Section outline

  • النّقد البنيوي

    1. البنيوية : لغة واصطلاحا

      أ.البنيوية لغة:

      إنّ كلمة (البنيوية) مشتقة لغة من الفعل الثلاثي (بني)، نجدها في لسان العرب لابن منظور (ت711هـ) تتيح لنا الدلالات التالية:

    (البَنْيُ: نقيض الهدم، بَنَى البَنَّاءُ البِنَاءَ بَنْيًا وبِنَاءً وبِنًى، مقصور، وبُنْيَانًا وبِنْيَةً وبِنَايَةً وابْتَنَاه وبنّاه)، (والبناءُ: المبنيُّ، والجمع أَبْنِيَةٌ، وأَبْنِيَاتٌ، جمع الجمع..)، والبِنْيَةُ والبُنْيَةُ: ما بَنَيْتَهُ، وهو البِنَى والبُنَى..)، (يقال بِنْيَةٌ، وهي مثل رِشوة ورِشًا كأنّ البِنْيَة الهيئة الّتي بُنِيَ عليها..)، ( والبُنَى، بالضّم مقصور، مثل البِنَى. يقال: بُنْيَةٌ وبُنًى وبِنْيَةٌ وبِنًى، بكسر الباء مقصور مثل جزيةٍ وجزًى..)، (وأبْنَيُتُ الرجل: أعطيتُه بناءً أو ما يَبْتَنِي به داره..).

    كما تدّل (البنيةُ) في المعجم العربي الحديث لاروس على: (البيت: شاده وأقام جدرانه..)، (الأرض: أقام فيها البناء)، (الكلمة: ألزم آخرها ضرباً واحداً من سكون أو حركة..).

    وتجدر بنا الإشارة إلى أن القرآن الكريم استخدم هذا الأصل أكثر من عشرين مرّة على صورة الفعل (بنى) أو الأسماء (بناء) و(بنيان) و(مبنى)، يقول الله تعالى: "ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا".

    ب.البنيوية اصطلاحا:

    تشتق (البنيوية) وجودها الفكري والمنهجي من مفهوم (البنية) أصلا، وعليه قبل الشّروع في الحديث عن (البنيوية)، لا بدّ لنا من تحديد مصطلح (البنية).

               لقد واجه مصطلح (البنية) مشكلة حقيقية في الفلسفة المعاصرة، وهذا نتيجة الاختلافات النّاجمة عن تمظهرها وتجليها في أشكال متنوعة، فتعدّدت المفاهيم والتّعريفات العلمية إزاءها، ونجد - جان بياجيه - يعرّفها بقوله: "وتبدو البنية بتقدير أوّلي مجموعة تحويلات تحتوي على قوانين كمجموعة (تقابل خصائص العناصر) تبقى تغتني بلعبة التّحولات نفسها، دون أن تتعدى حدودها أو أن تستعين بعناصر خارجية".

    ويرى - ألبير سوبول Albert soboul))- في دراسته الموسومة باسم «الحركة الباطنة للبنيات» بتعريف موجز للـ« بنية»، فيقول: "إنّ مفهوم البنية لهو مفهوم العلاقات الباطنة، الثابتة، المتعلقة وفقاً لمبدأ الأولوية المطلقة للكل على الأجزاء، بحيث لا يكون من الممكن فهم أي عنصر من عناصر البنية خارجا عن الوضع الّذي يشغله داخل تلك البنية، أعني داخل المنظومة الكلية الشاملة".

    وعلى الرّغم من أنّ (سو سير) يعدّ أبا للبنيوية، إلاّ أنّه لم يستعمل كلمة (بنية) في كتابه (محاضرات في علم اللّغة العام)، بل كان يستعمل كلمة (نسق) أو (نظام).

    تنحصر (البنية) حسب - بياجيه - في ثلاثة خصائص، وهي الكلية، ومفادها أنّ (البنية) مكتفية بذاتها، ولا تحتاج إلى وسيط خارجي، بينما خاصية التّحولات فهي توضّح التّغيرات داخلها، والّتي لا يمكن أن تظل في حالة ثبات لأنّها دائمة التّحول، أمّا خاصية التّنظيم الذّاتي فهي تمكنها من تنظيم نفسها للمحافظة على وحدتها واستمراريتها.

                 ومن الصّعب تحديد مفهوم قار للبنيوية، وعليه لا يمكن إعطاء تعريف شامل ومحدّد لها، إلاّ أنّنا نجد لها تعريفات كثيرة:

                 ويعرّفها - يوسف وغليسي- بأنّها: "منهج نقدي ينظر إلى النص على أنه بنية كلامية تقع ضمن بنية كلامية أشمل يعالجها معالجة شمولية، تحوّل النّص إلى جملة طويلة، ثم تُجزئها إلى وحدات دالّة كبرى فصغرى، وتتقصى مدلولاتها في تضمّن الدّوال لها (يمثلها سوسير بوجهي الورقة الواحدة)، وذلك في إطار رؤية نسقية تنظر إلى النّص مستقلا عن شتى سياقاته، بما فيها مؤلّفه، وهنا تدخل نظرية ((موت المؤلف)) لرولان بارت، وتكتفي بتفسيره تفسيرا داخليا وصفيا، مع الاستعانة بما تيسّر من إجراءات منهجية علمية كالإحصاء مثلا".

    أمّا من النّاحية العلمية أو الفلسفية فيعرّفها - آندري لالاندAndré Lalande  - بأنّها مجموعة من العناصر تكون متضامنة فيما بينها، ويكون كلّ عنصر فيها متعلّقا بالعناصر الأخرى، ولا يستطيع أن يكون ذا دلالة إلاّ في نطاق هذا الكلّ، وعليه تكون البنية نسقا من الظّواهر، ومرتبطة فيما بينها ارتباطا وثيقا بعلاقات محدّدة.

    2. روافد البنيوية:

    أ.مدرسـة جـنيـف:

    إنّ الأعـلام المـؤسّسيـن لمدرسة جنيف هم " من الّذين تتلمذوا على يد دي سوسير بطريقة مباشرة، وكان لهم الفضل الكبير في جمع دروسه، وإخراجها للإنسانية، ومن أبرز أعلام هذه المدرسة شارل بالي (C. Bally) ،وسيشهاي (Sechehayالّلذان جمعا محاضرات أستاذهما ونشراها، وكانت لهما اهتمامات خاصة بقضايا اللّغة، ممّا جعلهما ينفردان بوجهات نظر متميزة"، و"هي الّتي أعطت الشّرارة الأولى للبنيوية (والفكر الألسني عموما)".

    ب . مدرسـة الشّكلانييـن الــرّوس:

    تعّد مدرسة الشّكلانيين الرّوس الرّافد الثّاني من روافد البنيوية، وتتشكّل هذه المدرسة من حلقة موسكو اللّغوية، والّتي تأسّست سنة 1915، وجماعة الأوبوياز، واسمها الكامل"جمعية دراسة اللّغة الشّعرية".

    أوّلا : حلقـة موسكــو اللّغويـة (1915- 1920)

    تأسّست الحلقة "في آذار 1915، بجامعة موسكو بزعامة رومان جاكبسون الّذي يعزى إليه تأسيس هذا "النادي اللّساني" رفقة ستّة طلبة. ومن أعضائها عالم الفلكلور السّلافي  بيوتر بوغاتريف P.Bogatyrev، والعالم اللّغوي غروغوري  فينوكور (G.Vinokur)، ومنظّرا الأدب ومؤرّخاه: أوسيب بيرك(O.Birk)، وبوريس توماشيفسكي(B. Tomashevsky)، وقد نذكر كذلك ميخائيل باختين  M. Bakhtine( 1895-1975) الّذي كان من رؤوس هذه الحلقة، ثم تبرّأ منها بعد ذلك نتيجة انتمائه السّياسي واختلافه الفكري؛ حيث يحاول المصالحة بين الشّكلانية والماركسية، مثلما نذكر فلاديمير بروب  V. Propp(1895-1970)، صاحب الأثر الخالد (مورفولوجية الحكاية الشّعبية) 1928، بغض النّظر عن حقيقة انخراطه ضمن هذا التنظيم...".

    ثانيا : جـماعـة الأوبــوياز "Opoyaz" (1916)

    تُعني هذه التّسمية المختصرة (جمعية دراسة اللّغة الشّعرية) الّتي تأسّست سنة 1916 بمدينة سان بيترسبورغ، ومن أعضائها:

    نجد - فيكتور شكلوفسكي-  v.chklovsky(1893- 1984)، و- بوريس إيخامبوم-  B.Eichenbaum ( 1866 -1959) ، و- ليف جاكوبنسكي- L.jakubinsky، وهي في الأصل مُشكّلة من جماعتين منفصلتين: دارسي اللّغة المحترفين وباحثين في نظرية الأدب.

    ج. حلقـة بــراغ "Cercle de Prague"  (1926 – 1948 ):

    حلقة براغ أو "البنيوية التّشيكية"، وهي المصدر الثّالث للبنيوية "تأسّست بمبادرة من زعيمها فيليم ماتيسيوس (V.Mathesius) من أعضائها التّشيكوسلوفاكيين (هافرانيك، تروكا، فاشيك، موكاروفسكي)، فضلا عن رينيه ويليك (من مواليد 1903 بفيينا لأبوين تشيكيين) وكذلك جاكبسون ونيكولاي تروبتسكوي الفارين من روسيا".

    ومع أنّ حلقة براغ "اشتهرت بدراساتها الصّوتية الدّقيقة، فإنّها أسهمت أيضا في تحليل لغة الشّعر، فرأت أنّه لا بد لوضع مبادئ وصف لغة الشّعر من مراعاة الطّابع الثّابت المستقل لها، تفاديا لخطأ شائع يتمثّل في الخلط الدّائب بينها وبين لغة التّواصل، والتّفاهم العادية، إذ تتميّز اللّغة الشّعرية بأنّها تكتسب صفة الكلام من حيث هي عمل فردي يعتمد على الخلق والإبداع...". و"كانت هذه الحلقة باعثا على نشوء حلقات لغوية أخرى قدمت ميراثا بنيويا معتبرا، مثل: حلقة كوبنهاغن (يامسليف وبروندال...) سنة1931، وحلقة نيويورك (سابير، بلوم فيلد، تشومسكي، ...) سنة 1934...".

    د. جـماعـة  "  Tel Quel" (1960):

           إنّ الحركة البنيوية في فرنسا "لم تزدهر إلا خلال السّتينيات، مع الجهود الرّائدة لجماعة( (Tel Quel، الّتي تنتسب إلى المجلة الّتي تحمل التّسمية نفسها، والّتي أسّسها النّاقد الرّوائي فيليب صولر - Philipe sollers (من مواليد 1936)، سنة 1960، وضمّت عُصبة من رموز النّقد الفرنسي الجديد، كزوجته الفرنسية ذات الأصل البلغاري جوليا كريستيفا Julia Kristeva  (من مواليد 1941)، ورولان بارت Roland Barthes              (1915-1980)، وميشال فوكو Michel foucault (1926-1984)، وجاك دريدا Jack derrida (من مواليد الجزائر 1930)"...

    3.أسـس النّـزعـة البنيـوية الغـربية:

    تقوم النّـزعة البنيوية الغريبة كغيرها من المناهج النّقدية الأخرى، على جملة من الأسس الفكرية والفلسفية والإيديولوجية الّتي تميـّزها عن المناهج الأخرى، وهي كالآتي:

    أ.النـّزوع إلى الشّكـلانية : 

    تعتبـر الشّكلانية (formalisme) مذهب أدبيّ ونقديّ، وقد برز هذا التّيار بقوّة في بداية  القرن الماضي، أخذت تتطــوّر مع مـرور الزّمن وتُراكم الدّراسات، وقد قامت بـدور ريادي في التّأسيس النّقدي الجديد، وقد مثّلته في العصر الحديث مناهج نقدية متعدّدة وهي:

    -     مدرسة الشّكليين الرّوس.

    -     مدرسة النّقد الحديث في الغرب.

    -     النّقد الألسني: ومثّلته الأسلوبية، والبنيوية، والتّفكيكية، ونظرية التّلقي، ونظرية النّص.

     ب.رفـض التــّاريخ:

    تقوم النـّزعة الاجتماعية الّتي كان روج لها المفكر الفرنسي هيبوليت تين (1893-1828، hyppolyte taine) الّذي كان يعتقد أنّ الظاهرة الأدبية والفنية يجب أن تخضع في تأويل قراءتها، وتحليل مضمونها: على ثلاثة عناصر تتمحّص للمؤلّف وما يحيط به وهي:

    1-         العرق (ويريد بها إلى عرق الكاتب وأصله السلالي).

    2-         الوسط أو المحيط الجغرافي و الاجتماعي للكاتب.

    3-         الزّمن ( ويقصد بها إلى التّطور التّاريخي الّذي يقع تحت دائرته الكاتب وهو يكتب إبداعه، ومثله في ذلك الفنان أيضا).

    ج. رفــض المؤلف:

    إنّ فكرة موت المؤلف ترتدّ في مصدرها الغربيّ، إلى جذور فلسفية تمتد إلى بنية الحضارة الأوروبية نفسها: "فقد أعلن « نيتشة » مقولة « موت الإله » ولاقت هذه الفكرة ترحيبا شديدا في الأوساط الأدبية والفكرية، لأنّها كانت تعبيرا عن اللّحظة التّاريخية، الّتي تمرّ بها أوروبا في ذلك  الحين". وقد انتقلت إلى الأدب ونقده "فأعلن الأدباء موت الشّخصية في مجال الأدب، وأعلن النّقاد موت المؤلف في مجال النّقد، وغير ذلك من المسمّيات، ترتدّ في جملتها إلى مقولة « نيتشة» الفلسفية وتعكس بنية الحضارة الأوروبية".

    د. رفـض المـرجـعـيـة الاجـتـمـاعيـة:

    يعتبر المنهج الاجتماعي من المناهج الأساسية في الدراسات الأدبية والنّقدية، وقد انبثق هذا المنهج - تقريبا - في حضن المنهج التّاريخي، واستقى منه منطلقاته الأولى خاصّة عند هؤلاء المفكرين والنّقاد الّذين استوعبوا فكرة تاريخية الأدب وارتباطها بتطورات المجتمعات المختلفة، أي أنّ المنطلق التّاريخي، كان هو الأساس الطّبيعي للمنطلق الاجتماعي. وقد أسهمت "نظرية الانعكاس الّتي طوّرتها الواقعية في تعزيز هذا التّوجّه الاجتماعي لدراسة الأدب، لكن المشكلة الأولى الّتي واجهت الدّراسات الّتي تربط بين الأدب والمجتمع كانت تتمثّل في فرضية مُؤدّاها أنّه كلما ازدهر المجتمع في نظمه السّياسية والاقتصادية وفي ثقافته وإنتاجه الحضاري نشب نوع من التّوقّع بأنّ هذا لا بدّ أن يصحبه - أو من  الطّبيعي أن يصحبه ازدهار أدبي". 

    ه. رفـض الـمعـنى مـن اللّغـة:

    لقد خاض النّقاد والبلاغيون العرب القدامى، حول ما عُرف في النّظرية البلاغية العربية بثنائية اللّفظ و المعنى، و" أنّ مسألة الفصل بين اللّفظ والمعنى لم تبق حبيسة الدّراسات القرآنية  إنّما انتقلت إلى مجال النّقد الأدبي، لتصبح من قضاياه الرّئيسية الّتي حظيت باهتمام كبير من النّقاد، لأنّ الدّراسات الجمالية للقرآن في إطار بحث قضية الإعجاز خصوصا، لم تكن منفصلة، في الواقع عن كلام العرب، والشّعر منها خاصة ". ومنذ أن طرح الجاحظ (ت255هـ)، نظريته المعروفة "...والمعاني مطروحة في الطّريق يعرفها العربيّ والأعجمي والبدوي والقروي، وإنّما الشّأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللّفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطّبع، وجودة السّبك، فإنّ الشعر صناعة وضرب من النّسج وجنس من التّصوير... ".

    4. مستويات النّقد البنيوي:

    يقترح بعض النّقاد ترتيب مستوياته على النّحو الآتي:

    ·      المستوى الصّوتي: حيث تدرس الحروف ورمزيّتها وتكويناتها الموسيقية من نبر وتنغيم وإيقاع.

    ·      المستوى الصّرفي: وتدرس فيه الوحدات الصّرفية ووظيفتها في التّكوينين اللّغوي والأدبي خاصة.

    ·      المستوى المعجمي: و تدرس فيه الكلمات لمعرفة خصائصها الحسّية والتجريدية والحيويّة و المستوى الأسلوبي لها.

    ·      المستوى النّحوي: لدراسة تأليف وتركيب الجمل و طرق تكوينها وخصائصها الدّلالية  و الجمالية .

    ·      مستوى القول: لتحليل تراكيب الجمل الكبرى لمعرفة خصائصها الأساسية والثّانوية.

    ·      المستوى الدّلالي: الّذي يشغل بتحليل المعاني المباشرة وغير المباشرة والصوّر المتصلة بالأنظمة الخارجية عن حدود اللّغة الّتي ترتبط بعلوم النّفس والاجتماع، وتمارس وظيفتها على درجات في الأدب و الشّعر.

    المستوى الرّمزي: الّذي تقوم فيه المستويات السّابقة بدور الدّال الجديد الّذي ينتج مدلولا جديدا يقود بدوره إلى المعنى الثّاني أو ما يسمى باللّغة داخل اللّغة.