Section outline

  •  

     

     

    التفلسف في الحياة الاجتماعيةالفلسفة والمجتمع:

    أوسع المؤرخين اطلاعا على فكر الحضارات القديمة لم يجد في الفكر الشرقي أسساً واضحة لفكر فلسفي متماسك ،وإنما هي وصايا وتعاليم تميل إلى الزهد وتقديس التراث وعدم الخروج والتمرد على الحكماء  والآباء، فهي تعاليم أخلاقية محضة تسعى خاصة عند بوذا لإقناع الناس بإماتة الرغبات  والترفع عن الغريزة ونكران الملذات والاستخفاف حتى بالحاجات الضرورية وتغرس فيهم عدم الاكتراث بالحياة والاستسلام للواقع فهذه الدنيا في نظر فلسفة الصين والهند وبالذات الرؤية البوذية ليست مكاناً للسعادة ،وإنما هي شقاء متصل لذلك فإن اللجوء إلى الزهد والعزوف عن شهوات الدنيا والتخلي عن أطايب الحياة هو السبيل المتاح في نظرها لبلوغ السعادة .

    أما الفكر الفلسفي في اليونان فإنه يرفع شأن الحياة الإنسانية ويجعلها مركزا للوجود ويدعو إلى العناية بها وعدم التخلي عن أي شيء يرفع شأن الإنسان. لهذا الفلسفة بمعناها العقلاني هي إنجاز يوناني محض.

    'إن الفلسفة كما يكشف عنها التاريخ الأصلي للكلمة هي حب الحكمة وقد ينشأ هذا الحب  من رؤية تنبؤية شاملة أو قد يبرز من خلال تحليل نقدي منهجي فهي نوع من البصيرة أو الاستبصار للقضايا الأساسية التي تتطلب منا أولا أن نوضح تماما ما نسأل عنه"[1]، فهي فكر ونظر ترتبط بالإنسان كونه أرقى الكائنات وأوسعها قدرة على فهم الوجود،دفعه شغفه باستكشاف المجهول وحب الفضول إلى التأمل،ويعتبر القرن السادس قبل الميلاد بداية التفلسف مع الحضارة اليونانية، ففي المعجم الفلسفي لجميل صليبا :" لفظ الفلسفة مشتق من اليونانية وأصله "فيلا صوفيا" ومعناه محبة الحكمة.ويطلق هذا العلم بحقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح"[2].

    ويعرفها" لالاند" في معجمه الفلسفي: "الفلسفة معرفة عقلانية ،علم بالمعنى الأعم للكلمة.""وهي كل مجموعة دراسات أو اعتبارات تمثل درجة رفيعة من العمومية وتنزع إلى رد كل نظام معرفي أوكل المعرفة البشرية إلى عدد صغير من المبادئ الموجهة.وهي جملة الدراسات المتعلقة بالروح من حيث أنه يتميز من أغراضه ويتعارض مع الطبيعة.وهي دراسة نقدية فكرية لما تنظر فيه العلوم.وهي دراسة الفكر من حيث تميزه بميزة الأحكام القيمية"

    إن الفلسفة لا تفهم إلا في قلب التغيير الذي يحصل في المجتمع، بل هي صانعة للتغيير نفسه، أسست لمناهج علمية وقعدت لشروط الفهم القيمي والاخلاقي للكائن البشري، ولم تكن وصفتها نظرية خالصة كما يدعي خصومها، وإنما الإحساس بنشوة التفلسف لا يتأتى إلا بملامسة تفاصيل الحياة اليومية للإنسان، حيث تتغذى التجربة الفلسفية على ممكنات الصراع الواقع الاجتماعي ، وتتجاوز ذلك إلى طرح أسئلة مرتبطة بأشكال التعاطي مع منطق المجتمع وتحولاته الكبرى؛ تحولات تخلق تحد على مستوى المعايير والرموز، وتصنع لغطا فيما يخص الخطاب المنتج للمعاني الحقيقية القادرة على مواجهة عمق الأزمة التي تقلق الإنسان وتولد لديه الشعور بالجمود والعطالة.

     

    تتدخل الفلسفة في الواقع الاجتماعي وفق ثالث لحظات: أولها الفهم، وثانيها النقد، وثالثها المساهمة في التصحيح بوضع تصورات للحل.

     

    أوال: فهم الواقع حيث تطرح مشكلات الواقع على مستوى كبير من التعقيد لا يستطيع إدراكه إلا الفيلسوف، حيث يعتبر أي تبسيط للمشكلات إلى زيادة في التعقيد والخلط. حيث قد تختلط العوامل األاخلاقية والسياسية والاجتماعية في مشكلة ما، فلن يستطيع إلا الفيلسوف تحليل هذا المشكل ومعرفة أسبابه الحقيقية التي قد تكون مجتمعة بين مختلف العوامل. وهو ما يعجز عنه العالم بحكم التخصص الذي يحمله والذي يمنعه من النظر إلى المشكل في كليته.

     

    ثانيا: نقد هذا الواقع، انطلاقا من مناهجها التأملية والتحليلية، والمقارنة فإنها تدرك مكامن الخلل، وأسباب الوقوع فيه. كما أن استنادها على خلفية نظرية معرفية تمدها بالقدرة على إجراء مقارنات بين ما هو واقع وما يجب أن يكون، كما أن منهج التحليل يمدها بالقدرة على فهم المشكلات في جزئياتها وفي دقتها وبساطتها.

    ثالثا: النظر في مختلف االاحتمالات الممكنة، إذ أي مشكل يطرح جملة من الممكنات، وانطلاقا منها يضع الفيلسوف تصوره لتجاوز المشكلات، والواقع التاريخي يذكر لنا بأنه في كل الأزمات التي حدثت، تبرز تصورات عظيمة لتجاوز النكسات أو المشكلات، وقد يظهر أكثر من تصور، لاكثر من فيلسوف. وهو ما حدث مثال في بريطانيا، فلتجاوز مشكلات الصراع بين القصر والنبلاء والشعب، ظهرت جملة من التصورات لفض النزاع. حيث انتصر أحدها للملك، وآخر للشعب وهكذا، كان ذلك مع هوبز ولوك.

     

    ويورد لنا المفكر عماد الدين إبراهيم كيف تدخلت الفلسفة في بعض الفترات من تاريخ الإنسانية في تجاوز المشكلات والأزمات الاجتماعية والفكرية والسياسية، وحتى الدينية.

     

    ففي العصر اليوناني لعب سقراط دورًا هامًا في تغيير المجتمع وأفكاره ومعتقداته، وحرك المياه الراكدة في المجتمع الأثيني وأحدث ثورة فكرية وتنويرية من خلال أرائه الفلسفية.

     

    كذلك " أفلاطون " في محاورته الشهيرة " الجمهورية " كانت أرائه الفلسفية بمثابة قوة الدفع في تغيير كثير من الآراء السياسية والاجتماعية، أما إذا رجعنا إلى العصر الوسيط اإلاسلامي نجد الفيلسوف الكندي من خالل رسائله إلى المعتصم وكيف كان لها التأثير البالغ في توجيه نظر المعتصم لما يصلح أحوال البلاد والعباد.

     

    كذلك في العصر الوسيط الأوروبي نجد " ميكيافيلي " في كتابه الشهير " الأمير " الذي لعب دوراً هاماً في تغيير الأفكار السياسية والحياة الاجتماعية في إيطاليا في ذلك الوقت.

     

    أما في العصر الحديث فإننا نرى أراء وأفكار " فولتير، روسو، مونتسيكيو " كانت بمثابة الإرهاصات الأولى للثورة الفرنسية بمبادئها في الحرية، الإخاء والمساواة، كما أن أفكار " كانط، هيجل " في ألمانيا كانت السبب الأساسي الذي أوحى إلى " بسمارك " بتوحيد ألمانيا، أيضا أفكار " وليام جيمس، جون ديوي" في أمريكا صبغت المجتمع الأمريكي بالصبغة العملية النفعية " البرجماتية"

     

    من هنا نرى أن للفلسفة دورا هاما في تغيير حياة الشعوب. فالفيلسوف لا يسكن برج عاجي، بل يختلط بالمجتمع ويعيش هموم ومشاكل عصره.