السيميائيات في التراث العربي القديم
Section outline
-
السيميائيات في التراث العربي القديم
ككل العلوم والمباحث المعرفية الأخرى - تؤكد جل الدراسات فى التراث العربي القديم - أن العرب قد عرفوا ما يسمى اليوم بعلم السيميولوجيا، وإن كانت إشاراتهم مبعثرة ومتناثرة في أحضان علوم متنوعة كعلم النحو، وعلم البلاغة، وعلم التفسير وعلم التصوف وغيرها.
إلا استعمال مفاتيح وآليات وإجهاد عقولنا لنيلها، وحقا فتراثنا العربي قد خلف لنا أفكارا سيميائية عميقة ،وقيمة لا تنتظر إلا التصفية والترتيب لنحصل على سيميائيات بأصول وقواعد عربية خالصة، وليس هذا الكلام تعصبا منا للتراث وإنما هي الحقيقة التي لمسناها ونحن نبحث بسطحية هذه الإشارات فما بالك لو تعمقنا البحث؟ إلا أن ذلك ليس تامة محل بحثنا، لذلك سنكتفي بإيراد أهم بعض الإشارات السيميائية - ومعظمها كانت متعلقة بعلم الدلالة وبالفلسفة - عند بعض فقط، وحسبنا ذلك.
1 - مصطلح سيمياء واستعمالاته العربية القديمة
أ – لغة:
ورد في قاموس ابن منظور أن: «السيمياء: العلامة: مشتقة من الفعل «سام» الذي هو مقلوب وسم وهي في الصورة «فعلى» يدل على ذلك قولهم سمة، فإن أصلها : وسمى بالقصر، وسيمياء بزيادة الياء ،وبالمد، ويقولون (سوم) إذا جعل «سمة» (...) قولهم سوم فرسه أي جعل عليه السمة وقيل: الخيل المسومة هي التي عليها السيمة والسومة وهي العلامة [1] .
هذا فيما يتعلق بالتعريف المعجمي لمصطلح «سيمياء» والذي وجدنا أنه يعني علامة مما يجعلنا نرى أنه هناك تقاربا في المفاهيم والمصطلحات بين العرب والأمم الأخرى وقد يكون هذا المصطلح قد انتقل إلينا من اللغة اليونانية وأخضع لقوانين لغتنا، كما قد يكون العكس، ذلك أن سيمياء العربية تشبه Semiotic» الغربي، إذ يشتركان في ثلاثة حروف.
أما في القرآن الكريم فقد وردت لفظه سيمياء» دون ياء في عدة مواضع ، كقوله تعالى: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ (الفتح: (29)، وقوله أيضا: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقدام ﴾ (الرحمن (41) كذلك قوله تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَاب الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ (الأعراف: 48)، ونلاحظ أن الدلالة التي حملتها هذه اللفظة في القرآن هي نفسها الدلالة التي ذكرها «ابن منظور» وهي العلامة. كما وردت هذه اللفظة أيضا في الشعر و منه قول «أسيد بن عنقاء «الفزاري يمدح عملية حين قاسمه ماله: غلام رماه الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر"[2].
ب - اصطلاحا:
لقد تعددت استعمالات مصطلح سيمياء كعلم عند العرب قديما، فهذا ابن سينا في مخطوطة له بعنوان: كتاب الدر النظيم : في أحوال علوم التعليم وفي فصل تحت عنوان: علم السيميا يقول:علم السيميا علم يقصد فيه كيفية تمزيج القوى التي في جواهر العالم الأرضي ليحدث عنها قوة يصدر عنها فعل غريب، وهو أيضا أنواع [3] ، ويواصل رشيد بن مالك ذكره لما ورد تحت هذا العنوان من هذه المخطوطة لـ ابن سينا»، فيذكر تلك الأنواع، وهي متعلقة بالحركات العجيبة التي يقوم بها الإنسان وبعضها متعلق الهندسة، أما البعض الآخر فمتعلق بالشعوذة.
أما ابن خلدون فيقدم فصلا من مقدمته لعلم أسرار الحروف، وهو كما يقول: المعروف بالسيميا نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح التصرف من غلاة المتصوفة (...) في جنوحهم إلى كشف حجاب الحسن، وظهور الخوارق على أيديهم (...) ومزاعمهم التي تنزل الوجود عن الواحد وترتيبه، وزعموا أن للكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأكوان على هذا النظام[4]. فـ "ابن خلدون" من هذه الوجهة قد تحدث عن الجانب الغيبي والسحري لعلم السيمياء على عكس محمد شاه بن المولى شمس الدين الفناري الذي تحدث عن جانب واقعي وجانب سحري ومهما يكن فـ "السيمياء" كعلم عند العرب بعيدة كل البعد عن معناها الحالي.
2 - أهم الإشارات السيميائية عند العرب القدامى:
لم يتعامل معه عربنا القدامى مع مصطلح سيمياء إلا في إطار ما هو خارج عن المألوف، أما مفهومه الذي يعرف به اليوم، فإننا لا نجده إلا عبر إشارات من بعض بلاغيينا وفلاسفتنا، ضمن أبحاثهم المختلفة وذلك في شذرات متفرقة هنا وهناك، لذا سنحاول إيراد أهم من كانت لهم إشارات إلى هذه المفاهيم السيميائية الحديثة.
أ - الجاحظ وإشاراته إلى العلامات غير اللغوية:
يرى الجاحظ أن اللغة هي: "أداة نقل المعرفة طالما أن حاجة الناس إلى بعض صفة لازمة في طبائعهم"[5] ،أما وظيفة اللغة فهي الانتقال من معرفة الحواس إلى معرفة العقول[6] ، أما في مسألة المعاني والألفاظ فيقول: «أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية وأسماء المعاني...محدودة، وجميع أصناف الدلالات على المعاني... خمسة أشياء، لا تنقص ولا تزيد أولها اللفظ ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال، تسمى نصبة، الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ولا تقتصر والنصبة هي على تلك الدلالات [7]الجاحظ ، فهو هنا يفضل اللغة على باقي العلامات الأخرى. أما في مسألة طرائق الإشارة وعلاقتها باللفظ وما من دلالة، فيقول الدلالة باللفظ، فأما الإشارة فباليد لرأس، وبالعين والحاجب، والمنكب إذا تباعد الشخصان، وبالثوب وبالسيف وقد يتهدد رافعا السوط والسيف فيكون ذلك زاجرا رادعا ويكون وعيدا وتحذيرا (...) والإشارة واللفظ شريكان ونعم العون له ونعم الترجمان هي عنه ، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ ، وما تغنى عن الخط»[8] أما البيان عنده فمرادف للدلالة ، وهو كل ما يكشف الغموض، سواء أكان لغة أو غير ذلك، لذلك نجده يقول : ومتى دل الشيء على معنى فقد أخبر عنه وإن كان صامتا، وأشار إليه، وإن كان ساكتا» [9]، فهذه هي الدلالة كل ما يوصل إلى معنى معين، ومعروف أن السيمائيات تبحث في أنساق الدلائل كلها.
هـ - «الغزالي» و «ابن سينا »ونظرتهما إلى العلامة :
كما بحث لغويونا وبلاغيونا في مسألة الدلالة، كذلك فعل فلاسفتنا ومفكرونا ، فهذا «أبو حامد الغزالي يقول في حديثه من المعرفة إن للأشياء وجودا في الأعيان ووجودا في اللسان ووجودا الأذهان، أما الوجود في الأعيان فهو الوجود الأصلي الحقيقي في والوجود في الأذهان هو الوجود العلمي الصوري والوجود في اللسان هو الوجود اللفظي الدليلي[10] ، ونفهم من قوله "وجود في الأعيان" أنه يشير إلى الأشياء الخارجية، والتي تسمى اليوم ،بالمرجع عند دي سوسير وبالموضوع عند «بورس» أما الوجود في الأذهان فهو ما يقابل اليوم «المدلول» عند «سوسير» وبـ «المؤول» عند «بورس»، أما الوجود في اللسان فهو «الدال» بلغة دي سوسير والممثل بلغة بورس». ويرى مبارك حنون أن هذه المراتب متطابقة متوازنة متلازمة، يتطلب كل منها الآخر»[11] ، وهذه المراتب هي مكونات، الدلالة التي يصر عليها كل السيميولوجيين المحدثين.
و يقول« ابن سينا » متحدثا عن مكونات الدلالة «إن الإنسان قد أوتى قوة حسية ترتسم فيها صور الأمور الخارجية (...) فترتسم فيها ارتساما ثانيا ثابتا وإن غابت عن الحس... ومعنى دلالة اللفظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس معنى فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه مصطفى فاسي). إذن فـ «ابن سينا" أيضا لا يهمل المرجع من العلامة اللفظية، فهو يهتم به كما يهتم باللفظ (الدال) والمعنى (المدلول)، أما الكتابة فهي عند "ابن سينا" ليس لها دورا "ضروريا (....) خلافا لأرسطو"[12].
[1] ابن منظور لسان العرب ص 308
[2] ينظر فيصل الأحمر معجم السيميائيات ص 30
[3] رشيد بن مالك السيميائية أصولوها و تطبيقاتها ص 23
[4] المرجع نفسه ص 24
[5] نصر حامد أبو زيد العلامات في التراث دراسة استكشافية. من کتاب: سيزا قاسم: مدخل إلى السيميوطيقا السيموطيقا حول بعض المفاهيم والأبعاد. ج1 ص54
[6] المرجع نفسه ص 54
[7] الجاحظ البيان والتبيين. ج 1 ص57
[8] المرجع نفسه ص ن
[9] الجاحظ:ص 60
[10] مبارك حنون: السيمياء عند العرب من مجلة دراسات أدبية ولسانية. العدد 05/ شتاء 1986ص 95
[11] مبارك حنون: 96
[12] رشيد بن مالك السيميائية أصولها وتطبيقاتها ص 25.