سيميولوجيا « دي سوسير»
Section outline
-
سيميولوجيا « دي سوسير»
ترتبط السيميولوجيا ارتباطا وثيقا بالنموذج اللساني البنيوي الذي أرسى دعائمه السويسري فردناند دو سوسیر»، منذ القطيعة الابستمولوجية التي أحدثها مع الدراسات اللغوية السابقة، وهو وإن لم تكن دراساته حول السيميولوجيا، إلا أنه أرسى قواعد أساسية تبناها كل السيميائيين الذين أتوا بعده.
لقد دعا دو سوسیر إلى تبني المنهج الوصفي، الذي لا تحتكم قوانينه إلى العوامل التاريخية أو الخارجية الأخرى، بل إن اللغة في إطار هذا المنهج يجب أن تدرس في ذاتها ومن أجل ذاتها، إنها منهج مغلق لا يؤمن بما يقع خارجه من عوامل ولأنه منذ البداية أراد أن يصل إلى دقة علمية كبيرة في بحوثه النظرية فقد كان أكثر تخصيصا لبحثه الذي هو اللغة دون سواها، وترك لمن يجيء بعده مهمة التكفل بالقضايا الدلالية، والإشارات غير اللغوية الأخرى، لكنه لم ينس توضيح مجال بحثه الذي هو دراسة "اللغة الطبيعية" ليقول أنها جزء من علم عام هو علم السيميولوجيا.
كان دو سوسير يدرك منذ البداية أن العملية التواصلية تتم عبر مجموعة من الإشارات اللغوية وغير اللغوية فكانت أول خطوة قام بها تحديد علم اللغة بعد النظر إلى شتى العوامل البيولوجية والفيزيقية والسيكولوجية والاجتماعية والتاريخية والجمالية والعلمية التي تتداخل وتتشابك لتكون نسيج النشاط اللغوي لدى البشر" [1] فبعد أن رأى أن اللغة مؤسسة اجتماعية، ولكنها تتميز عما سواها (...) بعدة سمات [2]
استنتج أنه من الضروري إدراج ظواهر صعيد آخر في هذا السياق ذلك أن هذه اللغة ما هي إلا نظام الدلائل يعبر عما للانسان أفكار، وهي في هذا شبيهة بالكتابة، من وبألف بائية الصم والبكم ، وبالطقوس الرمزية، وصور آداب السلوك وبالإشارات الحربية وغيرها[3] فاللغة إذن ما هي إلا وسيلة من الوسائل التي تحقق الدلالة وتنقل أفكار الإنسان إلى الآخرين، ومن تساعد على التواصل كغيرها من الأنظمة الأخرى، وإن كانت - كما ثم أكد «دوسوسير» - أهم هذه الأنظمة جميعها، أما أهميتها فترجع إلى كونها المضمون الرئيس للكون، ولأنماط وجوده فلا يمكن معرفة أي شيء دون الاستعانة بعلامات اللسان ذلك أن العالم بكل موجوداته يحضر في الذهن على شكل مضمون لساني. ولأنه توجد أنظمة تواصلية أخرى غير اللغة الطبيعية فلا بد من تصور علم يدرس حياة الدلائل في صلب الحياة الاجتماعية، وقد يكون قسما من علم النفس الاجتماعي، وبالتالي قسما من علم النفس العام، ونقترح تسميته Semiologie ، أي علم الدلائل وهي كلمة مشتقة من اليونانية Sémeion بمعنى دليل ولعله سيمكننا من أن نعرف مما تتكون الدلائل والقوانين التي تسيرها، ولما كان هذا العلم غير موجود بعد، فإنه لا يمكن أن نتنبأ بما سيكون، ولكن يحق له أن يوجد، ومكانه محدد سلفا"[4] .
نفهم من هذا القول أن دي سوسير قد جعل السيميولوجيا فرعا من علم النّفس الاجتماعي ومن ثم من علم النّفس العام، ولعل السبب الذي جعله يضع السيميولوجيا هذا الموضع من علم النّفس وعلم الاجتماع هو ولعه بالنّتائج التي توصلت إليها أبحاث هذين العلمين على يد معاصریه "فروید و دوركايم" ، ومن خلال تسميته لهذا العلم بالسيميولوجيا اشتقاقا من Semion اليونانية ندرك وعيه بالدراسات اللّغوية القديمة العائدة إلى الجذور اليونانية.
وقد دي سوسير أكد أنّ النّتائج التي سيتوصل إليها هذا العلم سوف تطبق على اللّسانيات ذلك أنّ هذه الأخيرة ما هي إلا جزء، ولو مفضل من علم عام هو علم العلامات فاللسانيات إذن تتقيد بدقة بمجال محدد في مجموعة القواعد الأنثروبولوجية»[5] ، أما أهميتها فتعود إلى كونها ألحقت بعلم الدلائل ليس إلا - كما يقول «دوسوسير» - الذي يعترف منذ البداية بأهمية السيميولوجيا وإن لم تتحدد معالمها بدقة بعد كيف لا وهي الكل أما اللّغة فلا تمثل إلا جزءا صغيرا منها، لكن هناك الكثير من السيميولوجيين الذين أتوا بعده، وقلبوا مقولته هذه وأولهم «رولان بارث»، الذي رغم أنه احتفظ بمفاهيم ومصطلحات كثيرة لـ دي سوسير، خاصة مصطلحي الدال والمدلول، اللذين فضلهما على مصطلحي التعبير والمحتوى لـ «هيالمسليف »كما احتفظ بمفهوم ثنائية اللغة والكلام برمته والذي ينظر دو سوسير من خلاله إلى اللغّة على أنّها منظومة من العلامات تعبر عن فكرة ما، أما الكلام فهو عمل فردي للإرادة والعقل»[6] ، إلا أنه قلب مقولة اللسانيات جزء من السيميولوجيا وقال بأن «اللغة ليست إلا جزءا من علم العلامات والنظر إلى علم العلامة بوصفه فرعا من علم اللغة العام، وبالضبط ذلك القسم الذي يتحمل على عاتقه كبريات الوحدات الخطابية الدالة" [7] ، فاللسانيات أهم بكثير من السيميولوجيا لأنها الأساس في تكونها وتشكيل ،قواعدها وهو نفس الرأي الذي ذهبت إليه «جوليا كريستيفا حين تقول تستطيع اللسانيات أن تصبح النموذج العام لكل سيميولوجيا، بالرغم من كون اللسان ليس سوى نسق خاص الأنساق السيميولوجية»[8] ، وكيف لا تكون اللسانيات هي أساس السيميولوجيا وهذه الأخيرة قد تبنت في منطلقاتها كل المبادئ الألسنية ولأن مهمة السيميولوجيا السوسيرية الكشف عن كينونة الدلائل كيفما شاءت، بأي نظام كانت فإن التعرض لمفهوم الدليل عند دي سوسير مهم في مقامنا هذا فقد ربطه بمفهوم النظام، هذا الأخير الذي هو «الرابـط الحقيقي بين العناصر الصوتية والعناصر النفسية في صلب كل دليل من الدلائل"[9] ، ويقصد دو سوسير بالعناصر الصوتية الدوال دو سوسير فقد حصر الدال في الصورة الصوتية فقط أما العناصر النفسية فهي المدلولات، وهو تأكيد آخر على الجانب النفسي في دراسات «دي سوسير، والنظام السوسيري يتضمن مفهوم الكل والعلاقة، حيث لا يمكن فهم وظيفة الأجزاء إلا في علاقتها الاختلافية مع الكل فالأجزاء داخل النظام ليس لها معنى في حد ذاتها عندما ينظر إليها معزولة وهو ما عبر عنه دو سوسير بمفهوم" القيمة Valeur"[10] وقوله «علاقتها الاختلافية مبني على رؤيته للغة، يقول «أما في اللغة فإنك لا تجد إلا اختلافات بدون ما وجود لعناصر إيجابية، فسواء اعتبرت المدلول أو الدال، فإنك لن تجد في اللغة أفكارا ولا أصواتا وجودها سابق لوجود النظام اللغوي، إنما تجد فيها اختلافات تصورية، وأخرى صوتية نابعة من ذلك النظام»[11].
لا قيمة إذن للأفكار مجردة عن الدوال، ولا قيمة للدوال دون أفكار، ووجودهما مستقلان عن بعضهما البعض مستحيل، ثم إن الدلالة لا تتكون إلا داخل النظام، أو الوحدات اللغوية، ولا تعرف
إلا في علاقاتها التعارضية، وهذا ما يفترضه مفهوم القيمة - كما وضح أنور المرتجى» - ، والتصور السوسيري لمفهوم القيمة كما يقول رولان» (بارث» يتكئ على خلفية ديمقراطية تنتظم العلاقة بين الدلائل، أي أن دي سوسير يتعامل معها كمواطنين في مجتمع داخل نظام يقوم على المساواة [12]، وهو تشبيه رائع من «بارث يوضح بشكل جيد مفهوم القيمة عند دي سوسير حتى أنه لا يترك لنا مجالا للشرح أكثر ، وحسبنا أن نعطي مثالا توضيحيا أورده ر، وهو تشبيهه لمفهوم القيمة بالعلاقة المتبادلة بين قطع الشطرنج فقوانين اللعبة تقول أن كل تغيير في عنصر معين يؤدي إلى تغيير في النظام ككل [13].
لقد تبنت اللسانيات البنيوية فيما بعد مفهوم القيمة السوسيري، حيث أن ما يوجد من فكرة أو مادة صوتية في الدليل هو أقل قيمة بالمقارنة مع ما يحيط به من دلائل أخرى[14] ، وأكد مفهوم القيمة حضوره -كما يؤكد أنور المرتجي -في مجالات بعيدة عن اللسانيات كما هو الشأن عند ليفي شتراوس» في دراسته لنظام القرابة.
وانطلاقا من مفهوم القيمة عند دي سوسير ننتقل إلى فكرة أساسية أخرى من أفكاره كانت لها إسهاماتها في تشكيل علم العلامة اللغوية فاللغة لدى "دي سوسير" عبارة عن مستودع من العلامات والعلامة وحدة أساسية في عملية التواصل بين أفراد مجتمع معين، وتضم جانبين أساسيين هما الدال والمدلول"[15]. وينبغي الإشارة إلى أن دي سوسير وفي مرحلة أولى من أبحاثه أثناء حديثه عن الدليل اللساني، قال بأنه متصور ذهني وصورة أكوستيكية، وفي مرحلة ثانية تخلى عن هذين المصطلحين اللذين لهما صدى نفسى ،كبير وفضل الاحتفاظ بكلمة دليل للدلالة على المجموع، واستبدل المتصور الذهني بالمدلول والصورة الاكوستيكية بالدال[16] .
وقد تبنى جميع اللسانيين والسيميولوجيين الذين جاءوا بعد ادي سوسير مفهومه للدليل وأصبح ذا قيمة علمية كبيرة - كما تؤكد دليلة "مورسلي" ، وإن كان هناك من أدخل عليه تعديلا مثل "بارث و لاكان" ، اللذين أخذا برفض فكرة وجود ارتباط ثابت بين الدال والمدلول، وقدموا حجتهم على ذلك بكون الإشارات تعوم سابحة لتغري المدلولات إليها لتنبثق معها، وتصبح جميعا دوالا أخرى ثانوية متضاعفة لتجلب إليها مدلولات مركبة[17] .وقد انطلق هذا التعديل من مفهوم "دي سوسير" الذي ركز على نظرة أراد من خلالها أن يجعل أبحاثه ذات علمية وموضوعية أكثر، ليقول أصحاب هذا التعديل أنه من الصعب جدا إيجاد علمية بهذه الدرجة في الأبحاث اللغوية والأدبية، كما أن العلاقة الجامعة بين الدال والمدلول عند "دي سوسير" علاقة اصطلاحية عرفية، يقول في هذا الشأن وبعبارة واضحة صريحة إن الرابط الذي يجمع بين الدال والمدلول رابط اعتباطي، أو بعبارة أخرى، وبما أننا بكلمة دليل المجموع الناتج عن الجمع بين نعني الدال والمدلول يمكننا أن نقول بصورة أبسط : إن الدليل اللغوي اعتباطي"[18] وقد قدم "دو سوسير" أمثلة كثيرة توضح هذا الرأي كاختلاف اللغات حيث نجد المدلول الواحد يعبر عنه بدوال عديدة في لغات متمايزة.
في هذا الصدد أيضا نجد من عاب على دي سوسير هذا الرأي، الذي يذهب من خلاله إلى التأكيد على أن موضوع السميولوجيا يتحدد انطلاقا من مجموعة الأنظمة القائمة على اعتباطية المعنى. فالاعتباطية السوسيرية إنما هي قائمة على الدال والمدلول، وهذا ما يعاب في هذه الفكرة، فهذا "إميل بنفينيست" يوافق على نظرية طبيعة العلامة اللغوية بأكملها، لكنه أن يقوي من عنصرها بشأن مسألة يعتقد أن "سوسير والتماسك فى معالجتها، وهى أن الاعتباط يقع بين العلامة ( دالا ومدلول، والشيء الذي تعنيه وليس بين الدال والمدلول"[19] . ولكن مهما قيل عن مفهوم الاعتباطية عند "دي سوسير" وما نتج عنه من إطلاق قيد الإشارة، فإنه يقوم كأخطر ما قدمته السيميولوجيا، حيث يتأسس عنه مبدأ القراءة السيميولوجية للنص، التي تقوم على إطلاق الإشارات كدوال حرة لا تقيدها حدود المعاني المعجمية، ويصير للنص فعالية قرائية إبداعية، تعتمد على الطاقة التخييلية للإشارة فى بواعثها مع بواعث ذهن المتلقي، ويصير القارئ هو صانع النص[20].
توجد كذلك أفكار كثيرة جدا جاء بها دو سوسير في دراساته اللغوية، وتبنتها الدراسات السيميولوجية فيما بعد خاصة مبدأ الثنائيات التي قام عليه الدرس اللغوي الحديث ونقلتها كل المدارس النقدية الحداثية .
ولعل أهم ما يميز المشروع السيميولوجي عند «دي سوسير» هو تأكيده على البعد الاجتماعي للدليل، والذي كان صريحا وجليا في تأكيده على أن الدلائل تعبر عن أفكار وكذلك ما يمكن ملاحظته على أفكاره السيميولوجية، تأكيده على قضية القصدية وإرادة التواصل، حيث ركز عليهما في معالجته لمسألة الدليل أما البعد النفسي الذي كان حاضرا في تعريفه للدليل، فقد طبع أعماله كلها، وجعل «مونان» يعتبره رجلا يمثل عصره، ولا ننسى قضية النظام التي جعلها محور أبحاثه اللغوية، فهي أهم ميزة على الإطلاق ميزت مشروعه السيميائي والتي تبناها كل من جاؤوا بعده.
في الأخير، يمكن القول أن مشروع «دي سوسير» السيميولوجي إنما هو مستمد من دراساته اللغوية التي كانت الأساس في بلورة أغلب المفاهيم السيميولوجية وحتى التفكيكية وغيرها من المدارس الحداثية الأخرى، فاللسانيات هي المنطلق الوحيد لهذه المدارس التي رأت في النتائج التي توصلت إليها ألسنية "دي سوسير" الأمل الذي لابد من الوصول إليه.
[1] سمير حجازي: المتقن : معجم المصطلحات اللغوية والأدبية الحديثة ص194
[2] فرديناند دي سوسير دروس في الألسنية العامة ص 37
[3] المرجع نفسه ص ن
[4] المرجع نفسه ص ن
[5] أحمد مومن اللسانيات: النشأة والتطور ص 132
[6] قاموس التحليل السيميائي للنصوص - عربي إنجليزي فرنسي ص30
[7] عبد الله إبراهيم وآخرون معرفة الآخر : مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة (البنيوية - السيميائية - التفكيك) ص77
[8] جوليا كريستيفا علم النص ص15
[9] فرديناند دي سوسير دروس في الألسنية العامة ص183
[10] ينظر فيصل الأحمر ، معجم السيميائيات ص 43
[11] دو سوسير دروس في الألسنية العامة ص 183
[12] أنور المرتجى سيميائية النص الأدبى ص10
[13] المرجع نفسه ص ن
[14] رشيد بن مالك السيميائية أصولها وقواعدها ص 30
[15] أحمد مومن اللسانيات: النشأة والتطور ص 127
[16] فيصل الأحمر معجم السيميائيات ص 45
[17] عبد الله الغذامي الخطيئة والتكفير ص46
[18] فردينان دي سوسير دروس في الألسنية العامة ص112
[19] فيصل الأحمر معجم السيميائيات ص 46
[20] عبد الله إبراهيم وآخرون معرفة الآخر : مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة (البنيوية - السيميائية - التفكيك) ص 78