مدخل إلى اللسانيات التداولية
Section outline
-
تناول الباحثون الدراسات اللغوية وفقا لاتجاهين رئيسيين هما : اتجاه الدراسات الشكلية للغة و اتجاه دراسات اللغة في السياق التواصلي و في ما يلي إيجاز لهذين الاتجاهين :
-1الاتجاه الشكلي الصوري : يعنى هذا الاتجاه بدراسة النظام اللغوي معزولا عن السياق التواصلي الاجتماعي إذ تنجز الدراسة في مستويات اللغة المعروفة " الصوتي التركيبي الدلالي " ،حيث تشرك جملة نظريات هذا النمط اللّساني في جملة من المسلّمات المنهجيّة فحواها:
1- إقصاء الكلام: لم يُعنى هذا التّيّار التّحليلي إطلاقا بالاستعمال اللّغوي المتجلي في الكلام العادي منذ تصريح الرائد الأول ديسوسيرf.De Saussureأنّ« دراسة اللّغة تتضمن قسمين:
1- القسم الأساسي: و موضوعه اللّسان و هو ذو طبيعة اجتماعيّة مستقلة عن الأفراد الّذين يستعملونه و هذه الدّراسة لا تكون إلاّ نفسيّة.
2- القسم الثانوي: موضوعه الجانب الفرديّ من اللّغة ، أعني الكلام بما فيه التصويت
و هو دراسة نفسيّة فيزيائيّة ...»[1]
ثم أضاف قائلا: «إنّه بإمكاننا الاحتفاظ باسم اللّسانيات للتّعبير عن هذين العلمين و من ثمّ الحديث عن لسانيات الكلام و لكن يجب ألاّ نخلط بينها و بين اللّسانيات الحقيقيّة الجديرة بهذه التّسمية و الّتي يكون اللّسان موضوعها الوحيد»[2].
إنّ مصادرة الكلام من حقل الدّراسة اللّسانية بحجّة التّأسيس للّسانيات العلميّة بما تحمله كلمة "علميّة" من دقة و صرامة ممارسة لتفكيك الكونيّة اللّغوية الواحدة.
و يندرج تحت إقصاء الكلام كلّ ما يمتّ له بصلة من:
إقصاء الأفراد المتكلّمين العاديين: فلا مكان لهؤلاء إلاّ في الكلام الفعليّ و هذاما تومئ إليه فقرات كثيرة في محاضرات دي سوسير من ذلك قوله«وبفصلنا اللّسان عن الكلام نقومبفصل ماهو اجتماعيّ عمّا هو فرديّ، ماهو جوهريّ عمّا هو ثانوي وعرضي»[3].
إنّ صفة "ثانوي"و"عرضي" التي أضفاها دي سوسير على الكلام وهو أداء"الفرد" لدليل على ضآلة الحجم الذي يوليه للكلام مقابل اللسان الّذي يعطيه صفة"جوهري"
ويصرّدي سوسير على هامشيّة الفرد وتضيّق حيزهضمن هذه الدّراسة مؤكدًا أنّ «اللّسان هوالجزءالاجتماعيّ من اللّغة وهو خارجيّ عن الفرد الذي لاستطيعبمفرده أن يخلق اللّسان ولا أن يغيّره[4]
إنّ القول بهامشيّة الفرد وعدم قدرته على خلق اللّسان وتغيّره تنكّر صارخ لجهود الفرد الذي لطالما استطاع وبفعل الإبداع أن يجدد في اللّغة بتفكيك العلامة اللّغوية والإحالة بمدلولها على مدلولات لم توضع لها في الأصل، و من ثمّإرساء دعائم مواضعة جديدة.
2ـ إقصاء سياق الحال[5]: إنّ اللّغة في عقيدة دي سوسير نظام و من طبيعة هذا النّظام أن يكون قارًا و ثابتًا ، و بالتّالي لا مجال فيه للمتغيرات الخارجيّة المصطلح على تسميتها بسياق الحال، و التّي تكسو النّظام طابعًا حيويًا متمايزًا، إنّه شبيه بلعبة الشّطرنج فالكلمة في نظام اللّغة مماثلة لقطعة الخشب في لعبة الشطرنج ذلك أنّه « إذا استبدلنا قطعا عاجيّة بالقطع الخشبيّة فهذا التّغيير حياديّ لا دخل له في النّظام، لكن إذا زدنا أو أنقصنا عدد القطع فهذا تغيير يطال عمقّ اللّعبة»[6]
إنّإصرارالبنوية على الفصل بين النّظام اللّغوي و بين السّياقات الحاليّة المختلفة لاستخدامه جعلها تتحول إلى علم تجريدي ذي إجراءات داخليّة خالصة تتناول العبارة اللّغوية في مستواها الصوري دونما التفاتٍ إلى ما يصنع حيويتها و لم تُسد هذه الثّغرات إلاّ جزئيّا و ذلك بميلاد." الشق التّوليدي"
الشقّ التّوليديّ:يعدّ الإجراءات التوليديّ و التّحويلي ثورة عميقة داخل الإجراء التوزيعي الّذي تعامل مع اللّغة من حيث هي مظهر سلوكي كغيره من المظاهر السلوكيّة الأخرى ،و ذلك «بتوخي استكشاف آلية لغة من اللّغات من خلال وضع لائحة للوحدات الأساسيّة في كلّ مستويات الدّراسة اللّغوية ،و من خلال تحديد الفئات الّتي تنتمي إليها و استكشاف تآلفها فيما بينها»[7]دونما اعتبار للبنية الضمنيّة المتوارية خلف البنية الظّاهرة.
ومن ثم ترتكز النّظرية التّوزيعية على جملة من الأسس نذكر منها ما يلي:
- عدم الاهتمام بالجوانب الذهنيّة مثل العقل و التّصور، و الفكر و يقصي كلّ تحليل نفسي يعوّل على الاستبطان، و أبرز ما يمكن ملاحظته مباشرة بالاعتماد على السلوك الظّاهر دون سواه و حين يطبّق هذا المنهج على الظّاهرة اللّغوية ينصبُّ التّحليل على الأشكال اللّغوية فحسب، لذلك أطلق بعضهم على اللّغة اصطلاح "السلوك النّطقي".
- التّقليص من دور الدّوافع و القدرات الفطريّة و الظّواهر السّلوكية و إعطاء أهميّة قصوى لعمليّة التّعليم في اكتساب النّماذج السلوكيّة.[8]
ونتيجة لهذه الشّكلانيّة الصارخة الّتي وقع فيها هذا الأجراء على غرار ما سبقه من الإجراءات. راحت اللّسانيات التوليدية تضع منهجا بديلايحاول تفسير الظّاهرة اللّغوية انطلاقًا من عمقها و قبل الانجاز ناقلا بذلك الدّرس اللّغوي من مجرّد الملاحظة و الوصف إلى محاولة التفسير و التنظير، مستبدلا المفهوم السّكوني للّغة بمفهوم دينامي "إبداعي خلاق"بالاعتماد على المنطق و الرياضيّات
بحيث تتجلّى إبداعيّة اللّغة في «المعرفة الاختبارية لدى متكلم مستمع مثالي في استعمال لغته »[9].أي القدرة الضمنيّة التي يمتلكها المتكلم - المستمع المثالي- التي تخول له التلفظ بعدد غير محدود من جمل لغته الأم .
و لا يتأتّى فهم الكفاءة التداولية إلاّمن خلال وسيط هو الأداءوهو«الاستعمال الفعلي للّغة في الظّروف المحسوسة »[10] ،و الّذي لا يعكس على حدّ اعتقاد تشومسكي «العلاقات النّسقية الدّاخليّة التي بموجبها يتمّ الرّبط بين الصوت و المعنى حسب مقتضى النّظام اللّغوي فقط و لكنّه يعكس أيضًا كثيرا من مكونات العمليّة التّواصليّة
إنّ مفهوم الأداء في تصور شومسكي يعني أمرين.
1- يتعلّق بسياق الحال و أدوار المتكلمين.
2- خاص بكيفية أشغال العقل البشري لحدود الذاكرة و تشكيلالبنى الذهنيّة»[11].
إنّ عمل هذه العناصر متحدة بما في ذلك دراسة سياق الحال و الكلام و ظروف الخطاب توشك أن تعلن عن ميلاد توجه وظيفي في دراسة اللغة إلاّ أنه ما فتئ يتعثر عندما أعلن تشومسكي عن ضرورة تفكيك مجموع العوامل المتشابكة ذات الصّلة بالكفاءة الضمنيّة التي تحدد الأداء الفعلي ،و مذأسندت الكفاءة اللّغوية إلى متكلم مستمع مثالي و هو كائن افتراضي غير حقيقي حتى سارت التّوليديّة في طريق البحث المجّرد بعيدًا عن الاستعمال الفعلي للّغة.
و كون هذه الدراسات قد وقفت عند حدّ الجملة فقد قصرت عن دراسة بعض الظواهر مثل ظاهرة الإحالة و تحديد مرجعها، الإضمار، الروابط الإحالية .
و هذا ما بررّ الالتفات إلى دراسة اللّغة في مستوى أكبر من الجملة و هي دراسة
الخطاب إذ يدرس بوصفة بنية كبرى من خلال بيان العلاقة بين وحداته و سياق تشكيلها.
2-الاتجاه التّواصلي: إنّ الأطر المنهجية الضّيقة التي رسختها اللّسانيات الشّكلية بشقيها البنوي الصّارم و التّوليدي الذهني المجردّ بتخليها عن البحث فيما وراء الكينونة اللّغوية بإقصائها المنجز منها و المتجسد فيالكلام مكتفية بالجملة كحدٍّ أقصى .و الأدهى من ذلك تنكرها للدلالة التي هي روح اللغة ،و مناط قيامها رسّخ لدى الباحثين القناعة بضرورة تخطي شكل اللّغة الجامد إلى مجال أرحب حيث تعبّر اللّغة عن ذاتها شكلاً و مضمونًا.
و ذلك لن يتم إلاّ من خلال دراسة استعمالها في التّواصل حيث تلتقي المعرفة اللّغوية بمعارف أخرى كعلم الاجتماع ،و علم النّفس و الفلسفة، و المنطق ،و الرياضيات ، و حيث تدرس اللغة باعتبارها حدثا تواصليّا خاضعا لحيوية الاستعمال ، وحيث يعاد الاعتبار للكلام على أنّه الأداة الفعلية التي تحقق عملية التّواصل، و من ثم دراسة السّياق الذي ينجز فيه الخطاب بمعرفة عناصره و دورها في تشكيله ،و دراسة مقاصد المرسل ووسائله،و معرفة السياقات بأنواعها النّفسي و الاجتماعي.... ذلك أنّ خصائص اللغة لا تظهر إلاّ من خلال «المنجز التّلفظي في سياق معين لأنّ دراسة المتن الظّاهر سواء أكان من حيث تركيبُه أو دلالته تبقى دراسة قاصرة بتراء فمكونات الخطاب "النص" التي تدرسها العلوم الأساسية هي مكونات لا تقبل الاختزال إلى مظهرها الإشاري الصرف ، كما هو معمول به في التّوجهات الاختزاليّة ذات النّزوع الموضوعي مثل السّيكولوجيا، السّلوكية، اللّسانيات البنوية،السميوطيقاالشّكلانية بل تتطلب معرفة بطابعها السّميائي الذي يجعل منها مكونات حية متفاعلة»[12].
لقد شكّلت هذه القناعة انعطافا في مسار الّلسانيات أسس له جملة من اللّسانين ،و الفلاسفة، ليعلن هذا الانعطاف عن ميلاد اتجاه جديد تخطى دراسة القدرة إلى الإنجاز ،وحدود الجملة إلى الخطاب ،و التّركيز على الشّكل إلى العناية بالمضمون ألا و هو الاتجاه التّواصلي المشتمل على مناهج كثيرة منها :النحو الوظيفي ،و اللّسانيات و تحليل الخطاب و لعل أبرز هذه المناهج و أكثرها استخداما في مجال البحث اللّساني المعاصر هو " التّداولية".
[1]« L’étude de langage comporte donc deux parties : l’une essentielle a pour objet la langue, qu’est sociale dans son essence et indépendante de l’individu cette étude est uniquement psychique, l’autre, secondaire a pour objet la part individuelle du langage, C’est-à-dire la parole y compris la phonation elle est psychophysique». Ferdinand de Saussure. Cours de linguistique générale. Edition talantikit p 26
[2]on peut a la rigueur conserver le nom de linguistique a chacune de ces deux«disciplines et parler d’une linguistique de la parole, mais il ne faudra pas la confondre avec la linguistique proprement dite celle dont la langue est l’unique objet»Ferdinand de Saussure, Cours de linguistique générale,.P28
[2]« En séparant la langue de parole, on sépare du même coup : 1 ce qui est social de ce que est individuel ; 2 ce qui est essentiel de ce qui est accessoire et plus ou moins accident », Ibid. P 20
[4]« Elle est la partie sociale du langage, extérieure à l’individu qui à lui seul ne peut ni la créer 3-ni la modifier ».Ibid P20
[5] - سياقالحال .أوسياقالتّلفظأوسياقالموقف :ويقصدبه : « الملابساتغيراللّغوية ( منخارجاللغة ) التييتحققفيهاالتّلفظ ( الإطارالمكانيوالزمانيوالظروفالاجتماعيةوالسياسيةوالثقافيةوغيرهاالتيتحفبالأقوالفضلاعنالقائلينوالمخاطبينومايحددهويّتهمورؤيتهمللمعالموماحصللديهممنمعارفلغوية ....» آن ربول، جاك موشلار: التداولية اليوم علم جديد ترجمة سيف الدين دعفوسد.محمد الشيباني، دار الطبيعة للطباعة و النشر، ط1، 2003، ص265.
وعليهفإنعبارةالسّياقتحويبينطيّاتها- حسبمالنوفسكي- ماهوآتٍ : أ- السماتالمتعلقةبالمشاركين: الأشخاص - الحدثغيراللّغويللمشاركين. - الحدثاللّغويللمشاركين. ب – الأشياءالوثيقةالصّلةبالموضوع .ج – تأثيرالحدثاللّغوي . بروان ويول ، تحليل الخطاب ، ص37.
[6]« si je remplace des pièces de bois par des pièces d’ivoire le changement est indifférent pour le système ; mais si je diminue ou augment le nombre des pièces ce changement là atteint profondément la grammaire du jeu » Ferdinand de Saussure, Cours de linguistique générale, P32
[7]د.مشال زكريا، الألسنة "علم اللغة الحديث قراءات تمهيدية"، بيروت ط 1980، ص15.
[8]ينظر مشال زكريا مباحث في النظرية الألسنيةو تعليم اللغات، بيروت 1983، ص144.
[9]منصف عاشور ، مبادئ في قضايا اللسانيات المعاصرة ، الجزائر ديوان المطبوعات الجامعية ،1984 ص99
[10]أحمد حساني ،دراسات في اللسانيات التطبيقية –حقل تعليمية اللغات-ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر،دت،ص26
[11]- ينظر مسعود صحراوي ، الأفعال المتضمنة في القول ،بين الفكر المعاصرة و التراث العربي أطروحة دكتراه في اللسانيات ،جامعة الحاج لخضر باتنة (2003-2004) ،ص14 .
[12]ينظر ،بوقرة النعمان ، محاضرات في المدارس اللسانية المعاصرة ،جامعة باجي مختار ،عنابة 2006 ص 106.