ القصائد الطوال  كان شعره قاصرًا رديئًا.

    ويستدل على ما ذهب إليه ،بنموذج  الشاعر البارودي الذي صار شاعرًا بالحفظ والدربة والاستعداد الفطري، فهو لم يقرأ كتابا في صناعة الشعر، بل أكثر الاستماع وقرأ الدواوين وحفظ منها الكثير، فصار بذلك شاعرا يعد في طبقة  الشعراء الفحول.