Section outline

  • تعددت مصادر الدرس التداولي المعاصر إذ لكل مفهوم من مفاهيمه حقل معرفي انثق منه " فالأفعال الكلامية مثلا مفهوم تداولي منبثق من مناخ فلسفي عام هو تيار الفلسفة التحليلية بما احتوته من مناهج و تيارات  و قضايا و كذلك مفهوم نظرية المحادثة الذي انبثق من فلسفة بول غرايس و أما نظرية الملاءمة فقد ولدت من رحم علم النفس المعرفي [1]

    و بما أن الفلسفة التّحليليّة هي أولى مصادر الدرس التّداولي المعاصر،فقد وجب التعريف بهذا التيار الفلسفي و بمختلف اتجاهاته و اهتماماته و قضاياه  ، و التي ارتأت ضرورة الاعتناء بالبحث اللّغوي، و جعله المدخل الأساسي و الأداة المعرفية الضروريّة لدراسة موضوعات الفلسفة، متخذة لنفسها منطلقا واضحاً يكمن في: « إعادة صياغة الأشكال و الموضوعات الفلسفية على أساس علمي ... و يتمثل ذلك الأساس العلمي في اللغة ... و قد اعتبر فلاسفة التحليل هذا المبدأ المنهجي هو علامة قوة منهجهم و حقّانيتة.....    »[2]    .

    و مهما يكن من أمر، فإنّ فلاسفة التّحليل قد رأوا أنّ لا سبيل إلى فهم علاقتنا بالعالم،

    و بالكائنات، إلاّ باللّغة ذلك أنّ: «جميع الحالات الموضوعية لشؤوننا، و جميع العلاقات الذاتيّة مع الأفراد و المجتمع… قائم على أساس لغوي، و إن أراد أن يكون له معنى

       فالطّابع اللّغوي مرتبط دائما و أبدً بالفهم مادام المعنى الذي تنقله لنا اللّغة لا يصير ملموسًا إلاّ على هذا النحو، فالوجود الذي يمكن أن يكون مفهومًا أولاً هو اللّغة»[3].                                         وباختصار نجمل مفهوم الفلسفة التحليليّة في النقاط الآتية:

    - ضرورة التّخلي عن أسلوب البحث الفلسفي القديم، و خصوصا جانبه الميتافيزيقي.

    - تغير بؤرة الاهتمام الفلسفي موضوع نظريّة المعرفة إلى موضوع التّحليل اللغوي.

    - تجديد و تعميق بعض المباحث اللّغوية، سيما مبحث " الدّلالة" و الظّواهر اللّغوية المتفرّعة عنه .[4]

    و تنقسم الفلسفة التّحليلية إلى ثلاثة اتجاهات كبرى هي:

    أ- الوضعانية المنطقية: يقوم هذا التيار الذي يتزعمه رودولف كارنابRudolph Carnapعلى مبدأ أساسي ينص على :« استبدال اللّغة المنطقية الصارمة بهذه اللّغة العادية التي تُسيئ إلى الواقع بما تنطوي عليه من اعتباطية و تناقص و غموض، فسعى من ثمّ بوصفه عالم منطقٍ و فيلسوف إلى تكوين لغة صناعيّة تتوفر لها متطلبات الصرامة و الدّقة اللتيّن افتقدهما في اللّغة الطبيعية»[5].

            إنّ سعي هذا التّيار نحو تأسيس لغة صوريّة مصطنعة، أمر قد أوقع به خارج حيز البحث التّداولي، ذلك أنه قد أقصى اللّغات الطبيعيّة من اهتمامه متنكرًا بذلك للقدرات التّواصليّة الهائلة التي تملكها اللّغات الطّبيعية، حيث تظهر القدرات التّواصلية لهذه اللّغات  في استعمالها العادي، أي من قبل المتكلمين العاديين في الحياة الطّبيعية العادية.

    ب- الظاهراتية اللغوية*: تتجاوز الظّاهراتية اللّغوية التي يتزعمها "أدموند هوسولEhusserl" البحث في مستوى اللّغة المتجسدة كلامًا ، أو نصًا إلى البحث في الشّروط الذّهنية للأداء اللّغوي ، فالظاهراتية:« علم يبحث عن كيفية إقامة علمٍ كلي قبلي تنطوي تحته جميع العلوم الجزئية، فهي منهج يهدف إلى فهم المضامين العقليّة التي تنطوي عليها الظواهر العالميّة الكليّة»[6].

           إنّ البحث فيما وراء الكينونة اللّغوية " المرحلة الذهنية " بحث في غاية التّجريد لا يمتّ بأيّ صلة للاستعمال اللّغوي الأمر الذي يجعل هذا المنظور في خانة سابقة.

       إلاّ أنّه لا يمكن التّنكر لأهمّ مبدأ إجرائي استفادت منه اللّسانيات التّداولية و هو مبدأ القصديّة  "intentionnalité" الذي استثمره الفيلسوف أوستين في دراسة ظاهرة الأفعال الكلاميّة ،و اتخذه سيرل أساسًا لتصنيف القوى الإنجازية.

             لقد خرج تيار الوضعانيّةالمنطقيّة ،و الظاهراتية اللّغوية عن إطار البحث التّداولي بسبب عدم اهتمامها باللّغة العادية ، فهي تقصي القدرات التّواصلية التي تمتلكها الّلغات الطبيعية ، و تقصيها تماما من نشاطها العلمي ، بينما لا تظهر القدرات التّواصلية الفعلية للغات الطبيعية إلا في الاستعمال العادي ، و لم يبق من ضمن التيارات الثلاث إلاّ التيّار الأخير و نقصد به  فلسفة اللّغة العادية و هو الذي نشأ بين أحضانه ظاهرة الأفعال الكلاميّة

    ج- فلسفة اللّغة العادية: يعدّ فيتجنشتاين" l’Wittgenstein " مؤسس تيار فلسفة اللّغة العاديّة، و هو يشارك الوضعانيّة المنطقيّة قناعتها بضرورة التّخلي عن الميتافيزيقا و تبني بحث فلسفي يتّخذ اللّغة موضوعا لدراسته، إلاّ أنّه يختلف عنها في نقطة جوهريّه شكلت منطلقًا لبداية فلسفته ،و قد أشار فيتجنشتاين  في هذا السّياق أنّ« الإرباك الفلسفي ينشأ من سوء استخدام اللّغة العادية، و لإزالة هذا الإرباك  لا بدّ من إظهار الاستخدام الصّحيح للمفاهيم الأساسيّة التي تُشكل الحديث في الفلسفة، و توضيح الطريقة التي يمكن أن تجعل استخدام الفيلسوف لهذه المفاهيم استخدامًا خاطئًا»[7].

             و بهذا يبدأ فيتجنشتاين برسم أولى ملامح منهجه المعروف باسم "منهج ألعاب اللّغة" .و الذي أوضح من خلاله كيف تستخدم اللّغة في استعمالها العادي من قبل المتكلّمين العاديين،و كيف يمكن أن يؤدي توسيع هذا الاستعمال إلى صعوبات فلسفية و منه رأى أنه من الضروري تخطي محاولة اكتشاف معاني مفاهيم معينة خلال عملية التّحليل بالمعنى الذي استخدمه "رسل" لتكون بذلك مهمة الفيلسوف محدّدة في « توضيح مغزى هذه المفاهيم بالإشارة إلى الطّريقة التي تستخدم بها في الواقع، لهذا قيل أنّ فيتجنشتاين كان مسؤولاً عن ذلك القول المشهور المميز لنشاط فلاسفة اللغة:  لا تسأل عنالمعنى، بل اسأل عن الاستعمال»[8] .فأهم ما ميز فلسفته التّحليلية بحثه في المعنى و ذهابه إلى أن المعنى ليس ثابتا و لا محددا و دعوته إلى تفادي البحث في المعنى المنطقي الصارم " [9] .

            على أنّ التّراث الذي تركه فيتجنشتاينلم  يكتسب مكانته الحقيقيّة في الدّرس اللّغوي المعاصر إلاّ بعد أن تبنّاه نخبة من فلاسفة أكسفورد و هم أوستين J.L.Austinالذي بدا متأثرًا في كتابه "عندما يكون القول هوالفعل " بفكر فيتجنشتاين ،وسيرلsearle الذي اتخذ من أفكار هذا الفيلسوف معيارًا في دراسته للقوى المتضمنة في القول.

             علما أنّ المفاهيم التّداولية الأخرى لها منابعها الفكريّة الخاصّة، إذ ينبثق مفهوم نظريّة المحادثة من فلسفة جرايس المتمثل في مبدأ التّعاون ،و مسلماته الحواريّة، فيما تعتبر نظرية الملائمة سليلة علم النّفس المعرفي مستغلّة إحدى مسلمات مبدأ التّعاون.

    3- توجهات التّداولية المعاصرة: تتلخص التّداوليّة المعاصرة في نظر " فرانسيس جاك " في ثلاث نظريات معاصرة تشكل الأساس المعرفي :

    -         نظرية الأفعال الكلاميّة.

    -         نظرية الملفوظية.

    -         نظريات استراتيجيات الخطاب.[10]

     

     

     

     



    [1]مسعود صحراوي التداولية عند العلماء العرب ص 18

    [2]ـ المرجع نفسه20.

    [3]ـينظر مسعود صحراوي، الأفعال المتضمنة في القول، ص،41.

    [4]ـ ينظر مسعود صحراوي، التداولية عند العلماء العرب، ص، 21.

    [5]ـمسعود صحراوي، الأفعال المتضمنة في القول، ص:44

    *ارتبط أول ظهور لمصطلح phénoménologie  بالفيلسوف و الرياضي الألماني J .H. Lambert في القرن 18 و يعني المصطلح علم أو نظرية الظاهر L apparence ، و الأصل اليوناني للمصطلح هو phainoménonو يعني حرفيا ما يظهر و ما يرى ، و يتعلق الامر في الفينومنولوجيا بوصف الأشياء كما تظهر مما يعني وصف طريقة تجليها ، و لكي يظهر الشيء لابد أن يظهر لشخص ما فكل ظاهرة يفترض فيها وجود فاعل مما يعني عسر الفصل بين الفينومينولوجيا و التوجه العام للفلسفة الحديثة نحو الذاتية ، و قد استعمله هيقل لدلالة على حركة التجلي الذاتي للنفس المطلقة في التاريخ ، كما استعمله هاملتون أحد أبرز رموز الفلسفة الاخلاقية للدلالة على العلم الذي يدرس قوانين الفكر من وجهة نظر نفسية ، أما برنتانو فقد استعمله للدلالة على البسيكولوجيا الوصفية la psychologie descrptive  و قد جعله الفيلسوف الالماني Edmond Husserl عنوانا جامعا لمشروع و طريقة فلسفيين الكلمة المفتاح فيهما العودة إلى الأشياء ذاتها في إطار البحث عن اليقين ينظر أحمد الوردني  نظرية المعنى بين التوصيف و التعديل و النقد ، مركز النشر الجامعي ، تونس ، دط 2007 ،ص 143ـ 144 .

    [6]ـالمرجع السابق، ص:49

    [7]ـ محمد مهران، دراسات في فلسفة اللغة ، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، د/ط، 1998، ص:40

    [8]ـمحمد مهران، دراسات في فلسفة اللغة ، ص:41

    [9]ـمحمود عكاشة ،النظريةالبراجماتية اللسانية التداولية دراسة المفاهيم و النشأة و المبادئ ،مكتبة الآداب القاهرة مصر ط1 2013 ص 56

    [10]ـ مسعود صحراوي، الأفعال المتضمنة في القول بين الفكر المعاصر و التراث العربي، ص54.