المحاضرة الثّالثة : مفهوم المواطنة ومقوماتها
Section outline
-
المحاضرة الثّالثة : مفهوم المواطنة ومقوماتها
1.مفهوم المواطنة:
أ.المواطنة لغة: يشتق مصطلح المواطنة من الوطن، والوطن في معجم لسان العرب هو: "المنزل الذي يقيم به، والجمع أوطان. وأوطان الغنم والبقر مرابطها، وأماكنها تأوي إليها، ومواطن مكة مواقعها". وطن يطن وطنا: أقام به. وطن البلد: اتخذه وطنا. توطن البلد: اتخذه وطنا، وجمع الوطن أوطان: منزل إقامة الإنسان ولد فيه أم لم يولد، مواطنة: مصدر الفعل واطن بمعنى شارك في المكان إقامة ومولدا.
فقد تطوّر مفهوم الوطن عند العرب، فلم يعد مجرد تاريخ وجغرافيا. بل أصبح مكونا للذات ، ومساهما عضويا في خلق الأنا والنحن، وأصبح واهبا للمفاهيم التي ننظر بها إلى أنفسنا وإلى العالم. أي أصبح مرادفا للثقافة.
ب.المواطنة اصطلاحا: أما المواطنة في الاصطلاح فهي بأبسط معانيها: " إلتزامات متبادلة بين الأشخاص والدولة. فالشخص يحصل على حقوقه المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية نتيجة انتمائه لمجتمع معين، وعليه في الوقت ذاته واجبات يتحتم عليه آداؤها".
أما التعريف القانوني للمواطنة هي: "أن تكون عضوا في مجتمع سياسي معين أو دولة بعينها. القانون يؤسس الدولة ويخلف المساواة بين مواطنيها، ويرسي نظاما عاما من حقوق وواجبات تسري على المجتمع دون تفرقة. وعادة ما تكون رابطة الجنسية معيارا أساسيا لتحديد من هو المواطن في الدولة. وتجعل شرط حيازتها سواء أكانت أصلية أم مكتسبة للتمتع بكل الحقوق والحريات المدنية والسياسية".
وتترتب على المواطنة القانونية - أي حمل جنسية دولة ما - ثلاثة أنماط من الحقوق والواجبات : السياسية والمدنية والاقتصادية الاجتماعية. تشمل الحقوق السياسية الحق في الانتخاب، والترشح، والتنظيم. وأهم الواجبات دفع الضرائب المستحقة على كل مواطن وفق القوانين والإجراءات الضريبية المعمول بها. وتتضمن الحقوق المدنية كلا من الحريات الشخصية، والحق في الأمان والخصوصية والاجتماع، والحصول عن المعلومات، فضلا عن حرية الاعتقاد والتعبير. وحرية تشكيل تنظيمات مدنية مثل: الجمعيات والنقابات والمنظمات الغير حكومية، وحرية الانتقال والحركة والمقاومة السلمية، والحق في محاكمة عادلة. ولا ترتبط الحقوق الاقتصادية الاجتماعية بالحق في الملكية، ولكنها تمتد إلى الحقوق المرتبطة بممارسة العمل مثل: الحصول على أجر عادل، وعطلة دورية، والحق في الإضراب والتفاوض الجماعي.
وذهب البعض إلى أن المواطنة مصطلح مستحدث في اللغة العربية للتعبير عن الكلمة الإنجليزية citizenship. أما عن تعريف المواطنة في الموسوعة العربية العالمية فهي: "اصطلاح يشير إلى الانتماء إلى أمة أو وطن". وتعرف دار المعارف البريطانية المواطنة بأنها: "علاقة بين الفرد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من حقوق وواجبات متبادلة في تلك الدولة ".
وعليه يتوجب وجود سلطة قضائية مستقلة في تلك الدولة قادرة على حماية حقوق الأفراد من أي اعتداء عليها، أو سلبها أو انتقاصها سواء من جانب مختلف أجهزة الدولة، أو على يد الأفراد أنفسهم في علاقة بعضهم ببعض. هذا إلى جانب منظمات فاعلة للمجتمع المدني وبالأخص المنظمات الحقوقية والإعلامية التي تنهض دائما على حماية حقوق الأفراد، وصيانتها، والكشف عن جميع صور الانتهاك الذي قد يتعرضون له.
2. مقومات المواطنة: المواطنة ليست وضعية جاهزة يمكن تجليها بصورة آلية عندما تتحقق الرغبة في ذلك، وإنما هي سيرورة تاريخية، ودينامكية مستمرة، وسلوك يكتسب عندما تتهيأ له الظروف الملائمة، وهي ممارسة في ظل مجموعة من المبادئ والقواعد، وفي إطار مؤسسات وآليات تضمن ترجمة مفهوم المواطنة على أرض الواقع، وإذا كان من الطبيعي أن تختلف نسبيا هذه المتطلبات من دولة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر بسبب اختلاف الثقافات والحضارات، والعادات والقيم، ومستوى النضج السياسي، فإنه لا بد من توفر مجموعة من المقومات الأساسية المشتركة، ووجود حد أدنى من الشروط التي يتجلى من خلالها مفهوم المواطنة في الحياة اليومية للأفراد، وفي علاقاتهم بغيرهم، وبمحيطهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ومن أهم مقومات المواطنة نخص بالذكر:
أ.المساواة وتكافؤ الفرص: لا تتحقق المواطنة إلا بتساوي جميع المواطنين والمواطنات في الحقوق والواجبات، وتتاح أمام الجميع نفس الفرص، ويعني ذلك التساوي التام أمام القانون، الذي يعد المرجع الوحيد في تحقيق تلك الحقوق والواجبات، وإذا كان التساكن والتعايش والتعاون من العناصر الأساسية التي يفترض توفرها بين المشتركين في الانتماء لنفس الوطن. فإنها تهتز في حالة عدم احترام مبدأ المساواة، مما يؤدي إلفى تهديد الاستقرار، لأن كل من يشعر بالحيف، أو الحرمان دون حق مما يتاح لغيره، وتغلق أبواب الانصاف في وجهه، يصبح متمردا على قيم المواطنة، ويكون بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار بأي شكل من الأشكال.
والوطن التي تتعدد أصول مواطنيه العرقية، وعقائدهم الدينية، وانتماءاتهم الثقافية والسياسية، لا يمكن ضمان وحدته واستقراره إلا على أساس مبدأ المواطنة الذي يرتكز على منظومة قانونية وسياسية واجتماعية وأخلاقية متكاملة، والمساواة كمقوم رئيسي للمواطنة، تعني أنه لا مجال للتمييز بين المواطنين على أساس الجنس، أو اللون، أو الأصل العرقي،/ أو المعتقد الديني، أو القناعات الفكرية، أو الانتماء والنشاط السياسي والنقابي والجمعوي. واختلاف الفئات واتماءاتها وصفاتها لا يجعل أيا منها أكثر حظا من غيرها في الحصول على المكاسب والامتيازات، كما لا يكون سببا في انتقاص الحقوق، أو مبررا للاقصاء، والتهميش، وحسن تدبير الاختلاف والتعدد لا يتم إلا في إطار المواطنة التي تضمن حقوق الجميع، وتتيح لكل المواطنين والمواطنات القيام بواجبهم، وتحمل المسؤوليات في وطنهم على أسس متكافئة. فلا يمكن إلغاء الصفات والانتماءات والمعتقدات وغيرها من خصوصيات بعض الفئات، وإنما يقوم على احترامها، وإتاحة لها فرص المشاركة في اغناء الوطن، وتنمية رصيده الثقافي والحضاري.
ولضمان مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع أفراد الوطن الواحد، وفي المجتمع الذي تتناقض فيه المصالح والأغراض، فإنه لا بد من وجود ضمانات قانونية، وقضاء مستقل وعادل يتم اللجوء إليه من قبل كل من تعرضت حقوقه للمس أو الانتهاك.
ب.المشاركة في الحياة العامة: لتمكين المواطنين والمواطنات من المشاركة الفعلية في الحياة العامة، لا بد من توفر استعدادات حقيقية لذى المشاركين في الانتماء إلى الوطن، وهذه الاستعدادات لا تتوفر إلا في حدود ضيقة في ظروف قمع الحريات، ومصادرة الفكر المتحرر من التبعية والخنوع، وفي ظل الأنظمة التي الأنظمة التي تناهض العمل السياسي الذي يحمل رؤية انتقادية، أو موقف معارض للحكام والسياسات المتبعة، ففي مثل هذه الظروف التي تعرفها المجتمعات عموما، والعربية خصوصا، يلاحظ انزواء كثير من الكفاءات، وبروز الفردانية، والابتعاد عن المشاركة في الحياة العامة، والنفور من العمل السياسي، وغير ذلك من الظواهر المناقضة للمواطنة. فالأنظمة القمعية ولو اختفت وراء ديمقراطيات شكلية مسؤولة من تقليص فرص المشاركة، ومدمرة لقيم المواطنة، ولا يأتي نمو استعداد المواطنين والمواطنات للمشاركة في الحياة العامة إلا في ظل حرية الفكر والتعبير، وحرية الانتماء والنشاط السياسي والنقابي والجمعوي، وفي إطار الديمقراطية التي يكون فيها الشعب هو صاحب السيادة، ومصدرا لجميع السلطات.
والمشاركة في الحياة العامة تعني إمكانية لولج جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية متاحة أمام الجميع دون أي تمييز، بدءا من استفادة الأطفال من الحق في التعليم والتكوين على المواطنة وحقوق الإنسان، واستفادة عموم المواطنين من الخدمات العامة، مرورا بحرية المبادرة الاقتصادية، وحرية الابداع الفكري والفني، وحرية النشاط الثقافي والاجتماعي، وانتهاء بحق المشاركة في تدبير الشأن العام بشكل مباشر كتولي المناصب العامة وولوج مواقع، أو بكيفية غير مباشرة كالانخراط بحرية في الأحزاب السياسية، وإبداء الرأي حول السياسات المتبعة، والمشاركة في انتخاب أعضاء المؤسسات التمثيلية على المستوى المحلي والوطني والمهني. وهذا ما يضمن فعالية النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويضفي الحيوية على المشهد الوطني، مما يساهم في خلق واقع ينشد التطور المتواصل والارتقاء المستمر.
ج.الولاء للوطن: يعني أن الرابطة التي تجمع المواطن بوطنه تسمو على العلاقات القبلية والعشائرية والحزبية، ولا خضوع فيها إلا لسيادة القانون. وأن هذه الرابطة لا تنحصر في مجرد الشعور بالانتماء، وما يطبع ذلك من عواطف، وإنما تتعدى إلى جانب الانتماء الوجداني، وذلك في إدراك واعتقاد المواطن بأن هناك التزامات وواجبات نحو الوطن لا تتحقق المواطنة دون التقيد الطوعي بها. فلا تكفي وجود ترسانة من القوانين والمؤسسات التي تتيح للفرد التمتع بحقوقه والدفاع عنها في مواجهة أي انتهاك، واستردادها إذا سلبت منه. بل يجب تشبع المواطن بقيم المواطنة وثقافة القانون.
ويعني الولاء للوطن شعور كل مواطن أنه معني بخدمة الوطن، والعمل على تنميته والرفع من شأنه، وحماية مقوماته الدينية واللغوية والثقافية والحضارية، والشعور بالمسؤولية عن المشاركة في تحقيق النفع العام، والالتزام باحترام حقوق وحريات الآخرين، واحترام القوانين التي تنظم علاقات المواطنين فيما بينهم، وعلاقاتهم بمؤسسات الدولة والمجتمع، والمساهمة في حماية جمالية ونظافة المدينة أو القرية التي يقيم بها، وحماية البيئة فيها، والمشاركة في النفقات الجماعية، والانخراط في الدفاع عن القضايا الوطنية، والتضامن مع باقي المواطنين والهيئات والمؤسسات الوطنية في مواجهة الطوارئ والأخطار التي قد تهدد الوطن في أي وقت، والاستعداد للتضحية من أجل استقلال الوطن، والارتكاز على مبدأ اعتبار المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار، وأسمى من كل المصالح الذاتية الخاصة والأغراض الفئوية الضيقة.
والولاء للوطن لا ينحصر في المواطنين المقيمين داخل حدود التراب الوطني، وإنما يبقى في وجدان وضمير وسلوك المواطنين الذين اضطرتهم الظروف للإقامة في الخارج، لأن مغادرة لأي سبب من الأسباب، لا يعني التحلل من الالتزامات والمسؤوليات التي تفرضها المواطنة، وتبقى لصيقة بالمواطن تجاه وطنه الأصلي حتى ولو اكتسب الجنسية في دولة أخرى.