Résumé de section

  • المحاضرة الأولى:  مدخل إلى موضوع المواطنة

     

     

     

    مقدمة:

                تعدّ المواطنة من المفاهيم السّياسية المعاصرة في الفكر الغربي، وكانت إلى زمن غير  بعيد تعني الاشتراك مع الآخرين في حيز جغرافي يسمى الوطن، بحيث يطغى على هذا الاشتراك طابع الشعور العاطفي الّذي يحرك الإنسان في نشاطاته  وعلاقاته مع الآخرين، ومع مرور الوقت تغيرت النظرة إلى مفهوم المواطنة، حيث أصبحت هذه الأخيرة مصدرا لنشأة أنواع  من العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين المواطنين. ولم تأخذ المواطنة معناها الحديث إلا بعد ظهور وتكوين الكيانات السياسية، وهو ما ساهم  في تطور معناها من اشتراك المواطنين في الشعور العاطفي اتجاه الكيان إلى الاشتراك في مجتمع سياسي وما ينتج  عن ذلك  من حقوق وواجبات.

                            1.نشأة المواطنة في الغرب:

                            استقر مفهوم المواطنة في الفكر السياسي المعاصر كمفهوم تاريخي شامل ومعقد، لأن الفكر السياسي  إنما ينتج انطلاقا من حراك اجتماعي معقد تتحكم فيه السيرورة التاريخية، لذا تتخذ إنتاجاته القانونية والثقافية، كما أن ترجمة الانتاج الحضاري عمليا من خلال الدولة، يتخذ أبعادا متشابكة يصعب مها نفي حضور مجموع القيم المشكلة لتلك الحضارة، بما فيها العقائد والمتغيرات السوسيوثقافية، والمتغيرات العالمية. من خلال التجربة السياسية الغربية يمكن رصد ثلاثة تحولات متداخلة ومتكاملة، شهدتها الأوضاع السياسية لهذه التجربة، استطاعت لقوتها أن تحول بعض مرتكزات بناء الدولة، وأن تزرع أسسا سياسية أرست مبدأ المواطنة:

                أ.التّحول الأوّل: جاء مع نهاية الحروب الدينية بإقرار معاهدة وستفاليا سنة 1648م، وهو اسم يطلق على معاهدتي السلام بمدينتي أوسنابرك ومونستر بألمانيا التي أنهتا حرب الثلاثين عاما في الإمبراطورية الرومانية، وأخمدتا حرب الثمانين عاما بين إسبانيا ودول المقاطعات السبع المنخفضة المتحدة، أو فيما بعد هولندا. وقعها مندوبون عن كل من الإمبراطور الروماني فرديناند الثالث (1637م-1657م)، ومماليك فرنسا وإسبانيا والسويد وجمهورية هولندا والإمارات الكاتوليكية والبروتستانتية التابعة للإمبراطورية الرومانية. وتعتبر هذه المعاهدة أول اتفاقية دبلوماسية في العصر الحديث أرست نظاما جديدا في أوروبا الوسطى والغربية مبنيا على مبدأ سيادة الدول. فأصبحت مقررات هذه المعاهدة جزءا من القوانين الدستورية للإمبراطورية الرومانية.

    ب.التّحول الثّاني: فقد تجسد في إقرار المشاركة السياسية، وما شهده بدوره من تطور وتوسع، صاحبه تداولا للسلطة سلميا.

    ج.التّحول الثّالث: يتجلى في سمو القانون، وشموله لسائر المواطنين، وما أنتجه الفكر السياسي الغربي من مؤسسات، أو ما أطلق عليه مؤسسة السلطة السياسية في ظل الدولة القومية الحديثة.

    2. نشأة المواطنة في الإسلام:

    تطرح فكرة المواطنة في السياق الإسلامي إشكال النموذج التصوري للدولة، على الرغم من أن مصطلحي  الدولة والمواطن، لم يتم تداولها بالشكل إلا بعد نجاح الثورة الفرنسية سنة  1789م، لأن مفهوم الدولة قبل ذلك كان على أبعاد يحضر فيهما الدين والعرق بقوة. حتى تقلصت سلطة الكنيسة، وسطوتها على الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية في أوروبا في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، فتطور مفهوم المواطنة ليهل الوازع الديني في إشكالية الانتماء لدولة واحدة، لترسيخ الصرح لفَنُّ الديمقراطي الذي أصبح الميزة الأولى في بناء دولة عصرية متطورة.

    والمتتبع لأحداث التاريخ الإسلامي يتبين أن الفكر الإسلامي كان سباقا للتأصيل لمبادئ المواطنة، ويظهر هذا في تلك الوثيقة المكتوبة التي عرفت باسم دستور المدينة، أو ما يطلق عليها الصحيفة وهي الأساس في المرحلة الأولى لنشأة الدولة الإسلامية في حقوق الحاكم وحقوق الرعية وتنظيم المجتمع والدولة، وكذلك تتردد في نصوص السنة المطهرة كلمات: الراعي، والرعية، والبيعة، والإمارة، والطاعة للأمير، وفيها تشريعات في حقوق الحاكم ومسئوليته، وحقوق الأفراد، وحرياتهم، والسيادة، والسلم، والحرب، والمعاهدة، والقضاء والشورى، ومركز الأقليات الدينية، وغير ذلك مما يدخل في صميم الأحكام الدستورية، والسياسية بالمصطلح المعاصر. ومعنى ذلك: أن السنة إنما أيضًا مثل القرآن الكريم تعتبر مصدرًا من مصادر الأحكام الدستورية والسياسية في الدولة الإسلامية؛ لأنه كما قلنا: ذكرت أمور هي من صميم النواحي الدستورية والسياسية -كما قلنا- مثل: الإمارة والطاعة للأمير وغير ذلك وحقوق الأفراد وحرياتهم وعلاقة المسلمين بغيرهم في السلم والحرب وغير ذلك.

    وهذه الصحيفة في الأصل صحيفتان (وثيقتان): أحدها يختص بالمهاجرين والأنصار، والأخرى بالمسلمين من جهة واليهود من جهة أخرى، والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، ثم قررت الصحيفة أن هؤلاء أمة دون الناس، والأمة مجموعة أحلاف؛ إذ إن الأفخاذ والقبائل تركت كما كانت وأصبحت أعضاء في الأمة وعد المهاجرين فخذا واحدا، وأما الفرد فيشارك في الأمة مشاركة مباشرة عن طريق الفخذ والقبيلة وعلاقة الفخذ بالأمة تتضح في أنه يدفع النفقات غير الخاصة كالدين وفداء الأسرى كما كان من قبل؛ إذ لم يكن يوجد خزينة مركزية أنذاك؛ ولذا نصت الصحيفة إنهم أمة واحة من دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم فيتعاقلون بينهم . وكلمة (الأمة) شملت أيضا طوائف المدينة الأخرى كاليهود، وإن كانوا لا ينتمون إليها انتماء وثيقا كالمهاجرين والأنصار؛ ولذلك لم تقع عليهم نفس الواجبات وليس لهم نفس الحقوق. فجعلت هده الوثيقة غير المسلمين المقيمين بالمدينة مواطنين في الدولة الإسلام مواطنين فيها، لهم من الحقوق، وعليهم من واجبات المواطنة.

    3- أصول المواطنة في الإسلام: يقوم التأصيل الشرعي لمفهوم المواطنة على المبادئ والقواعد التالية:

    أ- الأخوة: الأخوّة والمؤاخاة في الله سبحانه، حيث جعل الإسلام هذا النّوع من الأخوّة فوق كلّ أخوّة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ. وقد جعل الإسلام هذا التّآخي من كمال الإيمان، حيث جعله رابطة قويّة بين المسلم وأخيه المسلم، ومن كمال الإيمان أن يحبّ المسلم لأخيه ما يحبّ لنفسه.و التّآخي في الله مسئوليّة يتقلّدها كلّ مسلم ويحافظ عليها بأمر الله تعالى، وبقدر المحافظة على هذه الأخوّة تكون قوّة الإيمان.

    والأخوّة في الإنسانيّة بحكم أنّ الإنسان مهما اختلفت عقيدته هو أخ للإنسان عليه أن يتوجّه إليه بالدّعوة لهدايته وتزكيته. وهذا من أهمّ خصائص المنهج القرآنيّ.وللأخوّة مكانة سامية في الإسلام، تحقّق عدّة فوائد مهمّة للفرد والمجتمع الإسلاميّ والعالميّ، منها:

    - تحقيق التّماسك والتّرابط في المجتمع الإسلاميّ، حيث تربط الأخوّة بين الأفراد وتشدّ من أواصر الصّلة والمحبّة والتّعاون والتكافل الاجتماعي، وتحقيق العدل في المجتمع الإسلاميّ لأنّها تبنى المجتمع على أساس من علاقات اجتماعيّة سليمة..

    - حماية المجتمع الإسلاميّ من أشكال الانحراف، ومن أمراض الضّعف الحضاريّ، بحيث يستمرّ هذا المجتمع في قوّته وعطائه.

    - تحقيق التّوازن الاجتماعيّ، بتحقيق معنى الأخوّة السّامي، فلا يستشعر الفرد المسلم ألم الفوارق بين المسلم وأخيه المسلم سواء كان ذلك الفارق في المال أو في الجاه أو في غير ذلك، ممّا يحقّق توازنا بين الفئات الاجتماعيّة.

    - توفير اشتراك أفراد المجتمع كلّهم في اتّجاه واحد، من أجل القيام بوظيفة معيّنة ذات غايات محدّدة هي الغايات الإسلاميّة. معنى هذا أنّ أغلى وأسلم أخوّة هي تلك الأخوّة الّتي يربط بينها رباط العقيدة الصّحيحة.

    - تحقيق صالح المجتمع، حيث لا تتضخّم الذّوات الإنسانيّة على حساب هذا الصّالح، وفي أحداث التّاريخ الإسلاميّ البرهان على ذلك.

    ب- وحدة المصالح والآمال والآلام: أكد الإسلام أن نظام الحقوق والواجبات في الدولة الإسلامية ينبغي أن تتم وفق مصالح المسلمين، وواقع المسلمين؛ ولذلك كان من فضل الله علينا أن تركت هذه الأمور، وفيها مجال للاجتهاد من أجل تحقق المصلحة العامة، هذه الأمور المتعلقة بعلاقة الحاكم بالمحكومين، وبتحديد سلطة الحاكم، وبيان حقوقه، وواجباته، وحقوق الرعية، وواجباتها، وبيان السلطات المختلفة، ووظيفة كل سلطة من هذه السلطات هو ما تشمله مادة تسمى -في الفقه الإسلامي- نظام الحكم في الإسلام.

    والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، هذه هي أهم الشروط التي قالها الفقهاء، لكن الحقيقة الإمام مالك توسع في هذا الأمر، وقال: ليس بلازم أن تكون المصلحة كلية ضرورية قطعية، يقول: المهم توجد مصلحة؛ فإذا وجدت هذه المصلحة العامة؛ ففي هذه الحالة تقدم على المصلحة الخاصة، ولما كانت الشريعة الإسلامية تجعل المصلحة المرسلة مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامي، وذلك لأن المصلحة يمكن أن تغطي الوقائع المتجددة، والمصالح غير المتناهية، وهو ما تقصر عنه النصوص؛ لأنها متناهية.

    جـ- العدل: هو عبارة عن جملة من الفضائل، فإنه مهما كان بين الملك وجنده ورعيته ترتيب محمود، بكون الملك بصيرا قاهرا، وكون الجند ذوي قوة وطاعة، وكون الرعية ضعفاء سلسي الانقياد، قيل: إن العدل قائم في البلد. ولن ينتظم العدل بأن يكون بعضهم بهذه الصفات دون كلهم، وكذلك العدل في مملكة البدن بين هذه الصفات. والعدل في أخلاق النفس يتبعه لا محالة العدل في المعاملة والسياسة، ويكون كالمتفرّع منه. ومعنى العدل الترتيب المستحب، إما في الأخلاق، وإما في حقوق المعاملات، وإما في أجزاء ما به قوام البلد. والعدل في المعاملة أن يأخذ ما ليس له، والتغابن أن يعطي في المعاملة ما ليس عليه حمد وأجر. والعدل في السياسة أن ترتب أجزاء المدينة الترتيب المشاكل لترتيب أجزاء النفس، حتى يكون المدينة في ائتلافها وتناسب أجزائها، وتعاون أركانها على الغرض المطلوب من الاجتماع، كالشخص الواحد، فيوضع كل شيء موضعه، وينقسم سكانه إلى مخدوم لا يخدم وإلى خادم ليس بمخدوم، وغلى طبقة يخدمون من وجه، ويخدَمون من وجه آخر،. ولا يكتنف العدل رذيلة الجور المقابلة له، إذ ليس بين الترتيب وعدم الترتيب وسط، وبمثل هذا الترتيب والعدل قامت السموات والأرض حتى صار العالم كله كالشخص الواحد، متعاون القوى والأجزاء.

    د- الاجتماع: بطبع الإنسان أنه مفطور على العيش مع بني جنسه للاستئناس والتعاون على المصالح الدينية والدنيوية، وقد دعا الإسلام إلى حسن التعامل مع الإنسان، من أجل الألفة والتعاون والتعارف، فطبع الإنسان مدني، فلا يمكن أن يعيش وحده. قال تعالى: "ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" سورة الحجرات، الآية 13.  وقوله أيضا: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" سورة آل عمران، الآية 103.